الانفصام الدعوي (2 /5).. مع النفس

الخطاب الدعوي المعاصر.. آمال وآفاق

د. عبد الرحمن البر

لقد كثرت منن الله علينا {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا} [النحل: 18]، ومنها: منته text_to_speech_main-thumb2على الأمة باحتضانها لـ”المشروع الإسلامي”، وتجاوبها مع دعاة الصحوة الإسلامية، بعد تغيرات عظيمة دفعت الأمة لإعادة رسم خريطة اهتماماتها وعلاقاتها الداخلية والخارجية وفق منظومة القيم التي تميزها وتؤكد هويتها الإسلامية الأصيلة؛ مما جعل الحاجة ماسة إلى أن يراجع الدعاة بين الحين والآخر خطابهم الدعوي شكلا ومضمونا؛ حتى يؤتي أكله بإذن ربه.

وفيما يلي عشر من السمات التي أرى أنها يجب أن تتوفر في الخطاب الدعوي؛ لكي يحقق الأهداف المرجوة:

1-  ضبط المرجعية للخطاب الدعوي بأن يكون قائما على العلم الشرعي، ومنطلقا من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، ومستخدما لتعبيراتهما ما أمكن، ومتخلقا بآدابهما على الدوام، مستمسكا بالتوجيه الحكيم {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125].

2-  وضوح الخطاب وبساطته وعدم تعقيده أو التقعر في عباراته وألفاظه، كما هو شأن القرآن العظيم {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} [القمر: 17]. وكما كان شأنه صلى الله عليه وسلم في خطابه الذي وصفته عائشة -رضي الله عنها- فيما رواه أبو داود قالت: “كان كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كلاما فصلا يفهمه كل من سمعه”.

3-  شمولية الخطاب وتنوعه ليصل إلى جميع الناس، أطفالا وكبارا، ورجالا ونساء، مثقفين وعوام، وطلبة علم وعلماء، شاملا في القضايا والموضوعات التي يطرحها، وفي المدعوين والمخاطبين الذين يتوجه إليهم مهما كانت خلفياتهم الفكرية وانتماءاتهم السياسية.

4-  واقعية الخطاب وملامسته لحاجات الناس ومراعاته للزمان والمكان، وفي هذا الصدد يقول ابن القيم -رحمه الله- في (إعلام الموقعين): “لا يتمكن المفتي ولا الحاكم (يعني القاضي) من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم: أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه… والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر… فالعالم من يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله… ومن سلك غير هذا أضاع على الناس حقوقهم، ونسبه إلى الشريعة التي بعث الله بها رسوله”.

5-  إيجابية الخطاب وبناؤه على حسن الظن بالناس، وتغليب الأمل والتفاؤل والرجاء على التيئيس وسوء الظن، وتجنب الحكم على الناس بالضلال والكفر وتضخيم أخطائهم، والحرص والإصرار على متابعة الدعوة والصبر على المدعوين واستمرار المحاولة في تصحيح مفاهيمهم وإن لم يستجيبوا، وفي صحيح مسلم عن أبي موسى، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث أحدا من أصحابه في بعض أمره، قال: “بشِّروا ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا”.

6-  تقدير ظروف المدعوين وأحوالهم والتدرج معهم في طريق الالتزام بأحكام الدين، وقد روى البخاري في صحيحه عن عائشة قالت: “إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيءٍ: لا تشربوا الخمر؛ لقالوا: لا ندع الخمر أبدا، ولو نزل: لا تزنوا؛ لقالوا: لا ندع الزنا أبدا”.

إن الفساد لم يقع في حياة الناس فجأة، وإنما تراكمت ممارساته على مر السنين حتى استحكم؛ ولذلك فهو يحتاج لحكمة في مقارعته.

ولله در عمر بن عبد العزيز الذي قال: “إني أعالج أمرا لا يعين عليه إلا الله، قد فني عليه الكبير، وكبر عليه الصغير، وفصح عليه الأعجمي، وهاجر عليه الأعرابي، حتى حسبوه دينا لا يرون الحق غيره”.

ومن مواقفه الرائعة في ذلك: ما رواه أبو نعيم في حلية الأولياء وطبقات الأصفياء: أن ابنه عبد الملك قال له: ما يمنعك أن تنفذ لرأيك في هذا الأمر، فوالله ما كنت أبالي أن تغلي بي وبك القدور في إنفاذ هذا الأمر.

فقال عمر: “إني أروض الناس رياضة الصعب، فإن أبقاني الله مضيت لرأيي، وإن عجلت علي منية فقد علم الله نيتي، إني أخاف إن بادهت الناس بالتي تقول أن يلجئوني إلى السيف، ولا خير في خيرٍ لا يجيء إلا بالسيف”.

7-  مراعاة الأولويات في الخطاب، فهذا أصل أصيل في فقه الدعوة إلى الله، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصي الدعاة بهذا الأسلوب في الدعوة؛ فروى البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ بن جبلٍ حين بعثه إلى اليمن:

“إنك ستأتي قوما من أهل الكتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإن هم طاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلواتٍ في كل يومٍ وليلةٍ، فإن هم طاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم طاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينه وبين الله حجاب”.

وما أروع ما قاله الإمام الشاطبي -رحمه الله تعالى- في الموافقات في هذا المعنى: “وقد أخبر مالك عن نفسه أن عنده أحاديث وعلما ما تكلم فيها ولا حدث بها، وكان يكره الكلام فيما ليس تحته عمل، وأخبر عمن تقدمه أنهم كانوا يكرهون ذلك، فتنبه لهذا المعنى. وضابطه: أنك تعرض مسألتك على الشريعة، فإن صحت في ميزانها، فانظر في مآلها بالنسبة إلى حال الزمان وأهله، فإن لم يؤد ذكرها إلى مفسدةٍ، فاعرضها في ذهنك على العقول، فإن قبلتها، فلك أن تتكلم فيها إما على العموم إن كانت مما تقبلها العقول على العموم، وإما على الخصوص إن كانت غير لائقةٍ بالعموم، وإن لم يكن لمسألتك هذا المساغ، فالسكوت عنها هو الجاري على وفق المصلحة الشرعية والعقلية”.

8-  الرفق والرحمة واللين في الخطاب، حتى مع المسيئين، وهذا ما علمنا إياه القرآن في قوله تعالى لموسى وهارون لما أرسلهما إلى فرعون الذي طغى {فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44]، وفي قوله تعالى لرسولنا الكريم: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159].

ومن النماذج الرائعة في هذا الباب: ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الرجل الذي بال في المسجد، فهم الناس أن ينالوا منه، فقال لهم: “دعوه وأهريقوا على بوله دلوا من ماءٍ؛ فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين”.

والداعية يجب أن يمثل القدوة في التزامه بهذا الخلق الكريم؛ حتى يكون لخطابه الدعوي استجابة فعلية وأثر بليغ في نفوس المدعوين وفي حياتهم، وحتى في حالة إساءة البعض للداعية فإنه يجب ألا يستفزه ذلك للرد على الإساءة بإساءة، بل إن دستور الداعية في ذلك ما دعا إليه القرآن في قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 33، 34].

9-  تفعيل النقد الذاتي والقبول التام بالتقييم والمراجعة المستمرة للأخطاء، فالمراجعة في الفعل البشري أمر شرعي، كان النبي صلى الله عليه وسلم يربي عليها أصحابه، ويقول -كما في صحيح البخاري-: «والله، إن شاء الله، لا أحلف على يمينٍ، فأرى غيرها خيرا منها، إلا أتيت الذي هو خير، وتحللتها». هذا نوع من المراجعة للوصول إلى ما هو خير وأفضل، وهو توجيه للدعاة للإقرار بأوجه القصور في الخطاب الدعوي بكل صراحة وشفافية، والحرص على معالجة هذا القصور بكل أمانة وصدق.

10-        الالتزام بضوابط الحوار الشرعية في الخطاب الدعوي؛ من خلال الإخلاص في البحث عن الحقيقة، والاهتمام بالموضوعية، والتواضع، والالتزام بأدب الخطاب، والسماع بعناية لوجهة النظر الأخرى، والتحديد الدقيق للمشكلة المطروحة للحوار، وقبول الحجة المنطقية، والبعد عن التعميمات في الحكم، وإجراء الحوار بحسن نية، والصبر على الرد على وجهات النظر المقابلة، والالتزام بالضوابط التسع السابقة.

أسأل الله التوفيق لما يحبه ويرضاه.

المصدر: موقع على بصيرة (بتصرف يسير).

مواضيع ذات صلة