الانفصام الدعوي (2 /5).. مع النفس

بين العمل الدعوي والفكر المؤسسي

م.عبدالعزيز العمري

فريق عمل

مأسسة العمل الدعوي من عوامل نجاحه

الدعوة إلى الله هي وظيفة الأنبياء والرسل ووظيفة الخلفاء والعلماء والدعاة والمصلحين ومن تبعهم إلى يوم الدين، بل هي وظيفة مأمورٌ بها كل المسلمين، متعينة على أهل العلم منهم، قال تعالى : {يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً}، وقال تعالى : {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة}.

ومن نافلة القول أن نذكِّر بأن إحسان الأعمال والإتقان في أدائها على الوجه المطلوب الذي يحقق المستوى المرضي من النتائج المرجوة هو واجب شرعي قبل أن يكون حقيقة عقلية، قال النبي صلى الله عليه وسلم : “إن الله يحبُ إذا عملَ أحدكُم عملا أن يتقنهُ” صححه الألباني، فالصلاة لا يقبلها الله من العبد إذا لم تكن على الوجه الذي فرضه الله تعالى، وفي الوقت الذي حددته لها الشريعة، وبالحركات والأذكار الواجبة التي وردت في السنة المطهرة، وأن تكون باتجاه القبلة “حتى علم الفلك نحتاجه من أجل الدقة في الصلاة”.

وكذا كل الأعمال المشروعة في الدين، لا يقبلها الله إذا لم تؤدَّ كما فُرضت، من زكاة وصيام وحج وغيرها.

إذا تقرر ذلك؛ فمن المعلوم أيضاً أن العمل الإسلامي الدعوي – وحتى الإغاثي منه والثقافي والتعليمي وغيرها من الأعمال – يطاله واجب الإتقان، ويدخل تحت مظلة وجوب الإحسان، إذ لا فرق بين العمل الدعوي من جهة والصلاة وغيرها من العبادات المشروعة من جهة أخرى من حيث كونها عبادة أولاً، ومن حيث وجوب إتقانها والإحسان في آدائها ثانياً، ومن حيث كون الإتقان في أدائها سبباً لقبولها وإيتاء ثمرها ثالثاً.

والناظر في أحوال العمل الإسلامي اليوم الدعوي منه والإغاثي والثقافي والتعليمي على حد سواء، يجده في بعض الأحيان وبعض النطاقات يفتقد لـ (العمل المؤسسي) المنظم الذي لا يمكن أن تقوم مؤسسات العمل المعاصر – الإسلامية وغيرها – بدونه، ولا تستطيع أن توصل رسالتها وتقوم بالأدوار المطلوبة منها وتؤدي الأهداف التي تسعى إليها – في خضم هذا العالم المتحضر المتسارع المليء بالمنافسين – بدون اتخاذه (مساعداً) رئيسياً في ذلك كله، يقول ناجي عطية : “لم يعد اليوم مجالٌ للنزاع، على أن العمل المؤسسي خير وأولى من العمل الفردي الذي لا يزال مرضاً من أمراض التخلف الحضاري في مجتمعات المسلمين”.

والعمل المؤسسي نقصد به: وجود إستراتيجيات عمل للمؤسسة تضمن من خلالها سير المنظمة بشكل منتظم ومستمر على المدى الطويل.. ويعرّفه عطية بأنه: “التجمع المنظم بلوائح يوزع العمل فيه على إدارات متخصصة، ولجان وفرق عمل، بحيث تكون مرجعية القرارات فيه لمجلس الإدارة، أو الإدارات في دائرة اختصاصها؛ أي أنها تنبثق من مبدأ الشورى، الذي هو أهم مبدأ في العمل المؤسسي”.

والفكر المؤسسي حتى ينمو ويعيش ويثمر في مؤسسة ما فإن ذلك ينطلق بدايةً من إيمان المؤسسة قيادةً وعاملين بأهمية العمل المؤسسي، عمق هذا الإيمان أو ضعفه يساوي في المقابل مدى عمق الفكر المؤسسي لدى هذه المنظمة، وهو ما ينعكس على مستوى العمل المؤسسي لديها، والذي يؤثر بدوره في تنظيمها وحسن آدائها وظهور ثمار عملها وتحقق أهدافها.

ورغم وجود نماذج مشرفة للعمل الإسلامي المؤسسي حول العالم؛ فإن هناك الكثير من مؤسسات العمل الإسلامي -والدعوية منها على وجه الخصوص- ما زالت تعاني من العمل الفردي الاجتهادي قصير الأمد، وتفتقد للكثير من آليات وأساليب التنظيم في أعمالها، وسبب ذلك إما أن تلك المؤسسات لا ترى جدوى وفائدة في فكرة العمل المؤسسي، وتؤمن بأن طرائقها الكلاسيكية أكثر جدوى بحكم تجربتها العتيقة، أو أنها تؤمن بالفكرة لكنها تفتقد إلى الخبرة الكافية والتدريب الجيد والكوادر المتمكنة التي تساعدها في تحويل عملها إلى عمل مؤسسي منظم.

أسباب المشكلة

هناك أسباب كثيرة تقف وراء عدم إيمان بعض رواد العمل الدعوي بفكرة (حتمية وجود العمل المؤسسي من أجل النجاح)، لعل أبرزها سببان:

السبب الأول: الغلو في مسألة أن البركة والتوفيق والتسديد من الله، وأن إخلاص النية هو سبب الفوز والفلاح، وانتشار مفهوم (نمضي بنور الله)، وليس الإشكال هنا في صحة هذه القاعدة، ولكن الإشكال في توسيع هذا الفكرة إلى خارج نطاقها الذي حددته لها الشريعة، والصواب والله أعلم أن نقول بأن إخلاص النية الذي يصاحبه توفيق الله وتسديده هو أمر يتفق الجميع على وجوبه، ولكن الله قد تكفل برزق الطير إذ (غدت) و (راحت)، ونصر الله المسلمين ببدر وهم أذلة بعد أن وضعوا خطة للمعركة، وخسروا في أحد لما اختل العمل رغم أنه لا تشكيك في نوايا جند ذلك الجيش.

الحديث عن فعل الأسباب من نافلة القول، وقد يكون الخلاف هنا في أن الرافضين لفكرة العمل المؤسسي يرونه – ربما – غلوّا في فعل الأسباب، وهنا أقول: الإنسان عدو ما يجهل، العمل المؤسسي ليس سوى فكرة لجعل العمل أكثر تنظيماً وتوفيراً للجهد والمال والوقت.

هنا قد يتساءل البعض: ما هو إذن العمل المؤسسي الذي تزعم أن هؤلاء يجهلونه؟ وتجنباً لإطالة المقال سيجد القارئ الكريم في “مآسي الانفصال المزمن بين العمل الدعوي والفكر المؤسسي” التي سأذكرها في نهاية المقال جواباً غير مباشر على هذا السؤال إن شاء الله.

السبب الثاني: الزعم بأن العمل الدعوي بوضعه الحالي يسير بشكل جيد ويعطي مستوى جيدا من الثمار والنتائج.

وجواباً على هذا أقول: إن الفرق بين العمل التقليدي والعمل المؤسسي من حيث السرعة والراحة والجودة كالفرق بين (السيارة) و(الطائرة) فكلاهما وسيلة نقل إلا أن الفرق بينهما شاسع ولا يحتاج لمزيد توضيح، والفرق بينهما من حيث شمولية النفع وحسن الثمرة وكم الإنتاج كالفرق بين (مزرعة) صغيرة محدودة الموارد، و(بستان) كبير تجري فيه الأنهار، وأكتفي بهذه التشبيهات تجنباً للإطالة – التي يبدو أنه لا مفر منها -، ولعل مآسي الانفصال المزمن بين العمل الدعوي والفكر المؤسسي التي سأذكرها في الجزء التالي من المقال ستوضح هذه الصورة – أعني الفرق بين المذهبين – جلية إن شاء الله.

مآسي الانفصال

من مآسي الانفصال المزمن بين العمل الدعوي والفكر المؤسسي – في وجهة نظر الفقير إلى توفيق ربه كاتب هذه الأسطر – ما يلي:

١- حتمية وجود الاجتهادات الفردية وفشوّها، بل وعدم وجود المفرّ منها، ولذلك من الآثار السلبية ما لا يخفى على من جرب العمل ومارسه في الميدان، بل قد يتسبب ذلك في أخطاء كارثية قد تجعل مسألة وجودية المؤسسة الدعوية على المحك، وقد تؤثر بشكل غير مباشر على حاضنتها المجتمعية.

٢- افتقاد كثير من الأعمال المنطوية تحت مظلة المنظمة الشرعية – من جهة الناس – والمشروعية – من جهة الشرع -، فالأولى سببها عدم موافقة المنظمة عليها بكافة تفاصيلها وأبعادها، والثانية سببها افتقاد تلك الأعمال للتعاون والشورى والقيادة التي هي من أهم مبادئ الشرع الحنيف، ومن أكبر مرتكزات الحضارة الإسلامية.

٣- المحدودية في كل شيء داخل المؤسسة، بدءًا من محدودية الأفكار، ثم محدودية الطاقات، ومحدودية الموارد، ومن ثمَّ محدودية النتائج والثمار، والتجارب شاهدة على أن مؤسسات العمل الإسلامي القائمة على الفكر المؤسسي كان لها نتاج عظيم وأثر كبير على أرض الواقع.

٤- عدم وضوح الأهداف للعاملين في المؤسسة، فترى رأسها يسير بها في اتجاه، وربما الصف الأول من قياداتها كلٌّ منهم يقودها في اتجاه، وبقية أفرادها يسلك كل منهم طريقا ويسير نحو هدف، وهذا يؤدي للغموض وافتقاد العاملين لتحمل المسؤولية وتخبط مسيرة المؤسسة وتشتت أعمالها، ومرور السنوات الطويلة دون أن تحقق أهدافها التي أنشئت من أجلها.

٥- عدم جاهزية المؤسسة لمواجهة الأزمات الناتجة عن الفقدان المفاجئ لشخصياتها المركزية، وانهيارها أو ربما في أحسن الأحوال ضعفها وتخبطها في لحظات بمجرد فقدان رأسها أو العناصر المؤثرة فيها، وذلك لتركز الأعمال والأفكار والمهام والمسؤليات في شخصيات محدودة، وتأمل ما قد يحدث نتيجة لذلك من توقف لبعض المشاريع الدعوية وتعطل في بعض الأنشطة والأعمال، ولو كان بناؤها مؤسسيا لاستطاعت بكل سهولة مواجهة مثل هذه الأزمات، وذلك لأن الأعمال والمهام تكون واضحة، والمؤسسة تكون غنية بالقيادات البديلة الجاهزة والمدربة لإدارة الأزمات في أي وقت وتحت أي ظرف.

٦- فقدان التوجه السليم في اختيار الموارد البشرية المناسبة للمؤسسة واستقطاب الكفاءات التي تخدمها، وافتقادها كذلك لتوظيف الطاقات في مجالاتها المناسبة لها، وافتقادها تبعا لذلك للتدريب والتطوير الجيد الذي يمكّن تلك الكفاءات من آداء مهامها بالشكل الممتاز، وذلك يجر على المؤسسة الويلات من باب تصدر غير المؤهلين لمنابر الدعوة ومن ثم افتقاد المنبر الدعوي للقدرة على إيصال رسالته السامية وانحسار دائرة تأثيره.

٧- افتقاد المؤسسة للأساليب النظرية والإدارية التي تمكنها من تقديم أفضل مستوى من البرامج الدعوية المفيدة والمؤثرة.

٨- افتقاد المؤسسة للاستقرار المالي والإداري وذلك لافتقادها لنظم العمل (القواعد والسياسات والإجراءات والخطط) وعدم الاستقرار هذا ينتج عنه الكثير من السلبيات والتي من أسوئها حيدة المؤسسة عن أهدافها المنبثقة من رؤيتها التي قامت عليها، فتؤدي تلك السلبيات مجموعها لضعف العمل الدعوي الذي تقدمه المؤسسة للمجتمع.

٩- افتقاد المؤسسة للاستقرار على مستوى القيم والقناعات وذلك تبعا لعدم الاستقرار في العناصر العاملة، فترى تلك القيم والقناعات تتغير مضمونا واتجاها وهدفا تبعا للعنصر العامل الجديد.

١٠- عدم ضمان استمرارية العمل بكفاءته العالية وعدم ضمان استمرارية وجود المؤسسة الدعوية وذلك لخضوعها للأشخاص والأجيال والقيادات، وليس لمجموعة القيم والأنظمة والسياسات التي يفترض أن تبنى عليها كمؤسسة ناجحة، وقد تصل المؤسسة الدعوية نتيجة للضعف الناتج عن فقدانها للشخصيات التي قامت عليها إلى مرحلة تجعل من جدوى وجودها أمر يجب إعادة النظر فيه من قبل الجهات المسؤولة.

١١- انحسار وقلة دوائر الدعم المالي للمؤسسة، ويأتي ذلك كنتيجة متوقعة لافتقادها للعمل المؤسسي المنظم الذي يفترض تقوم عليه المؤسسة والذي – لو وجد – سيسهم بشكل مباشر في تحسين آدئها وزيادة منجزاتها، وأيضا في إبراز تلك المنجزات، وهذان الأمران بمجموعهما يشكلان عناصر جذب للداعم، كما أن فقدان العمل المؤسسي يجعل طرق الوصول لدعم المؤسسة غير واضحة وغير معروفة لدى الداعمين.

١٢- عدم استفادة المؤسسة الدعوية من تجاربها السابقة وخبراتها المتراكمة، وذلك لافتقادها للعمل المؤسسي الذي من أهم مبادئه المتابعة المستمرة والتقييم المستمر والتقويم المستمر.

مقترحات للعلاج

لعل فيما سبق مما أسميته “مآسي الانفصال المزمن بين العمل الدعوي والفكر المؤسسي” الكفاية في هذا الباب مما يجعلنا نعي ونستوعب الخطأ الفادح الذي نرتكبه والويلات التي نجرها على مؤسساتنا الدعوية بعدم تحويلها إلى مؤسسات تقوم على العمل المؤسسي المنظم، ويبقى أننا إذ وضعنا أيدينا على الجرح فإنه يجب علينا أن نصرف له العلاج، والعلاج في نظري ينطلق في ثلاثة مسارات:

أولا: بث الوعي وتغيير القناعات تجاه فكرة العمل المؤسسي وأهميته، والتوعية بفوائده وثماره لدى رواد المؤسسات الدعوية قيادات وأفراد.

ثانيا: توفير التدريب التطبيقي ذي الكفاءة العالية للعاملين في المؤسسات الدعوية على طرائق وآليات العمل المؤسسي.

ثالثا: أن ينطلق مشروع تحويل المؤسسات الدعوية إلى مؤسسات قائمة على الفكر المؤسسي من الدوائر والقيادات العليا، فذلك أسهل في التطبيق وأقرب للنجاح منه عندما ينطلق من الدوائر الصغرى في المؤسسات الدعوية.

وختاما أقول: من الواجب على قيادات ورواد المؤسسات الدعوية إعادة النظر في أوضاع مؤسساتهم، وأن يعوا أن هذه المؤسسات التي تحت أيديهم وإن نجحت في فترات زمنية معينة فإن استمرار ذلك النجاح لا يضمنه بعد توفيق الله إلا العمل المؤسسي المنظم، وأدعو إلى الاستفادة من تجارب مؤسسات العمل الإسلامي الشهيرة في العالم التي بنيت مؤسسيا ولا تزال تحقق النجاحات والإنجازات يوما بعد يوم.

وأسأل الله أن يوفقنا ويسدد منا القول والعمل ويصلح لنا نياتنا قبل كل شيء، والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

—–

* المصدر: صيد الفوائد (بتصرف يسير).

مواضيع ذات صلة