الانفصام الدعوي (2 /5).. مع النفس

دور الدعاة في الأمن الفكري

محمد الحبر يوسف

الأخطار الفكرية التي تتعرض لها أمتنا لا تقلّ ضراوة عن خطر الجيوش الغازية، والمقاومةُ ضرورةٌ للدفاع عن أصالة الأمة، يواكبه الانفتاح المبصر الذي يحقق لها التواصل مع الآخرين

الدعاة صمام أمان للأمن الفكري

الدعاة صمام أمان للأمن الفكري

أخذا وعطاء.

والنقاط التالية تمثل منطلقاتٍ أساسية في دور الدعاة لمعالجة هموم الأمن الفكري لأمتنا:

 المنطلق الأول: تعزيز الشعور بالاجتباء.

 المنطلق الثاني: دفع آفات الفكر بالحجة والبرهان.

 المنطلق الثالث: التأسيس لمرجعيات موثوقة.

وأعني بهذا أنّ الأمة المسلمة أمة لها خصائص تميزها، وسمات تفردها عن غيرها من الأمم، فهي الأمة الوحيدة التي تستطيع أن تزعم أنّها تمتلك مصدرا معرفيا معصوما يتمثّل في الوحي الذي “لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد”، وهي الأمة الوحيدة التي تستطيع أن تبرهن أنّ دينها كان سببا مباشرا في نهضتها وتماسكها، ولم يكن عائقا أمام انطلاقتها كما كانت الأديان المحرفة الأخرى، وأخيرا فإنّ أمتنا هي الأمة الوحيدة التي تزعم أنّها تملك إجابات واضحة عن التساؤلات الكبرى التي حيّرت العقل الإنساني.

هذه الأسباب الثلاثة، ويوجد غيرها، تجعل من الأمة المسلمة أمةً ذات كيان خاص ونمطٍ فريد، ومن هنا كان تعزيز الشعور بالاجتباء والاصطفاء أمرا مهما في حياة المسلم قال تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمْ الرَّاشِدُونَ} ( الحجرات: 7). وقال تعالي: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (آل عمران: 139).

 إن تعزيز الشعور بالاجتباء، من شأنه أن يحرر الأمّة من فتنة الركون إلى أهواء العصر، والرضا بمرجعية أخرى غير مرجعية الإسلام. ومعلومٌ أن العقل المسلم منذ أن ابتليَ بانتصار الحضارة الغربية، وجد نفسه في محنةٍ عظيمة، ومواجهة سافرة مع حضارة فتية مقبلة، جعلت فريقا من المسلمين ينهزمون أمام تيارها الجارف، وينادون بتقليدها في حلوها ومرها، وما يحمد منها وما يعاب؛ لأنه كما صرّح بعضهم “لولا الغرب ورجاله ومفكروه لتعرت حياتنا الفكرية على حقيقتها، فإذا هي حياة لا تختلف كثيرا عن حياة الإنسان البدائي في بعض مراحلها الأولى”.

مواءمة بين الإسلام ونظم الحياة

وذهب فريق آخر ممن صدمته الحضارة المعاصرة إلى سلوك طريق أقلّ حدة وغلوا وهو العمل على المواءمة بين الإسلام ونظم الحياة الغربية المعاصرة، وأصبح الهمّ الكبير الذي يدندن حوله هؤلاء هو إثبات أنّ الإسلام قابل لأن يتعايش مع قيم الحضارة الغربية دون أن يتناقض معها؛ ذلك لأن المبادئ التي تقوم على أساسها الديمقراطية الغربية، وقيم حقوق الإنسان والمرأة والطفل يمكن أن تكون إطارا جامعا بين الغرب والإسلام، لأنّها في حقيقتها مبادئ إنسانية عامة لا تتعارض مع روح الشريعة الإسلامية ومقاصدها.

 والمشكلة التي واجهت هذا التيار، الذي يدعو إلى المواءمة مع الغرب ونظمه أنّه -مع مرور الأيام- وجد عقله حائرا بين مرجعيتين، فإما أن ينتصر للإسلام بكل ما فيه من عقيدة وتشريع وأخلاق، وإمّا أن يرضى بالغرب مرجعا له في حياته الثقافية والاجتماعية، ولا يوجد طريق ثالث بين هذين.

هذه الحيرة جعلت رموز هذا التيار تأتي إلينا بالغرائب في كل مرة، لأنها تحاول أن تلفق بين المتقابلات حتى تصوغ منها فكرة منسجمة، ولذلك لا عجب أن يظهر من بين كُتابنا من ينادي بـ (العلمانية المؤمنة)، ومن يدعو صراحةً إلى (تفكيك الإسلام) وذلك بإحداث خروق اجتهادية في منظومة الإسلام العقدية والفقهية، تخالف ما أجمعت عليه الأمة طوال تجربتها التاريخية، انتصارا لقيم الحداثة الغربية ومرجعيتها الحاكمة، فحتى نقر قيمة المساواة بين الذكر والأنثى لابد من السماح للمرأة المسلمة بإمامة الرجال في الصلاة، على نحو ما فعلت الحداثية أمينة ودود، ولا بد من إجراء مراجعات فقهية لأحكام المواريث في الإسلام، تساوي بين الذكر والأنثى في جميع صور الميراث؛ لأن الأحكام الفقهية المتعلقة بشؤون المعاش قابلة كلها للتغيير والتعديل وفق ما تقتضيه ظروف العصر والمكان، يقول د. منصور خالد، الذي أقحم نفسه في قضايا الاجتهاد الإسلامي “من الواضح أنّ الفقهاء المجتهدين قد التزموا التزاما صارما بما ورد في الكتاب حول حقوق المرأة في سورة النساء، بيد أن تلك الآيات لا تفهم إلا في سياقها التاريخي حيث تنزلت بعد هزيمة المسلمين واستشهاد عدد كبير منهم، مما اقتضى تقنينا جديدا للطلاق والميراث”.

 إنّ الخلاصة النهائية التي يمكن أن ينتهي إليها هذا النوع من التفكير -وهو في حقيقته تفكير قاصر ومقلّد ومعترض عليه- أن نجعل من الإسلام دينا محكوما بقِيم الحداثة الغربية، تابعا لمقرراتِها تبعية المفضول للفاضل.

ملاحظات ثلاث

وهناك ملاحظات ثلاث لا بد من إثباتها هنا، ونحن نتحدث عن وجوب تعزيز الشعور بالاجتباء، لمواجهة المخاطر الفكرية الوافدة أو الأصيلة.

الملاحظة الأولى: حول ظاهرة المثقف المسلم الذي رضي لنفسه أن يكون تابعا للمثقف الغربي يردد أقواله، ويلتقِط مفاهيمه، دون أن يكلف نفسه عناء الإبداع والنقد لها، بل لا نُبعد النُجْعة إن ذهبنا إلى أن المثقف الذي ينتمي إلى دار الإسلام كان -دون أن نعمم القول- ممن وطأ الأكناف لظاهرة الاستلاب الثقافي، وتكريس التبعية العمياء للغرب. أليس من المفارقات التي يطول منها العجب أن يكون المثقفون في كل أمةٍ هم عقلها المفكر، وطليعتها المدافعة عنها وعن تاريخها ورجالها، يحملون هموم أمتهم، حال كونهم كتابا أو فلاسفة أو شعراء أو فنانين، ويتصدون جميعا لكل خطر يهدد وجودهم المعنوي أو الماديً، بينما أهل الثقافة فينا لا اشتغال لهم بأصول قضايانا، وكأنهم ليسوا منا في شيء.

الموقف من التراث

 الملاحظة الثانية: حول الموقف الصحيح من التراث، وهناك سؤال ما زال بعض كتّابنا يطرحه ويدندن حوله وهو: ماذا نأخذ من التراث؟ وما الذي يجب أن نستدعيه منه؟ وهذا السؤال يبدو عند التحقيق منتكسا، لأنّه يفيد ضمنا أن التراث الذي نتحدث عنه هو تراث منفصل عنّا ولا يمت إلينا بصلة، لقد غاب السؤال الصحيح الذي كان مطروحا فيما مضى “ما الذي نأخذه من الوافد؟” ليحل محلّه السؤال عن التراث وما آل إلى مجتمعنا الراهن من قيم وأفكار وعادات وأخلاق وآداب!.

والحقيقة أن التراث بالنسبة لنا أمر هوية وانتماء، وموقفنا منه يجب أن يكون موقف الذي يستظل بظله، ويقف على أرضه، ويتقيد بأصوله وكلياته، ثم يجتهد بعد ذلك في تصويبه وتصحيحه ولكن من داخله وبأدواته، هذا هو الموقف الإجمالي الصحيح من التراث.

وأحسب أن من القواعد الحسنة التي أبدعها المفكر المغربي الفيلسوف طه عبد الرحمن قاعدتين منهجيتين تحددان الموقف من التراث المأصول، ومن الوافد المنقول؛ أولاهما صيغتها كالآتي: “كل أمر منقول معترض عليه، حتى تثبت بالدليل صحته”، وهذه القاعدة توجب أن يكون النقد للمنقول هو مطالبته بالأدلة التي تثبت صحته، ثم التعرض لها بالطرق الاستدلالية المشروعة، وذلك من أجل اختبار فائدتها في إثبات المنقول.

القاعدة المنهجية الثانية “كل أمر مأصول مسلّمٌ به، حتى يثبت بالدليل فساده”، وتوجب هذه القاعدة الثانية أن يكون نقدنا للمأصول هو تعليق صحته بانتفاء الأدلة المبطلة، بحيث لا يقل استعدادنا لطلب هذه الأدلة، متى اقتضى الأمر، عن استعدادنا للمطالبة بالأدلة المثبتة لصحة المنقول.

 إن الصلة بالتراث لا تفيد التقليد، ولا توجب الانكفاء عليه، وتقديرنا لتراثنا الفكري لن يكون حائلا بيننا وبين أن نبدع ونطور مسترشدين بما تركه لنا السلف من علم نافع، نتخّير منه ما يكون أنسب لزماننا وعصرنا، دون أن نتجاوز ثابتا أو نضيق واسعا، أو نسيئ أدبا.

 وخلاصة القول: إن ما أبدعه العقل المسلم من علوم وثقافة بالنسبة لنا (كنز مرشد) علينا أن نتعامل معه بفكر مستنير، نسترشد ونهتدي بما فيه، ونعمل على حفظه حفاظا على ذاكرة الأمة، واستفادة بخبرات السلف، على النحو الذي يضيف أعمارهم إلى أعمارنا، وأما ما تجاوزه التطور من إبداع السلف فإننا نتجاوزه، معتزين به، واضعين إياه في متحف التاريخ الفكري، مادةً للعظة والعبرة الدين والتدين.

 الملاحظة الثالثة: ضرورة التفريق بين الدين والتدين؛ فالدين هو ما أنزله الله تعالى، وأرسل به رسله الكرام، وأمّا التدين فهو كسب الناس، وما يمارسونه من سلوك، وما يلتزمون به في حياتهم من قيم وأخلاق.

وعليه لا يجوز لنا ونحن نتحدث عن تعزيز الشعور بالاجتباء أن نخلط بين الدين المنزل والممارسة التاريخية لصور التدين في مجتمعات المسلمين، حتى لا يظن الناس أن الدعوة إلى تعزيز الشعور بالاجتباء دعوة إلى تقليد واقع ديني معين في بلد معين، أو أنها دعوة للقطيعة مع المجتمعات التي نعيش فيها طمعا في استدعاء نماذج التاريخ الماضي.

ومن رحمة الله بنا أن الدين الذي أنزله الله سمح للمتدينين به أن يحدثوا في أمور دنياهم من النماذج والأشكال ما يعبرون به عن واقعهم الاجتماعي، بحسب أوطانهم وبيئاتهم، وجعل هذه الدائرة التي يسميها فقهاؤنا بدائرة العفو أو الفراغ التشريعي موكلة لظروف النّاس، ولم يتدخل في إبطال شيء منها، إلا أن يكون قائما على فساد، يقول الكاتب الإسلامي الكبير علال الفاسي: “ومن محاسن دين الإسلام أن له المرونة الكافية التي جعلته يتمشى مع سير الآلة النفسية للشعوب التي اعتنقته، وهكذا نجد في العالم الإسلامي تغايرا في طبائع الجماعات المسلمة وفقا لطبيعة الأرض التي تسكن بها، وأن ما يتراءى من هذا التغاير الملموس ينتهي في باطنه كله لهذا النموذج النفسي الإسلامي”.

——–

المصدر: مجلة المجتمع الكويتية (بتصرف يسير).

مواضيع ذات صلة