الانفصام الدعوي (2 /5).. مع النفس

لم يكن فظا غليظ القلب.. فنجوتُ من الإلحاد!

نهال محمود مهدي

حبلعلى هيئة قلب

الداعية الفطن هو من ييحول العقدة إلى مفتاح للقلوب

لطالما ناجيت ربي واستغفرته ووعدته ألا أعاود التفكير فيما يلاحق عقلي من ضلالات.. لكنني كنت أعود.

في مراهقتي مررت بتجربة شكوك عنيفة رغم خلفيتي الدينية، ودراستي الأزهرية.. هاجمتني شكوك من باب: من خلق الكون؟.. أين الإله؟.. لستِ مؤمنة في حقيقتك فوجود الإله مجردُ خُدعة.. بل زاد الأمر إلى حد ترديد لساني لبعض العبارات التي تشير لعدم اعتقادي بوجود خالق للكون أو إله يُعبد.

كان الأمر محيرا جدا بالنسبة لي، وكأن وسواسا بداخلي يغذي عقلي بتلك الأفكار اللعينة ويدفعني دفعا لترديد ما أقول بلا وعي.. كنت أتألم وأتعذب وأتعجب أن تفكر مثلي بتلك الطريقة وأنا القارئة لكتاب الله.. الدارسة لعلوم الشريعة.

كنت أبكي وأخاف ما أنا فيه وأنتظر نهاية تناسب غفلتي.. أنتظر عقاب الجبار على شكوكي وأفكاري.

كم من مرة رددت فيها عبارة التوحيد بعد أن حدثتني نفسي بأنني خرجت من الملة.. كم مرة بت أناجي ربي وأستغفره وأعده ألا أعاود التفكير فيما يلاحق عقلي من ضلالات، ثم تعاودني من جديد فأسقط في هوة عميقة من الأفكار المتوالية التي تحملني لنتيجة مفادها.. لا إله!

عشت أياما كالدهر.. أحسبني وصلت للطريق الذي لا رجعة منه ولا أمل فيه.

حتى كانت اللحظة التي حملت فيها نفسي وتوجهت لأبي لأحدثه بكلمات تسبقها العبرات، رحت أخاطبه وخجلي من حالي يخنقني.

كانت رغبتي في الخلاص مما أنا فيه، والاعتراف بذنبي الذي أثقل صدري أكبر من خوفي من عقاب أبي، أو صدمته في ابنته، أو ما قد يُسمعني إياه من آيات الويل والعقاب لمن أعرض عن ذكر الرحمن، أو ارتد عن طريق الله.

بُحت لأبي بمكنون نفسي.. تحدثت وتحدثت وتحدثت.. وهو صامت يراقبني.. لا يقاطعني، ولا تتغير ملامح وجهه الحيادية.. حتى انتهيت، ورفعت وجهي إليه لأتلقى رده.. وربما صفعته!

فإذا بنظرة حانية، وابتسامة شفقة.. لم أصدق ما رأيت.. أين غضب أبي والشرر الذي ظننته سيتطاير من عينيه؟ أين الصدمة فيّ؟، أين العقاب، واللوم والتقريع؟ أين غضب ربي الذي سيحذرني منه أبي؟ أين التحذير من حكي ما أمر به حتى لا يُفتضح أمري فينصرف الناس عن تلك الفتاة منحرفة الفكر؟

صمت أبي قبل أن يحدثني.. فظننت صمته للحظة.. سكون ما قبل العاصفة.. لكنه كان هدوء ما قبل بزوغ الفجر وانطلاق صخب الحياة من جديد.

احتواني أبي.. لم يتحدث كثيرا فاحتواؤه النفسي لي كان أعمق من أي حديث.. أخبرني أنني أحب الله بل أحبه بشدة لذلك هاجمتني وساوس الشيطان لتبعدني عمن أحب.

والأكثر روعة أنه أخبرني بأن الله يحبني أيضا؛ لذلك تحركت بداخلي كل تلك المشاعر حتى وصلتُ له وأفصحتُ عنها ولولا حبه تعالى لي لما هداني للطريق..

طلب مني أن أكون أكثر قوة في مواجهة وسواسي لأقضي عليه، وألا أبتعد عن طريق ربي مهما حدث، وأن أتسلح بالعلم والقراءة، وأجابني عن شبهة من خلق الله؟ بشكل يلائم عقل فتاة الثالثة عشر.

أحسست بالأمان لأول مرة بعد شهور من الخوف، بل وبالإقبال على الله من جديد، والأهم هو ما منحتني إياه عبارات أبي من ثقة وتحدِّ للذات ولوساوس الشيطان، والأعجب من كل ذلك هو إحساس  بالفخر!

نعم إحساس بالفخر.. لأنه لولا حبي لله لما أتتني وساوس شيطانية تحاول إبعادي عنه…

يا لروعة أبي وحنانه وفطنته وحكمته فلولاه لربما كنت في زمرة الملحدين الآن لا قدر الله.

استغاثاتي العاتية

قصتي حدثت من سنوات وظلت ساكنة في أعماقي لكن ما أعادها لعقلي الواعي الآن هو ما أقرؤه من استغاثات شباب راودتهم الشكوك وطرقوا باب الإلحاد، أو فتح لهم الباب بالفعل وانضموا لقافلة الملحدين.

تلك الاستغاثات التي تشبه أمواجا عاتية لبحر ثائر تصطدم بعقول صخرية جبارة فترتد لتتلاطم من جديد.

  • كم من شاب أفصح عن شكوكه فهوت على وجهه صفعة أفقدته ما تبقى من كبريائه وكرامته فمضى في طريقه قابلا للكسر عند أول صدمة.
  • كم من فتاة نظر إليها والداها على أنها جلبت لهم عارا بفكرها، فكتمته بداخلها وبثت سمومه عبر صفحات بعيدة عن الأعين بأسماء مستعارة ووجدت من يحتضن فكرها ويغذيه بعيدا عن رقابة الأهل.
  • كم شيخا ارتمى بين يديه حائر يطلب عونه وتفهمه فعُنف وأوذي وأُسمع آيات الويل والعقاب والعذاب حتى زهد في دين لا رأفة فيه ولا رحمة.
  • كم من تائه لجأ لمستشار أو عالم يشكو اضطرابه، ويخاطب قلبه، فرد عليه من وراء جدران عقله بمشاعر باردة وأحاسيس فاترة ترشده لمجموعة كتب ليطلع عليها ويجد فيها الجواب الشافي فيعود من الإلحاد إلى الإيمان بقدرة قادر!
  • كم من كاتب قُدوة أو معلم يُحتذى به سخر أو أهان أو سفه أو حط من قدر متشكك حائر باحث عن الحقيقة، وعامله كمصاب بداء معد يحذر الاقتراب منه تجنبا للعدوى؛ فانزوى وحيدا حتى وقع فريسة للاكتئاب أو الانتحار للخلاص من عالم يحيى فيه وحيدا بين ملايين البشر.
  • كم وكم وكم؟؟؟ استفهامات بلا نهاية.. أضعها بين أيدي الجميع، وددت لو صرخت بها لأسمع كل من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

همسات حانية

لكل أب وأم وزوج وصديق ومعلم وكاتب وعالم: احتووا من لجأ إليكم.. فلولا صدقه وشفافيته ورغبته في النهوض من كبوته لما بحث عن الحقيقة.

  • لا تصنعوا بأيديكم كائنات مشوهة مريضة حائرة قد يحاسبكم الله عنها قبل أن يحاسبها هي.
  • إذا جاءكم من يطلب المشورة فافتحوا له قلوبكم قبل صفحات كتبكم التي تستخرجون من بطونها الفتاوى والأحكام، افتحوا لهم أبواب رحمة الله الرحيم التي وسعت كل شيء، بشروهم بحب الله لهم وبتوبته عليهم، أخبروهم بإقباله على من أدبر عنه.. فما بال المقبلين عليه؟.
  • طمئنوا قلوبهم الحائرة حتى إذا استقرت خاطبوا عقولهم شيئا فشيئا حتى تعي الحقيقة من جديد.
  • لا تبدؤوا أحاديثكم باستعراض العلم والحجة ودحض شبهاتهم التافهة -من وجهة نظركم- فيحصل لكم انتصار زائف تستمتعون فيه بنشوة القضاء على خصم المعركة!
  • أخبروا الحائر أن شكوكه طريق لليقين وليست طريقا للإلحاد..
  • لكل صاحب كلمة أو ولي أمر احذر وانتبه فقد تَلقى حائرا متشككا تائها باحثا عن حقيقة الإله وخالق الكون فتحدثه بكلمات لا تُلقي لها بالا فتصنع ملحدا حقيقيا وأنت لا تدري، وربما لا يجمعك به اللقاء مجددا إلا أمام رب العباد فيُشهد الله على ظلمك له!
  • وربما تَلقى من هو على شفا حفرة من نار الكفر فترعاه برحمة وفطنة وعقل فيشفع عنك يوم الدين.

اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على طاعتك والإيمان بك والتصديق بوحدانيتك، ولا تُزغ قلوبنا عنك، وارزقنا حسن الخاتمة والثبات عند السؤال.. فالأمر كله لك وبين يديك.. أنت وحدك.. لا شريك لك.

——-

  • المصدر: موقع الباحث عن الحقيقة (بتصرف يسير).

مواضيع ذات صلة