الانفصام الدعوي (2 /5).. مع النفس

الدعوة الفردية .. مجالات المدعوين وأصنافهم

د. السيد نوح

الدعوة الفردية تتم في كل المجالات أو في سائر الميادين ومع كل الناس، بيد أن الظروف التي يمر بها العالم الإسلامي اليوم تقتضي المسارعة باستخلاص العناصر الجيدة المستعدة للتضحية والبذل والعطاء ونظمها في سلك واحد ليصنع بها قدر الله على هذه الأرض.

الدعوة الفردية

الدعوة الفردية تحتاج إلى المفاضلة بين المدعوين

ومن هنا كانت المفاضلة والتقديم لمجال أو لميدان على آخر، وكذلك المفاضلة والتقديم لصنف من الناس على آخر.

* فمثلا دعوة المسلم مقدمة على دعوة غير المسلم؛ إذ المطلوب اليوم هو الانتقال بالمسلمين من الواقع المرير الذي يعيشونه، وما فيه من قصور في فهم أو فتور في عمل أو غلو أو شطط أو نحو ذلك إلى فهم الإسلام فهما سليما نقيا، كما جاء به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومتطلبات هذا الإسلام، ثم كيفية تحقيق هذه المتطلبات على النحو الذي يمكن للإسلام، ويضمن للمسلمين عز الدنيا وسعادة الآخرة.

* ودعوة الأقربين نسبا وجيرة مقدمة على دعوة الأباعد؛ نظرا لكونهم معروفين عند الداعية، ولا يحتاج إلى جمع المعلومات عنهم، وهم كذلك يعوفونه، وربما عتبوا إذا أهملهم وذهب إلى الأبعدين، ثم هو مسئول عنهم بين يدي الله عز وجل؛ فقد أخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- على أقوام أنهم لا يفقهون جيرانهم ولا يعلمونهم؛ فتوعدهم بالعقوبة، وأمهلهم سنة القيام بهذا التكليف، فقال: “ما بال أقوام لا يفقهون جيرانهم، ولا يعلمونهم، ولا يعظمونهم، ولا يأمرونهم ولا ينهونهم؟ ومابال أقوام لا يتعلمون من جيرانهم ولا يتفقهون ولا يتعظون؟، والله ليعلمن قوم جيرانهم ويفقهونهم ويعظونهم ويأمرونهم وليتعلمن قوم من جيرانهم ويتفقهون ويتعظون، أو لأعاجلنهم العقوبة، وأعاد ذلك مرارا حتي قال المعنيون بالخطاب: أمهلنا سنة، فأمهلهم سنة ليفقهوهم ويعلموهم ويعظوهم، ثم قرأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذا الآية { لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} (أورده الهيثمي في مجمع الزوائد، كتاب العلم، باب في تعليم من لا يعلم).

وأيضا اقتداء وتأسيا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ عندما بدأ -صلى الله عليه وسلم- بالدعوة أمره الله تعالى أن ينذر عشيرته الأقربين فقال: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ} (الشعراء: 214).

* ودعوة الصغير مقدمة على دعوة الكبير؛ حيث إن الصغير لم يصلب عوده على فكر أو سلوك معين، والتعامل معه أسهل من التعامل مع الكبير الذي اختار طريقه، وكثرت ارتباطاته ومسئولياته، وحقق مركزا اجتماعيا أو مكاسب دنيوية يخشى عليها، ثم إن الصغير الذي يقبل على الدعوة يدخل مباشرة في الصياغة والتكوين، ولا يبذل الداعية معه وقتا طويلا في تخليته من الشوائب والعادات الجاهلية، وإنما ينصرف إلى تخليته وتعبئته بالفضائل والعادات الإسلامية، وصغير اليوم هو رجل الغد، والناشئة هم مستقبل الأمة.

* ودعوة المتواضع مقدمة على دعوة المتكبر؛ لأن التواضع دليل على إمكان قبول الحق والعمل به، بينما التكبر دليل على سفه الحق، وغمط الناس على أن اتباع الأنبياء والمرسلين كانوا ما بين غني شاكر متواضع وفقير صابر ضعيف.

* ودعوة المثقف مقدمة على دعوة الأمي؛ نظرا للدور الذي يقوم به المثقف في المجتمع، أضف إلى ذلك أن المثقف أقدر من غيره على محاكمة الآراء واختيار الأفكار، ومن يختار الفكرة على وعي فإنه في الغالب يلتزم بها.

* ودعوة غير المنتمي مقدمة على دعوة المنتمي؛ لأن غير المنتمي يقع في مركز وسط بين المذاهب والتجمعات، وأما المنتمي فقد انتقل من المركز إلى الطرف الآخر، والجهد المطلوب لنقله إلى مركز التأثير أضعاف الجهد المطلوب لغير المنتمي، مع مراعاة أن المنتمي إذا غير انتماءه عن قناعة وفكرة؛ فإنه سيتحول إلى الدعوة والعمل لدين لله، مع خبرة واسعة واستعدادات كبيرة.

* ودعوة زميل العمل أو المهنة مقدمة على دعوة غيره؛ نظرا لأن أفراد كل مهنة بينهم تعاون تلقائي ومباشر، ومجالات الحديث بينهم مهيأة، ونقاط الاشتراك كثيرة؛ فالطبيب مع الأطباء أقدر منه بين المهندسين، والمحامي مع المحامين أقدر منه بين المعلمين.

*ودعوة ذي التأثير والمنعة في قومه مقدمة على دعوة من لا أثر له ولا منعة؛ نظرا لأن هذا يساهم في الإسراع في عملية التغيير، وقد يغير كثيرا في المعادلة لصالح الدعوة، ثم هو اقتداء بالنبي -صلى الله عليه وسلم- إذ كان يدعو ويقول: “اللهم أعز الإسلام بأحب هذين الرجلين إليك بأبي جهل أو بعمر بن الخطاب” (أخرجه الترمذي في السنن: كتاب المناقب: باب مناقب عمر بن الخطاب رضي الله عنه)، وهو كذلك محاكاة لأول داعية بالمدينة مصعب بن عمير؛ إذ لما أحسن دعوة أسيد بن حضير وسعد بن معاذ وأسلما أسلم بإسلامهما دار بني عبد الأشهل.

وهكذا.. فالداعية الحصيف يتخير لدعوته الموضوع الأهم والأولى، والمجال أو الميدان الأكثر عطاء، ومن هو أسرع استجابة وتأثيرا، ومن يكون الجهد معه أقل، ومن يكون متناسبا مع طبيعة المرحلة التي تعيشها دعوته.

_____

*  المصدر: كتاب “فقه الدعوة الفردية في المنهج الإسلامي”.

مواضيع ذات صلة