الانفصام الدعوي (2 /5).. مع النفس

أعدى أعداء الداعية..

سهام علي

أعداء الداعية

يتناوش الداعيةَ أعداءٌ من كل صوب

الدعوة من أهم الموضوعات التي لا يجب إغفال طرقها بشكل ملح و مستمر، دون كلل أو ملل، نظرًا لخطورة الدور الذي تلعبه في تحويل مجرى الحياة الإنسانية إذا سارت في مسارها الصحيح كما حدث في عهودها الأولى.

كما يجب التأكيد على أن العمل الدعوي ليس مجرد نافلة كما يتصور البعض و هذا يبدو واضحًا في الآيتين الكريمتين فقد قال الله تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران آية:104]، كما قال عز و جل {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّـهِ} [آل عمران من الآية:110]، و هذا يعني أن الدعوة من لوازم الإيمان، ولا تنفصل عنه، وبناءً عليه فإن التكليف بالدعوة موجه للأمة عامة و يدعم هذا كون كل خطاب وجه إلى نبينا صلى الله عليه و سلم هو خطاب للأمة كلها ما لم يتم تخصيص الحكم .

والتكليف بالدعوة أولى بالعمومية من غيره، و بهذا فإن كل مسلم مكلف بالدعوة و السنة المشرفة تؤكد ذلك فقد صلى الله عليه و سلم : “مَن رأى مِنكُم مُنكرًا فليغيِّرهُ بيدِهِ، فإن لَم يَستَطِع فبِلسانِهِ، فإن لم يستَطِعْ فبقَلبِهِ وذلِكَ أضعَفُ الإيمانِ” (صحيح مسلم؛ رقم: [49]). فمضمون الدعوة كما ذكر القرآن لا يخرج عن كونه أمرًا بالمعروف ونهيًا عن المنكر، ولما كانت الدعوة متمثلة في أربعة عناصر وهي:

– مضمون الدعوة.

– حيز الدعوة.

– أسلوب الدعوة والتي تعتمد كلية على شخصية الداعية وهو العنصر الرابع في الدعوة.

فإن كل عنصر فيها جدير أن نوليه حقه من الاهتمام، و ديننا العظيم الذي لا يدع صغيرة ولا كبيرة قد رسم لنا الخطة كاملة لسير الدعوة في الوجهة الصحيحة الكفيلة بإنجاحها.

فأما مضمون الدعوة فقد أجمله في الآيتين السابقتين؛ وفصله في القرآن كله.

وأما حيز الدعوة وهم المتلقون فقد جعله محددا في بدايتها وذلك في قوله تعالى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء آية:214]. و في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم من الآية: 6].

ثم يجب على المسلم إتباعًا للمنهج القرآني واقتداءً بالسنة النبوية توسيع الدائرة شيئًا فشيئًا وهذا مرتبط بشخصية الداعية وأسلوبه ومدى توافر شروط الداعية الناجح؛ فعليه أن يجمع عددًا من الخصال يستطيع بها أن يصل إلى القلوب والعقول؛ مثل الرفق واللين والتواضع وسماحة الطبع وحسن الخلق، وهذا طبقا لما ورد في الآية الكريمة {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّـهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران آية:159].وهذا فيما يتعلق بأسلوب الدعوة.

أما بخصوص شخصية الداعية فيجب أن يتحلى إلى جانب الحلم بالعلم والحكمة والصبر وسعة الأفق والفطنة والثقافة العامة إلى جانب أساسيات العلم الشرعي كما يتضح من معنى الآية الكريمة: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل  من الآية: 125].

فإذا توافر كل ذلك أو معظمه في الداعية يمكن أن يحقق للدعوة نجاحًا كبيرًا، ويكون ثمرة جهوده عددًا كبيرًا من المهتدين بفضل الله على يديه.

إلا أن الطامة الكبرى أن يكون الداعية من الهادين فقط لا المهتدين؛ فإذا لم تصاحب علمه نية خالصة لله منذ البداية؛ فالأمل ضعيف في أن يؤدي دوره بنجاح، وحتى إن نجح لحين ولسبب أراده الله؛ فالعمل- والله أعلم- من الأعمال المحبطة والعياذ بالله، فإن كان الله سبحانه وتعالى أحيانًا ما يرسل الهداية لعبد يحبه من خلال إنسان كافر بشكل أو بآخر، لم يكن الكافر ليقصده بالطبع، فلا غرابة أن يرسل له الهدى عن طريق دعاة غير مخلصين. فعدم استصحاب النية المخلصة منذ البداية هو العدو الأول للداعية فهو يؤثر فيمن حوله ولا يتأثر بما يقول، وهذا ينطبق عليه قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة آية:44].

فعلى الإنسان أن يبدأ بنفسه دائمًا حتى لا يعرض نفسه للوعيد المذكور في حديث النبي صلى الله عليه وسلم  إذ قال: «يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتندلق أقتابه في النار، فيدور كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع أهل النار عليه فيقولون: أي فلانا ما شأنك؟ أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ قال: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه» (صحيح البخاري؛ رقم: [3267]).

فإن كان هذا هو عقاب من يوعظ غيره وينسى نفسه؛ فإن عقاب المرائي الذى لم يجرد نفسه ويخلص نيته لله أشد تنكيلا لأنه يحمل وصف أول من تسعر بهم النار فقد قال صلى الله عليه وسلم: «إنَّ أولَ الناسِ يُقضى يومَ القيامَةِ عليه، رجُلٌ استُشهِد. فأتى به فعرَّفه نِعَمَه فعرَفها. قال: فما عمِلتَ فيها ؟ قال: قاتَلتُ فِيكَ حتى استُشهِدتُ. قال: كذَبتَ. ولكنَّكَ قاتَلتَ لِأَنْ يُقالَ جَريءٌ. فقد قيل. ثم أمَر به فسُحِب على وجهِه حتى أُلقِيَ في النارِ. ورجُلٌ تعلَّم العِلمَ وعلَّمه وقرَأ القرآنَ. فأُتِي به. فعرَّفه نِعَمَه فعرَفها. قال: فما عمِلتَ فيها ؟ قال: تعلَّمتُ العِلمَ وعلَّمتُه وقرَأتُ فيكَ القرآنَ. قال: كذَبتَ ولكنَّكَ تعلَّمتَ العِلمَ لِيُقالَ عالِمٌ. وقرَأتُ القُرآنَ لِيُقالَ هو قارِئٌ. فقد قيل. ثم أمَر به فسُحِبَ على وجهِه حتى أُلقِي في النارِ. ورجُلٌ وسَّع اللهُ عليه وأعطاه مِن أصنافِ المالِ كلِّه. فأتَى به فعرَّفه نِعَمَه فعرَفها. قال: فما عمِلتَ فيها؟ قال: ما ترَكتُ مِن سبيلٍ تُحِبُّ أنْ يُنفَقَ فيها إلَّا أنفَقتُ فيها لكَ. قال: كذَبتَ. ولكنَّكَ فعَلتَ لِيُقالَ هو جَوَادٌ. فقد قيل. ثم أمَر به فسُحِب على وجهِه. ثم أُلقِي في النارِ» (صحيح مسلم؛ رقم: [1905]).

أما العدو الثاني للداعية فهو عندما يبدأ ممارسة الدعوة بنية خالصة ثم يغرر به الشيطان عندما يتسرب الكبر إلى نفسه شيئا فشيئًا بعد أن يقبل الناس عليه فيراها أفضل من الآخرين فينزع منها الإيمان شيئًا فشيئًا  والعياذ بالله، وهذه أفة كثير من الدعاة، بل هي أفة من قل حظهم من العلم فمن المعروف أنه كلما ازداد علم المرء؛ ازداد تواضعه، وقد ورد في السنة الشريفة عن الكبر قوله صلى الله عليه وسلم: “لا يدخلُ الجنَّةَ مَن كان في قلبِه مثقالُ ذرَّةٍ من كِبرٍ” (صحيح مسلم؛ رقم: [91]).

وهكذا فإن أعدى أعداء الداعية من داخل ذاته وليس من خارجها.

——-

* المصدر: طريق الإيمان.

مواضيع ذات صلة