الانفصام الدعوي (2 /5).. مع النفس

صفات الداعية المتصدر للدعوة الفردية وأخلاقه

د. السيد نوح

صفات الداعية المتصدر للدعوة الفردية ضرورية؛  فلا بد أن تتوافر فيه صفات أو أخلاق، أهمها:

من صفات المتصدر للدعوة الفردية

من صفات الداعية الإخلاص لله تعالى وحسن عبادته

1- الأسوة والقدوة:

ومعنى الأسوة والقدوة أن يكون الداعية صورة صحيحة وصادقة لكل ما يدعو إليه، ويريد غرسه في المدعو؛ بل أن يكون فعله أو سلوكه قبل قوله أو كلامه؛ نظرا لأن التأثير بالسلوك أو بالفعل يسبق التأثير بالقول أو بالكلام، وما نجح المرسلون -وعلى رأسهم محمد صلى الله عليه وسلم- وكذلك ما نجح المسلمون الأوائل في التأثير في الناس إلا بهذا الخلق؛ أي خلق الأسوة والقدوة.

وحسبنا أن من أسباب إسلام هند بنت عتبة تأثرها الشديد بعبودية المسلمين لله يوم الفتح؛ إذ قالت: “إني أريد أن أبايع محمدا”، فقال لها أخوها حذيفة بن عتبة: “قد رأيتك تكفرين”، قالت: “إي والله، والله ما رأيت الله تعالى عبد حق عبادته في هذا المسجد قبل الليلة، والله ما باتوا إلا مصلين قياما، وركوعا، وسجودا”.

2- الإخلاص:

ومعناه: أن يقصد الداعية بكل ما يصدر منه من قول أو فعل وجه الله، وابتغاء مرضاته، وحسن مثوبته من غير نظر إلى مغنم أو مظهر أو جاه أو لقب أو تقدم أو تأخر، واضعا هذه الآية نصب عينيه {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ} (الأنعام: 162، 163).

إن هذا الخلق إن توفر في الداعية حمله على بذل كل ما في طاقته، وكل ما في وسعه في الدعوة إلى الله، وكان سببا في عون الله وتأييده وتوفيقه ونصره؛ فيكون النجاح والفلاح.

وفي سير الأنبياء والمرسلين وورثتهم على مدار الزمان كله ما يقطع بأهمية هذا الخلق في حياة الدعاة إلى الله ونجاحهم في كل منا يقصدون.

3- الصبر:

معناه: أن يوطن الداعية نفسه على تحمل كل ما يصيبه من أذى في ذات الله، ويصبر ويحتسب لأنه يدعو إلى الانخلاع عن أخلاق وعادات وأعراف وتقاليد تأصلت في الناس، حتى صارت كأنها جزء من حياتهم، وما أنزل الله بها من سلطان، وهذا يؤدي إلى معارضة شديدة، وعليه فما لم يكن الداعية قد وطن نفسه على التحمل والصبر والاحتساب فإنه سيتعب وييأس بسرعة، وبالتالي يكون الفشل وعدم النجاح.

وحسبنا تكرار مادة (الصبر) في القرآن أكثر من سبعين مرة، وحسبنا دورانه مع كل الأنبياء والمرسلين {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ} (الأحقاف: 35).

وحسبنا وصية لقمان لولده: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} (لقمان: 17)، ووصية عمير بن حبيب بين حباشة الصحابي الجليل لولده إذ يقول: “إذا أراد أحدكم أن يأمر بالمعروف أو ينهى عن المنكر فليوطن نفسه قبل ذلك على الأذى، وليوقن بالثواب؛ فإنه من يوقن بالثواب من الله تعالى لا يجد مس الأذى”.

4- الأمل والثقة في الله:

معناه: ألا يفقد الداعية الرجاء من أحد يدعوه؛ فكل إنسان لا يخلو من الخير، والداعية الموفق هو الذي يهدى إلى مفتاح هذا الخير، فيفتح به ويدخل، وحسبنا أن الناس كانوا يقولون عن عمر: “إنه لا يسلم حتى يسلم حمار الخطاب”، ومع هذا هداه الله وأسلم، وأعز الله بإسلامه الإسلام والمسلمين، وفائدة هذا الخلق أنه يحمل صاحبه على المضي في الطريق، وعدم التوقف، وهو كذلك يحمل على قدح الذهن لابتكار وسيلة، إن لم تجد وسيلة سابقة؛ فالحاجة -كما يقال- تفتق الحيلة، والحاجة أم الاختراع.

5- الفهم العميق:

معناه: أن يكون الداعية على دراية بإسلامه، وبمهمته في الحياة، وبأي المدعوين يبدأ، وأيهم يؤخر، وبالظروف المحيطة بمن يدعوه، وبأفضل السبل أو الأساليب لتوصيل الدعوة إليه. وصدق الله العظيم: {قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (يوسف: 108).

6- التضحية:

معناه: أن يجود الداعية بكل ما يملك من نفس ووقت وعلم ومال؛ حتى يحوز ثقة المدعوين من ناحية، وحتى يؤثر فيهم بسرعة من ناحية أخرى، وحسبنا تضحية النبي -صلى الله عليه وسلم- بكل شيء، حتى كتب الله لدعوته النجاح والخلود، وكذلك سائر المسلمين المجاهدين إلى يومنا هذا.

7- توقع الإخفاق أو الفشل:

معناه: أن يوغل في المدعوين برفق، واضعا في تقديره دائما أنه ليس من المأمول أن يستجيب كل هؤلاء المدعوين لدعوته؛ حتى لا يصاب بالإحباط أو خيبة الأمل؛ فإن حدث أن استجاب الجميع فذلك فضل الله تعالى ومنته، ولله الأمر من قبل ومن بعد؛ فقد قال –صلى الله عليه وسلم-: “إن قلوب بني أدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن، كقلب واحد يصرفه كيف يشاء” (أخرجه مسلم في الصحيح كتاب القدر باب تصريف الله تعالي القلوب كيف شاء)، وقال تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء} (القصص: 56).

8- العمل مع أكثر من شخص:

ومعناه: ألا يستهلك الداعية وقته وجهده مع شخص واحد أو إنسان بعينه رغبة في جذبه للدعوة، فيقابله كثيرا، ويلح عليه طويلا، ويشغل نفسه به دوما؛ بله عليه أن يجعل عمله مع أكثر من شخص؛ فإن أخفق مع واحد نجح مع غيره؛ لأن العمل مع شخص واحد مع محاولة الضغط عليه ومحاصرته أمر يثير في نفسه الشكوك والظنون، وقد ينفره، وتكون النتيجة عكسية إلا من رحم الله.

9- التأني والــتروي وعدم الاستعجال:

ومعنــاه: أن يكون الداعية طويل النفس مع المدعو حتى يسبر غوره تماما، وحــتى ينضجه على نار هادئة كما يقولون؛ فليست العبرة بالكم بقدر ما هي بالنوعية والكيف، ولو أنك قدمت إلى دعوتك أخا جديدا في كل عام بما يسمى بمشروع “الأخ الواحد” لكان هذا أمارة النجاح، وحسبك أنك ماض في طريقك لم تتوقف، وأن الأجر لم يخطئك، وأنك لم تحرم الثواب.

من صفات الداعية الأخرى

10- الذكاء والفطنة:

ومعناه: أن يكون الداعية لماحا، تغنيه الإشارة عن العبارة، والتلويح عن التصريح كي يتمكن من تنفيذ خطته مع المدعو بدقة ومهارة، وكي يستشف كل ما عنده دون أن يدري ودون أن يشك أو يرتاب، وكذلك حتى يتمكن من مواجهة المواقف المباغتة والمفاجئة، دون أن تنكشف خطته معه؛ فيكون الفشل والابتعــاد.

11- الرفق واللين:

ومعناه: رقة الطبع ودماثة الخلق، ولين الجانب؛ فلا فظاظة ولا خشونة ولا عنف، قال تعالى في وصيته لموسى لما أرسلهما إلى فرعون: {فَقُولا لَهُ قَوْلا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (طه: 44)، ثم شرح هذا القول اللين فقال: {فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} (النازعات: 18، 19).

وقال تعالى عن فضله على نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- بما كفل له النجاح في دعوته: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (آل عمران: 159).

وقد حفلت دواوين الحديث والسنة والسيرة النبوية بالنماذج الحية الناطقة برفقه ولينه -صلى الله عليه وسلم- في دعوته؛ الأمر الذي أدى إلى فتح مغاليق القلوب، وكسب ثقة الناس ومودتهم، أو على الأقل السلامة من شرهم وأذاهم.

فقد بال أعرابي في المسجد، فقام الناس إليه ليقعوا به، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “دعوه وأريقوا على بوله سجلا من ماء أو زنوبا من من ماء؛ فإنما بُعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين” (أخرجه البخاري في الصحيح كتاب الوضوء باب صب الماء على البول في المسجد وباب يهريق الماء على البول).

وعن عائشة -رضي الله عنها- أن يهودا أتوا النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: “السام عليكم”، فقالت عائشة: “عليكم، ولعنكم الله وغضب الله عليكم”، فقال -صلى الله عليه وسلم-: “مهلا يا عائشة، عليك بالرفق، وإياك والعنف والفحش” قالت: أولم تسمع ما قالوا؟ قال: “أولم تسمعي ما قلت؟ رددت عليهم، فيستجاب لي فيهم، ولا يستجاب لهم في”.

وفي رواية: “مهلا يا عائشة، إن الله يحب الرفق في الأمر كله” (أخرجه البخاري في الصحيح كتاب الأدب والرفق في الأمر كله).

وعن أنس -رضي الله عنه- قال: خدمت النبي -صلى الله عليه وسلم- عشر سنين، فما قال لي: “أف” قط، وما قال لشيء صنعته: “لم صنعه؟”، ولا لشيء تركته: “لم تركته؟” (أخرجه مسلم في الصحيح، كتاب الفضائل، باب: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقا).

12- رعاية حقوق الأخوة الإسلامية:

والمراد أن يكون الداعية ممن يحافظ على حقوق الأخوة الإسلامية ويرعاها من المواساة بالنفس أو المال أو بهما معا، وإبراز الفضائل والمحاسن، وإخفاء المعايب والرذائل، والعفو عن الهفوات والزلات، والدعاء بظهر الغيب، والوفاء، وترك التكلف؛ فهذه هي مداخله إلى قلب المدعو، وبغيرها لن يستطيع التأثير فيه، وإليك ما يصنعه العفو في قلوب الناس:

أتى سعد بن أبى وقاص بأبي محجن يوم القادسية وقد شرب الخمر، فأمر به إلى القيد، فلما التقى الناس قال أبو محجن:

كفى حزنا أن تطعن الخيل بالقنا *** وأترك مشدودا عليّ وثاقيا

فقال لابنة حفصة امرأة سعد: أطلقيني ولك والله علي إن سلمني الله أن أرجع حتى أضع رجلي في القيد، فإن قُتلت استرحتم مني، قال: فحلته حتى التقى الناس، وكانت بسعد جراحه فلم يخرج يومئذ إلى الناس، قال: وصعدوا به فوق العذيب ينظر إلى الناس، واستعمل على الخيل خالد بن عرفطة، فوثب أبو محجن على فرس لسعد يقال لها “البلقاء”، ثم أخذ رمحا، ثم خرج، فجعل لا يحمل على ناحية من العدو إلا هزمهم، وجعل الناس يقولون: هذا ملك؛ لما يرونه يصنع، وجعل سعد يقول: الضبر ضبر البلقاء والطعن طعن أبي محجن، وأبو محجن في القيد.

فلما هزم العدو رجع أبو محجن حتى وضع رجليه في القيد، فأخبرت ابنة حفصة سعدا بما كان من أمره، فقال سعد: لا والله لا أضرب اليوم رجلا أبلى للمسلمين ما أبلاهم، فخلى سبيله، فقال أبو محجن: قد كنت أشربها إذ يقام علي الحد، وأطهر منها، فأما إذ بهرجتني -يعنى: أهدرتني- بإسقاط الحد عني، فلم يعد أمامي مجال للتطهر إلا التوبة؛ فوالله لا أشربها أبدا.

13- التحرك من خلال خطة:

والمراد أن يكون لدى الداعية خطة محددة الأهداف والغايات والأساليب والوسائل؛ بل والبدائل عند الإخفاق أو الفشل في وسيلة ما ليوفر بذلك الجهد والوقت، ويتجنب العثرات أو المعوقات، ويملأ الفراغ على المدعو، ولا يدخل به في خلافيات أو فرعيات.

14- أن تكون الدعوة إلى الله تعالى الشغل الشاغل:

والمراد أن تملأ الدعوة إلى الله تعالى على الداعية كل أقطار نفسه؛ فلا يقوم، ولا يقعد، ولا يتحرك، ولا يسكن، ولا يتكلم، ولا يسكت إلا بهذه الدعوة.

ولنا في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الأسوة والقدوة؛ إذ لم يؤثر عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه انقطع لحظة واحدة عن الدعوة إلى الله -سبحانه وتعالى- أو قال: إني اليوم في إجازة من العمل لدين الله.

وحسبنا أنه -صلى الله عليه وسلم- عندما هاجر إلى المدينة المنورة ومعه أبو بكر الصديق رضي الله عنه لقي في الطريق بريدة بن الحصيب الأسلمي في ركب من قومه فيما بين مكة والمدينة، فدعاهم إلى الإسلام، فأسلم هو ومن معه -وكانوا زهاء ثمانين بيتا- وصلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- العشاء فصلوا خلفه.

وكان -صلى الله عليه وسلم- في سفر، فأقبل أعرابي، فلما دنا منه قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “أين تريد؟”، إلى أهلي، قال: “هل لك إلى خير؟”، قال: “تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله”، قال: هل من شاهد على ما تقول؟ قال: “هذه الشجرة”، فدعاها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهي على شاطئ الوادي، فأقبلت تخد الأرض خدا، فقامت بين يديه فاستشهدها ثلاثا، فشهدت أنه كما قال، ثم إنها رجعت إلى منبتها، ورجع الأعرابي إلى قومه، فقال: إن اتبعوني أتيتك بهم، وإلا رجعت إليك وكنت معك (أورده ابن كثير في البداية والنهاية: 6/125 وعزاه إلى الحاكم، و”تخد الأرض خداً” يعني: تشق الأرض شقا. انظر الصحاح في اللغة والعلوم: 252، 253).

وكذلك كان الأنبياء والمرسلون من قبل لا يشغلهم عن الدعوة إلى الله شاغل.

وحسبنا أن يوسف -عليه السلام- عندما دخل السجن مظلوما لم يشغله السجن وضيقه وقسوته عن القيام بواجب الدعوة إلى الله تعالى؛ فقد اغتنم سؤال السجينين عن رؤيا رأياها، فقال لهما قبل أن يجيبهما ما أخبرنا الله به من قوله: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وآباؤكم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} (يوسف: 39، 40).

15- التجرد من كل شيء إلا من حول الله وقوته:

وأخيرا لا بد أن يكون الداعية شاعرا بالعجز، متجردا من كل شيء إلا من حول الله وقوته ليمده الله بأسباب القوة والتأييد والنصر: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} (التوبة: 133).

—-

*  المصدر: كتاب “فقه الدعوة الفردية في المنهج الإسلامي”.

 

 

مواضيع ذات صلة