الانفصام الدعوي (2 /5).. مع النفس

حول أخلاقياتنا الرمضانية

د. حازم علي ماهر

يتفرد شهر رمضان، أو يكاد، بنمط أخلاقي معين يظهر في سلوك كثير من الصائمين، حيث تتشكل في الكثير منهم ما نستطيع تسميته “بالحزمة الأخلاقية الرمضانية” والتي تتسم بسمات عدة، منها الإيجابي، ومنها السلبيـة، حيث تتميز إيجابياتها عن سلبياتها بمدى توافقها مع الغاية من فرض صيام رمضان من عدمه.

وقبل استعراض بعض هذه الأخلاقيات ينبغي أولا التذكير بالغاية من فرض صيام هذا الشهر الكريم، والتي حسمها الله تعالى بوضوح في كتابه الكريم حين أخبرنا بأن تحلينا بالتقوى هو الغاية من فرض الصوم، وذلك في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].

******

ورغم تحديد الغاية من صوم رمضان بنص قطعي الثبوت والدلالة إلا أن تعاملنا مع الشهر الكريم ذهب إلى منحى مخالف تمامًا، حَوَّل رمضان نفسه إلى غاية في حد ذاته، يستعد لها بعضنا بتجهيز أكبر قدر من المشهيات والمقبلات، من طعام وشراب وبرنامج للاستمتاع بالمسلسلات وبرامج الفضائيات، ولا مانع من ملء تويتر والفيس بوك وغيرهما من وسائل التواصل الاجتماعي بالمنشورات المؤكدة على تسامحنا وعفونا عمن ظلمونا، مع التماس –راقٍ ورقيق- بالعفو ممن ظلمناهم!

سنعزم –بالطبع- وفق ما تمليه علينا (طقوس) رمضان على التركيز على عدم تفويت صلاة التراويح، وعلى ختم القرآن تلاوة على الأقل مرة واحدة في هذا الشهر الكريم الذي فيه ليلة بألف شهر، سنسهر فيها في المسجد صلاة وذكرًا ودعاءً عسى أن يغفر الله لنا، كما سنمتنع في هذا الشهر (الغاية) عن بعض ما نرتكبه من ذنوب وكبائر في غيره، ونتحامل على أنفسنا خلاله بفعل ما لا نفعله في غيره، من معاملات حسنة مع الله ومع الناس ومن صبر على هذا (الحرمان الكبير) عن بعض المباحات، ناهيك عما ألفناه من منهيات، وليسامحنا الله على فلتات ألسنتنا وشجاراتنا الرمضانية نتيجة الجوع والعطش وسهر الليالي أمام التلفاز، خصوصا لو سهرنا لأداء صلاة الفجر، كما أننا نرجو مسامحته على التقصير في عملنا وتأجيل المهم منه إلى ما بعد رمضان، فإننا سنكون متعبين نائمين، وصائمين عن الجد والاجتهاد، وغارقين في الكسل والخمول رغمًا عنّا!

****

هذه الدورة الأخلاقية الرمضانية تتكرر في كل عام، من دون توقف ولا تأمل، حتى إذا جاء العيد عدنا إلى حيث كنا بشوق ولهفة، مع ترشيد تناولنا الطعام –إلى حد ما- مرة أخرى، فلا داعي لهذا الإسراف المبالغ فيه، باستثناء مشاهدة ما فاتنا مرغمين من مسلسلات رمضانية (الحمد لله على نعمة اليوتيوب) كما أننا لن ننسى أبدًا إساءات المسيئين لنا قبل رمضان حيث سنستمر في مقاطعتهم، ولا مانع من الانتقام منهم إذا سنحت الفرصة، بعد أن منعنا عن ذلك (الحياء الرمضاني)!

وهكذا نُضيع الغاية الحقيقية من فرض صيام شهر رمضان، وهي التدريب على طاعة الله عز وجل فيما يأمر، لاسيما العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، والانتهاء عما نهى، وخصوصا الفحشاء والمنكر والبغي، بعد ما فعلنا ما هو أصعب، حين امتنعنا عن بعض الحلال لبعض الوقت، وزدنا من النوافل والطاعات والدعوات والصدقات غير المفروضة علينا، فإذا بنا لم نعتد على ذلك ولم ينصلح حالنا، فعدنا إلى هجران القرآن –تلاوة وتدبرًا- كحالنا قبل رمضان، وإذا بالغش كما هو، وقطع الأرحام مستمر، وخذلان المظلومين على حاله، ونصرة الظالمين -ولو بالصمت والتغاضي- هو نفسه، والعنصرية كما هي، والتفرق كما هو، “وإذا الدنيا كما نعرفها، وإذا الأحباب كل في طريق” كما يقول الشاعر الكبير إبراهيم ناجي في قصيدته المبدعة “الأطلال”

فما سر هذا النكوص، وتلك الردة الكبرى التي لا حد لها ولا قصاص؟

إنه خلل الفكرة وانعدام التفكر، تلك هي المسألة، أننا فهمنا رمضان بشكل خطأ ولم نتمهل في تدبر مقاصد صيامه وقيامه، بل تعجلنا كالعادة، وتعاملنا معه بسطحية منقطعة النظير، حتى أننا نظل ندعو الله أن يبلغنا رمضان، ثم حين يستجيب لدعائنا، نقضيه على غير ما أراد سبحانه، إلا قليلا.

****

إن إصلاح فكرتنا عن رمضان وإدراك الحكمة من صيامه، هي نقطة البدء في علاج أخلاقياتنا الرمضانية وعاداتنا، فلنفهمه أولا على أنه وسيلة لا غاية، وأنه جُعِلَ تمرينًا على التحلي الدائم، طوال العام، بالتقوى والإخلاص والرحمة والاجتهاد وترويض بالنفس، والتخلي عن الفجور والرياء والكسل والقسوة وعبادة الشهوات، وحينها فإن حالنا نفسه سينصلح بشيء من العزم والإرادة وحسن التخطيط.

فإذا فهمنا أسرار الصيام (المعلنة) فقد نقلل من طعامنا، وننظم أوقاتنا، ونهجر الملهيات عن ذكر الله، ونستثمر الشهر الكريم في تحدي سطوة النفس، بأن نزيد من وتيرة عملنا –كما وكيفًا- ونسامح بصدق، ونتصدق بأوقاتنا وبأموالنا بكرم لا ينتظر من أحد -إلا الله- جزاءً أو شكورًا، ونكظم غيظنا ونزداد حلمًا، ويكون التحدي الأكبر أمامنا أن نستمر بأخلاقياتنا الرمضانية طوال العام، فإن ربَّ رمضان هو نفسه رب العام كله، سبحانه.

فليضع كل منا خطته لهذا الأيام المباركة التي يحاول أن يروض نفسه فيها على التخلص من آفات نفسه، ومن عللها الدفينة، فيحدد أهدافًا يمكن قياسها ويستطيع تحقيقها لإصلاح نفسه في رمضان، بحيث يكون الأول من شوال ليس موعدًا لنكث الأيمان مع الله {كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا} [النحل: 92] بل هو الموعد الذي سنكتشف فيه أننا تغيرنا بحق، حين نلمس مواظبتنا على صلاة الفجر في جماعة، والتزامنا بورد قرآني يومي، وأن قيادة أنفسنا باتت للعقل والضمير، لا للشهوات والشبهات، وأننا لم نعد نأكل إلا حين نجوع، وإذا أكلنا لا نشبع، وأن كلمة “إني امرؤ صائم” علمتنا الحلم فصرنا أقدر على كبح جماح غضبنا ولو كان مستحقًا، وأن الفقراء باتوا بأعيننا (لا تحت أحذيتنا) وأن هذه النعرة وذلك الاستكبار اللذين كنا ننظر بهما إلى من هم دوننا تحولت إلى لين جانب وخفض جناح للناس الذين خلقهم الله سواسية كأسنان المشط، من نفس واحدة فهل من صائم بحق، قائم بصدق، يخرج من رمضان عبدًا تقيًا نقيًا بريئًا كيوم ولدته أمه؟

(ينشر بالتعاون مع موقع الباحث عن الحقيقة).

 

مواضيع ذات صلة