الانفصام الدعوي (2 /5).. مع النفس

الاحتضان الإسلامي لغير المسلمين (السائحين)

محمد إلهامي

في سياق الحديث عن موضوع: الرعاية الاجتماعية لغير المسلمين وللمسلمين الجدد، يحسن أن نفصل الحديث إلى موضوعين:سائحون غير مسلمين

 الأول: عن رعاية غير المسلمين في المجتمع الإسلامي سواء أكانوا مقيمين أم زائرين.

 والثاني: عن رعاية المسلمين الجدد الذين أنبتت في قلوبهم بذرة الإيمان وتحتاج إلى من يتعهدها بالرعاية والسقاية حتى تصير سامقة زاخرة تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.

ونبدأ بالحديث –في هذا المقال والمقالات التي تليه- عن الموضوع الأول: رعاية غير المسلمين، فالله المستعان..

***

غير المسلمين في بلادنا نوعان: مقيمون فيها أو زائرون لها، وتختلف أغراض الزيارة ما بين السياحة القصيرة وأغراض العمل الطويلة التي قد تمتد إلى عقود متصلة، ولربما لا تبدو الفرصة واضحة في شأن السائحين لمدة أيام أو لأسابيع إلا أنها فرصة كاملة وجاهزة بالنسبة لأولئك المقيمين لأغراض العمل والتكسب، لا سيما في دول الخليج، التي تعتمد على العمالة الأجنبية من أول العامل الفقير وحتى أصحاب المشاريع العملاقة والاستثمارات الضخمة.

أولا: السائحون

ونعني بهم جميع من يرد بلادنا لمدد قصيرة، سواء للسياحة أو لعمل أو لغيره، ونحن إذا تدبرنا في حال من أسلم من هؤلاء -أو على الأقل تغيرت قناعاته عن الإسلام- سنفهم ماذا ينبغي لنا أن نفعل كي نجتذب هذه الشريحة إلى دين الله تعالى.

1. شعائر الإسلام:

أول ما ينبغي أن نفهمه أن الإسلام هو أمر “مختلف” بالنسبة إلى هؤلاء، أي أنه لا يجذبهم في بلادنا ما نحاول أن نشابههم به من أنماط البناء والأزياء والمأكل والمشرب والترفيه، بل يجذبهم عندنا ما لا يجدوه عندهم. وقد نستغرب حين نعرف قصة إسلام المستشرق المجري عبد الكريم جرمانوس التي بدأت من صورة في مجلة هذا وصفها “منظر خشبي رأيت فيه منازل ذات سُقُف منبسطة تبرز من بينها هنا وهناك قباب مستديرة يزينها الخلال وسط سماء مظلمة، كما شاهدت رجالا يجلسون القرفصاء على السطح وعليهم حُلل غريبة وقد انتشرت ظلالهم في صفوف غامضة.. لقد ابتهج خيالي بهذه الصورة تبعا لاختلافها الشديد عن المناظر الطبيعية المعتادة في أوروبا، فقد كانت منظرا شرقيا”[1].

وإن أهم وأعظم ما لا يجدونه عندهم هو مظاهر الإسلام وشعائره، وهذه عوامل جذب إلهية لسنا ندري سرها ربما لأننا نشأنا فيها واعتدناها، غير أنها تؤثر فيهم تأثيرا كبيرا، ويستوي في ذلك عامتهم وخاصتهم من المفكرين والفلاسفة والباحثين.

ومن ذلك ما عرضته قناة الجزيرة[2] عن فتاتين أمريكيتين، إحداهما يهودية ومات من عائلتها ثمانية في أحداث الحادي عشر من سبتمبر كانت تزور المغرب، والأخرى نصرانية كانت تزور تركيا، وكلاهما كان سماعهما للآذان هو أول ما طرق قلوبهما وأدخلهما في الإسلام، ذلك الآذان الذي نسمعه يوميا خمس مرات ولا نكاد نتأثر به على الإطلاق. ومن ذلك ما نشرته صحيفة الرياض[3] عن سائحة كندية فوجئت بمشهد العمال المسلمين وهم يصلون في بهو الفندق، فدخلت في موجة من التساؤلات، فقرأت ما كان في مكتبة الفندق من كتب عن الإسلام في ليلة واحدة، وبعد يومين كانت في عداد المسلمين، واتخذت اسم “سلطانة”. هذا وإن أول قصة تطالعك في سلسلة كتب “رجال ونساء أسلموا” هي قصة المسلم الألماني محمد صديق الذي كانت بداية إسلامه رؤيته لصلاة الجماعة[4].

ومن أراد الاستزادة فعليه بالكتب التي تقصص حال من أسلموا ففيها مادة غزيرة عن التأثر بالشعائر الإسلامية.

وقد لا يبلغ الأثر حد الدخول في الإسلام، وهذا الفيلسوف الفرنسي أرنست رينان يقول: “ما دخلت مسجدا قط، دون أن تهزني عاطفة حادة، وبعبارة أخرى، دون أن يصيبني أسف محقق على أنني لم أكن مسلما”[5]، هذا وهو من يُحسبون أحيانا في خانة المتحاملين على الإسلام.

وشعائر الإسلام كثيرة إلى الحد الذي لا يكاد يفلت منها نظر زائر لبلاد المسلمين، فالصلوات تشمل مساحة اليوم ويؤديها المسلمون في كل مكان، ثم صلاة الجمعة التي تؤدى كل أسبوع، ثم صيام رمضان الذي يشغل شهرا في السنة، ثم أيام الحج المشهودة، وارتباط المسلمين بها أمر ظاهر ملموس في كل بلدانهم، وهو ما يفسره الفيلسوف الفرنسي الشهير مونتسكيو بقوله “إن المرء لأشد ارتباطا بالدين الحافل بكثير من الشعائر منه بأي دين آخر أقل منه احتفالا بالشعائر، وذلك لأن المرء شديد التعلق بالأمور التي تسيطر دائما على تفكيره”[6].

ولربما يحاول البعض تفسير هذا التحول لمجرد رؤية الشعائر الإسلامية بأن فيها من المساواة والبساطة ومظاهر وحدة المسلمين ما هو جدير بجذب القادمين من مجتمعات رأسمالية طبقية أو مجتمعات عنصرية أو مجتمعات تعاني من الخلافات الأهلية، ولا ريب أن هذا صحيح، لكنه لا يصلح وحده لتفسير هذا التحول الكبير والأثر المباشر، ويبقى في الأمر سر إلهي رباني يخاطب الروح والنفس مما لا ندرك كنهه على الحقيقة.

ومما يتبع هذا ضرورةُ أن تكون الكتب والمواد التي تشرح الإسلام موجودة دائما أمام أعين السائحين والزائرين أينما حلوا، في الفنادق والمجمعات التجارية (المولات) والمطاعم والمكتبات والأماكن السياحية والأثرية ووسائل المواصلات بحيث تكون جاهزة للإجابة عن الأسئلة وإدراك لحظة التأثر في أي مكان كان.. إذ نحن لا ندري من أي شيء وفي أي موطن ستبدأ لحظة الهداية.

 2. آثار المسلمين:

بداية، فإن الإسلام يبيح دخول غير المسلمين إلى المساجد –ما عدا المسجد الحرام- شريطة الالتزام بالثوب المحتشم وتوقير المسجد وعدم إتيان المخالفات فيه[7]، وهذا أمر يتقبله 99% من السائحين ويلتزمون به، بحسب تصريح لنقيبة المرشدين السياحيين في مصر ليلى قنديل[8].

ولا ريب أن هذه الأماكن التي عُبِد فيها الله، وقُرِئ فيها القرآن وصُلِّيَت فيها الصلوات، لها تأثير روحي كبير على القادمين من بلاد تشكو من الضغط العنيف للمادية، هذا الضغط الذي يجعل البوذية أحد أكثر الأفكار رواجا في الغرب لأنها متطرفة في الجانب الروحي الذي يقابل التطرف المادي هناك.

تروي ليلى قنديل قصة أستاذ جامعي بلجيكي أسلم بعد زيارة إلى مساجد القاهرة القديمة وحصوله على نسخة مترجمة لمعاني القرآن الكريم[9]، ونحن حين نطالع قصص من أسلموا نجد الأسفار إلى بلاد المسلمين تمثل جزءا بارزا منها، بل نجد بعض القصص ليست إلا فصولا من التأثر بآثار المسلمين وبلادهم، كقصة الشاب المجري جوليوس ووفر بدأت بتأثره بآثار العثمانيين في المجر ثم لم يجد الراحة والقرار إلا في بلاد المسلمين التي تنقل فيها أو عبر بها فتعلق بها قلبه حتى أسلم[10].

ومما يتبع الاهتمامَ بحضارة المسلمين، الاهتمامُ بإعداد المرشد السياحي، فذلك هو الذي سيلتقط لحظة التأثر فيضرب على الحديد وهو ساخن، فإن كان أكثر كفاءة فباستطاعته صناعة هذا التأثر وإنشائه، ومما يذكر في هذا الشأن ما رواه المرشد السياحي المصري عز الدين أحمد سالم أن وفدا سياحيا كاملا تأثر بالإسلام بعد أن حدثهم عن بعض جوانب إعجاز القرآن أثناء زيارتهم لأحد المساجد الأثرية بالقاهرة، ثم رَتَّب لهم لقاء مع أساتذة من كلية أصول الدين استغرق 4 ساعات، ولم ينته هذا الاجتماع إلا بعد أن أعلن عدد كبير من هؤلاء عن رغبتهم في اعتناق الإسلام[11]. فهذا مجرد نموذج لما يمكن أن يصنعه مرشد سياحي مؤهل للحديث لا عن الإسلام، ولكن عن لفتة إسلامية مؤثرة في ثنايا شرحه للمعالم السياحية، ثم يمكن للمختصين أو المراكز المختصة أن تقدم المعلومة الأفضل والأكمل لمن أراد أن يتوسع أو أن يسأل.

ومما يتبع الاهتمامَ بحضارة المسلمين أيضا، الاهتمامُ بالملصقات والمطبوعات الإرشادية للآثار الإسلامية، إذ ينبغي ألا تكتفي المادة التعريفية بعرض تاريخ إنشاء الأثر وعصره، بل تضيف إليه نبذة عن صاحبه وعصره والغرض من بنائه وما إذا كانت ثمة مواقف ذات أثر أو قيمة إسلامية حدثت عنده، فهذا ما يعطي المكان قيمته الروحية والحضارية فضلا عن قيمته المادية والفنية والمعمارية، وإذا تحقق هذا في المطبوع الإرشادي لكل أثر فنكون قد حكينا للسائح -دون أن نشعر نحن ولا هو- تاريخ البلد وحضارته، وأعطيناه رحيق وخلاصة روح البلد وثقافته، وهذا يعمق الارتباط النفسي والروحي بين السائح والبلد، وهو في حد ذاته قيمة اقتصادية بحتة، ولو لم نهدف إلى التعريف بالإسلام.

وربما لا يبلغ التأثر حد الدخول في الإسلام، ولكنه يساهم في كسر الصورة المشوهة عنه في بعض النفوس، فها هي الكاتبة البريطانية المعروفة كارين أرمسترونج التي كانت راهبة كاثوليكية وصارت الآن من وجوه الدفاع عن الإسلام في أوروبا والدفاع عن قضايا المسلمين مثل القدس، كانت بداية تعرفها على الإسلام رحلة إلى سمرقند حيث تأثرت بالروحانية التي تفيض من العمارة الإسلامية[12].

 3. أخلاق المسلمين:

وهو الباب الأوسع للدخول في الإسلام، إذ هو يحدث في كل موقف وكل لحظة، ويكون بغير تكلف من المسلمين، وهذا الباب يؤتي ثماره في القديم كما في الحديث، فغالب من أسلموا من غير المسلمين إنما كان إسلامهم من هذا الباب، ومن نَظَر في الكتب التي تقصص قصص من أسلموا وجد ذلك واضحا لا يحتاج إلى إثبات.

وهذا الباب مستمر معنا في كل ما يخص غير المسلمين، سواء أكانوا سائحين أم مقيمين أم من أهل البلد أم كان المسلم في بلاد غير المسلمين، فلا نطيل الحديث فيه الآن، وربما أفردناه بمجموعة مقالات في نهاية هذه السلسلة.

***

وكل ما أوردناه من اقتراحات وأفكار يستطيع المجتمع أن يقوم بها بدون السلطة، أو في أكثر الأحوال لا يحتاج الأمر إلا مجرد “السماح” من السلطة، فالمتطوعون من الدعاة والمراكز الإسلامية يرحبون بأن يضعوا هم جداول الزيارات السياحية وإعداد مواد الإرشادات والمطبوعات وإقامة دورات التأهيل للمرشدين السياحيين واستقبال كل راغب في الاستزادة من المعرفة عن الإسلام وغير ذلك مما يتطلبه الأمر.

والخلاصة أننا نحاول اقتناص كل فرصة ممكنة –مهما كانت سريعة وبسيطة- في هذه الزيارة القصيرة التي يقوم بها غير المسلم لبلادنا الإسلامية، وهو أمر سيجد في نفسه موضع قبول وترحيب لأنه جديد عليه لا يجد مثله في بلاده وهو بطبيعة الحال متشوق للمعرفة والاطلاع على ما في بلادنا من أسرار وكنوز، فأرض الشرق ما تزال تمثل عند كثيرين –وخصوصا الغربيين- أرض الأسرار والكنوز والشمس والسحر واللبن والعسل، وهو من آثار التاريخ الطويل بين الغرب والشرق منذ الأندلس والحروب الصليبية وقصص ألف ليلة وليلة.

  ————-

[1] د. عرفات كامل العشي: رجال ونساء أسلموا 2/161.

 [2] برنامج من واشنطن، بتاريخ 11/9/2006. (الرابط)

 [3] بتاريخ 5/12/2008.

 [4] د. عرفات كامل العشي: رجال ونساء أسلموا 1/15 وما بعدها.

 [5] توماس أرنولد: الدعوة إلى الإسلام ص459.

 [6] السابق ص458.

 [7] انظر فتوى الشيخ عبد العزيز بن باز على هذا الرابط

[8] تحقيق صحفي: المساجد الأثرية مراكز لدعوة غير المسلمين، موقع الشبكة الإسلامية، 10/6/2002.

 [9] تحقيق الشبكة الإسلامية.

 [10] د. كمال العشي: رجال ونساء أسلموا 2/167 وما بعدها.

 [11] تحقيق الشبكة الإسلامية.

 [12] كارين أرمسترونج: سيرة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) ص22.

——

المصدر: مجلة البشرى.

مواضيع ذات صلة