الانفصام الدعوي (2 /5).. مع النفس

نفوسنا وصراعات التيه

خالد رُوشه

النفس البشرية هي المفتاح المناسب للبحث في عالم الاجتماع البشري وليس السلوك كما قال البعض، فالسلوك ظاهر من ظواهرها، وناتج من

إصلاح النفس

الاعتبار النفسي للشخصية هو مفتاح الإصلاح

نواتج تفاعلاتها، ولذلك فكل سلوك من خلفه دافعية نفسية تحركه، أو تخمده، تحمسه أو تثبطه ..

والباحث في النفس البشرية يجب عليه أن يبحث عن مصباح يضيء له طريقه في ذلك التيه المتشعب في تلك النفوس، وإلا فسيظل تائها، ولن يصل إلى إجابات شافية لتساؤلاته ولا إثباتات صحيحة لفروضه .

لذا فإن أضعف النظريات قبولا للفروض العلمية هي النظريات النفسية، واقل العلوم الطبية أثرا علاجيا هو مجال الطب النفسي، إلا ما كان منه خاضعا للتأثير الكيميائي البحت .

فهو العالم الخفي الذي يصعب الاطلاع على كنهه وتستحيل الإحاطة بمفرداته، وتندر القدرة على تفهم دوافعه وخلفياته بصورة كاملة .

وهو العالم الذي يجمع المتناقضات بين أطرافه، فهو سريع التغير عند أناس، بطيئه عند آخرين، سهل التقلب في أحوال، صعبها في أخر، كثير التأثر في مواقف، قليلها في مواقف أخرى، رقيق الأوصاف في ظاهره، صعب المراس في باطنه، قريب التناول فيما يبدو، بعيد العمق في الداخل .

والسلوك البشري دائما ما يخضع لذلك العالم تحركا وسكونا وإقبالا وترددا وإيجابية أو سلبية، بل هو ما ينقى صفو السلوك في التعامل الإنساني في أحيان، وربما يكدره في ظروف مشابهة ..

ولست أبالغ إذا اعتبرت أن لكل امرئ منا عالمه النفسي وحده، عالمه الخاص، الذي قد صبغت جوانبه بلونه المتميز، وصيغت فيه أحلامه وآلامه، ورغباته وطموحاته، وخطت فيه خطوط مسيرته نحو الخير أو الشر وتجاه النفع أو الإفساد، ووضعت فيه المبادئ والقيم، والدوافع والمعوقات، ومفاتيح الخصوصية الشخصية له، كل ذلك بشفرة خاصة، قد يعلمها المرء عن ذاته وقد يخفى عليه كثير منها .

والشخصية الإنسانية إنما هي انطباع أثر للعالم النفسي للإنسان، ترتسم مواصفاتها تبعا لصفات عالمه، وتتضح معالمها تبعا لخصائصه النفسية العميقة، فيبدو البعض منطويا كئيبا، ويبدو الآخر منفتحا مستبشرا، ويبادر امرؤ بالتضحيات الجسام، ويبخل آخر بكسرة خبز، ويقود أحدهم الجيوش نحو الانتصار ويعجز كثيرون عن قيادة أسرهم وتوجيه أبنائهم، ويبلغ امرؤ علما يضيء به الدنيا ويتعثر آخر في بقعة الجهل حتى يفنى !

إنها إرادة ربانية سامية وحكمة إلهية بالغة، تلك التي لا تجعل الإنسان مرآة لما يحدث حوله فحسب، ولا تجعله عبدا مملوكا لما يؤمر به أو ينهى عنه من لدن خلق مثله، أو تجعله ساذجا سفيها يغره البريق دوما أو تطرده المصاعب حتما، بل أكرمه بعمق نفسي يستطيع به تكوين شخصيته الخاصة، وتحديد اختياره المعين، والتدبر فيما خلف البريق وتقدير قيمة المصاعب والعقبات .

*والعالم النفسي للإنسان عالم لا يستحيل تغييره، بل يمكن التأثير في عناصره بالصلاح والنفع ويمكن هدايته بالنور والخير وهو مدخل الأنبياء والمصلحين إلى الشخصية البشرية، كما يمكن التأثير فيه سلبا بالغواية والإضلال وهو مدخل الشياطين إليها، وهذه الإمكانية التي جعلها الله صفة متحققة في النفس البشرية قد اعتبرتها الشرائع محورا للثواب والعقاب في الدنيا والآخرة، بل بين سبحانه أنها مدار الفلاح أو الخسران إذ قال سبحانه: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا}..

يقودنا ذلك وغيره إلى أنه لا يمكننا في أي مجال من مجالات الحياة الإنسانية نريد إصلاحه أو تغييره أو تعديله، أن نقوم بذلك بمنأى عن الاعتبار النفسي للشخصية، وأن كل تخطيط يهمل التهيئة النفسية فهو تخطيط معرض للفشل، ستنتج عنه الثغرات السلبية التي قريبا ما تتسبب في هدمه وإنهائه .

فحضارة الآلات المنفصمة عن عالم النفس الإنسانية، ما تلبث أن تستبين الضرر والقبح  الذي تركته على وجه العالم ، فتقوم النفعية مقام الإخلاص، وتسترجل المرأة، ويمسخ الرجل مسخا ماديا، وتحتل الشهوات مكان الصدارة في الأمنيات والطموحات، وتنتشر حروب الإبادة وتعم الطائفية ويسبر الحقد أغوار الحياة !

وقد جرب العالم عبر السنين أساليب وطرقا، ووسائل وأدوات، للتأثير في العالم النفسي للإنسان سعيا وراء التأثير في سلوكه، وكانت النتيجة في منتهى الغرابة، فقد أفلح التأثير النفسي في الإنسان بطرائق ومناهج ووسائل مختلفة في جانب الشر، وتبين فشله الذريع في جوانب الخير !!

أفلح في جذبه للخطر والضرر والشهوة والحرام والممنوع عرفا وقيمة ومبادئا، والمستنكر شريعة وعلما، بل قد أفلح في دفعه نحو تغيير طبائع خلقته إلى مسخ عديم الملامح ..

لكنه فشل أن يصلحه أو أن يصلح به، وفشل أن يهديه أو يهدي به وفشل أن يدفعه لمكارم الأخلاق ومعالى الصفات، فشل في ذلك لأنه لم يعثر لذلك على وسيلة من وسائله ولا منهاج من مناهجه المخترعة .

إن النجاح الذي حققه العالم الآن في التأثير على النفس البشرية بالشر ليربض في خلفيته الشيطان الرجيم وأولياؤه وأتباعه، داعمين لفعل السوء وتجربة الضرر ..

كما أن الفشل في الإصلاح سببه البحث عن التأثير بعيدا عن منهاج النبوات الذين أرسلهم الله سبحانه بالهدى والنور وختمهم بشريعته المهيمنة وبرسوله الأكرم صلى الله عليه وسلم .

إن التيه الذي تعيشه النفوس الإنسانية في شتى بقاع العالم فيعلو صراخها من الألم الداخلي، ويحيطها البؤس من الهموم، ويحتويها الحزن والاكتئاب، يمكن أن يجد له ببساطة علاجا مؤثرا في توجيهات القرآن الكريم، وتعاليم النبي محمد صلى الله عليه وسلم .

إنهم بؤساء أولئك الذين يهرولون إلى تخدير أنفسهم إذا مرت بهم الآلام والمصائب والأزمات، إذ هم لا يقتصرون على تخديرها بالمخدرات المادية، بل يخدرونها أيضا عن البحث عن السبيل القويم للخروج من تيهها المهلك ..

وتعساء أولئك الآخرين الذين يتركون أنفسهم فريسة للعلاجات النفسية المختلفة البعيدة عن سبيل الهدى، إذ تظل التعاسة ملتصقة بهم معنى ومضمونا وواقعا في حياتهم .

وقاصرون أولئك الذين لم يبلغوا معنى الرشد النفسي لقبول العبودية لله والتسليم والرضا به وملء القلب بالإيمان به وبحبه وذكره واللجوء إليه ورجائه رغبا ورهبا، انهم يبدون وكأنهم مستكبرين عن الكبير المتعال، يقول سبحانه: {وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}.

وبقدر تأثر النفس الإيجابي بذلك المنهاج الرباني وتلك التعاليم، بقدر قدرتها على الحياة القويمة والتأثير النافع والتمتع بحالة من الشفافية والنقاء والرضا وراحة البال والقدرة على الحب والعطاء والرفق والرحمة.

—–

* المصدر: موقع المسلم.

مواضيع ذات صلة