الانفصام الدعوي (2 /5).. مع النفس

معالم الوسطية في معالجة النبي للأخطاء البشرية

النميري بن محمد الصبار

معالم الوسطية

التوازن معلم نبوي في معالجة الأخطاء

الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، والصَّلاةُ والسَّلامُ على النَّبيِّ الأمين، وعلى آله وصحْبهِ أجمعين.

أَمَّا بعدُ..

فإنَّ منَ البدهِيَّاتِ المقرَّرة شرعًا وعقلاً وحِسًّا أنَّ الخطأَ ملازمٌ للبَشر، لا يَنفَكُّ عنهم ألبتةَ، مهما بلغَ أحدُهم في مقامِ الاستقامةِ والتقوى شأوًا عظيمًا؛ كما جَاءَ الخبرُ بهذه الحقيقة فيما رواهُ أنسُ بنُ مالكٍ – رضي الله عنه – أنَّ النبيَّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – قال: ((كُلُّ ابنِ آدَمَ خَطَّاءٌ، وخَيْرُ الخطَّائِين التَّوَّابُون))[1].

وإذا وضعَ أربابُ الإصلاح والتربية والتوجيه هذه الحقيقةَ نُصبَ أعينهم، كانَ الواجبُ عليهم – حينئذٍ – أنْ يكونَ منهجُهم المرسومُ في تصحيحهم للأخطاء التي تَجري في محيطِهم العمليِّ في بُعدٍ تامٍّ عَنْ دائرة الأهواء البَشريَّة، والأمزجةِ الشخصية الواقعة، إمَّا في طرفِ الإفراطِ أو التفريط، وهذا ما لا يكونُ أبدًا إلا في ظلِّ معالِم الوسطية التي أرْسى دعائِمَها النَّبيُّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – ووضعَ أُسسها في معالجتهِ لتلكَ الأخطاءِ البشرية؛ لتكونَ بذلكَ تَشريعًا محكمًا، ينطلق منهُ المسلمونَ؛ أصلاً ومنهجًا، وسلوكًا فاعلاً في توجيهِ مسيرةِ الحياة وتقويمِ اعوجاجها؛ تحقيقًا للمصالح، ودَفْعًا للمفاسد.

وإذا كانَ الأمرُ على هذا النَّحو من الأهمية؛ فلنا آنذاك أنْ نذكُرَ في هذا السِّياقِ سِتةَ معالِمَ، عسى اللهُ أنْ يُوفِّقنا للأخْذِ بها، ومنْ ثَمَّ الانتفاع بثِمارها وآثارها، وهي:

1- المَعْلَمُ الأوَّلُ: التأنِّي، والتثبُّت، والهدوءُ، وتركُ العَجَلة والتَّسرع:

ولهذا المَعْلمِ أدلةٌ كثيرةٌ، لعلَّ أشهرها ما جاءَ في قِصَّةِ حاطبِ بنِ أبي بلتعةَ – رضي الله عنه – مع الرَّسولِ – صلَّى الله عليه وسلَّم – حينما بعثَ حاطبٌ – رضي الله عنه – كتابًا إلى كفَّار قريشٍ يخبرهم فيه بأنَّ النَّبيَّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – يُريدُ غزوَ مكةَ.

فهلْ تُرَى سارَعَ رسولُ الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – في إصدارِ الحُكمِ عليه، أو القضاءِ فيه مَعْ خطورةِ صنيعه وجَسامةِ فِعْله؟!

الجوابُ: كلاَّ، وألفُ كلاَّ! وإنَّما سألَهُ – صلَّى الله عليه وسلَّم – وفداه أبي وأمي – سُؤالَ المتثبِّت المتبيِّنِ في غاية الهدوء والرَّوِيَّة، فقال له:

((يا حاطِبُ، ما هذا؟))؛ كما ثَبتَ ذلكَ في رِوايةِ عُبَيْدالله بنِ أبِي رافِعٍ، عنْ عليٍّ – رضي الله عنه – بهِ[2]، وقالَ لهُ كذلكَ: ((ما حَمَلَكَ يا حاطِبُ، على ما صَنَعْتَ؟))؛ كما ثَبتَ ذلكَ في رِوايةِ أبي عبدالرَّحْمَن السُّلَمِيِّ عنْ عليٍّ – رضي الله عنه – بهِ[3].

2- المَعْلمُ الثَّاني: الرِّفقُ:

والأصْلُ في ذلك ما ثَبَتَ عَن عُرْوةَ بن الزُّبَيْر، أَنَّ عائِشَةَ – رضي الله عنها – زَوْجَ النَّبيِّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – قالتْ: دَخَلَ رَهْطٌ منَ اليهُودِ على رسولِ الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – فقالوا: السَّامُ عليكم، قالَتْ عائِشَةُ: ففهمتُها فقلت: وعليكم السامُ واللعنة، قالت: فقال رسولُ الله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَهْلاً يا عائِشَةُ، إِنَّ اللَّهَ يحبُّ الرِّفْقَ في الأمْرِ كُلِّه))؛ فقلتُ: يا رسولَ الله، أَوَلم تسمعْ ما قالوا؟ قال رسولُ اللهِ – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((قدْ قُلْتُ: وعليْكم))[4].

فالرَّسولُ – صلَّى الله عليه وسلَّم – في هذه الحادثةِ لم يَرُدَّ على اليهودِ بمثلِ قولهم، بلْ وَجَّهَ عائشةَ – رضي الله عنها – توجيهًا بديعًا بأَلاَّ تُغلظَ لهم القولَ؛ حيثُ قالَ لها: ((مهلاً يا عائشةُ))، وعلَّل ذلكَ بأنَّ الله يُحبُّ الرفق في جميع الأمور؛ لعمومِ قوله: ((إنَّ الله يحبُّ الرِّفقَ في الأمْر كلِّه))[5].

3- المَعْلمُ الثالث: الرَّحمة:

وممَّا يَدلُّ على هذا ما رواهُ أنَسُ بنُ مالِكٍ – رضي الله عنه – قال: دخلَ النَّبيُّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – فإذا حبلٌ ممدود بيْن الساريتين، فقال: ((ما هذا الحَبْلُ؟)) قالوا: هذا حبلٌ لزينبَ، فإذا فتَرتْ تعلَّقت، فقال النبيُّ – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا، حُلُّوه، لِيُصَلِّ أحَدكم نَشاطَه، فإذا فَتَرَ فَلْيَقعُدْ))[6].

4- المَعلمُ الرَّابع: الحكمةُ:

والأصلُ في هذا ما رواهُ أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: بينما نحنُ في المسجد مع رسولِ الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – إذ جاء أعرابيٌّ فقام يبول في المسجِد، فقال أصحابُ رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: مَهْ مَه! قال: قال رسولُ الله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا تُزْرِموه، دَعُوه))، فترَكوه حتى بال، ثم إنَّ رَسولَ الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – دعاه فقال له: ((إنَّ هذه المساجِد لا تصلُح لشيءٍ مِن هذا البول، ولا القذر، إنَّما هي لذِكر الله – عزَّ وجلَّ – والصَّلاة وقِراءة القرآن))، أو كما قال رسولُ الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – قال: فأمَر رجلاً مِن القوم فجاء بدلوٍ مِن ماء فشنَّه عليه[7].

ومعنى ((لا تُزرِمُوه))؛ أي: لا تقطعوا عليه بوله[8].

5- المَعْلَمُ الخامس: الموعظةُ الحسنة:

وقد دلَّ على هذا المعلَمِ ما جاءَ في قصَّةِ أسامةَ بنِ زيدٍ – رضي الله عنه – حينَ قتلَ الرَّجُلَ الَّذي قال: لا إله إلا الله، فلمَّا قَدِموا، وبلغَ النَّبيَّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – ما فعلَ أسامةُ؟ قال رسولُ اللهِ – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أَقَتَلْتَه؟))، قال: نَعَمْ، قَالَ: ((فكيف تصنَع بلا إله إلا الله إذا جاءتْ يوم القيامة؟!)) قال: يا رسولَ الله، استغفِرْ لي، قال: ((وكيف تصنَع بلا إله إلا الله إذا جاءتْ يوم القيامة؟!)) قال: فجعَل لا يَزيده على أن يقول: ((كيف تصنَع بلا إله إلا الله إذا جاءتْ يومَ القيامة؟!))[9].

قال الحافظُ ابنُ حجرٍ – رحمه الله تعالى -: “قالَ ابنُ التِّين: في هذا اللَّوْمِ تَعْلِيمٌ وإبلاغٌ في الموعظةِ؛ حتى لا يقدم أحدٌ على قتْل مَن تلفَّظ بالتوحيد))[10].

6- المَعْلمُ السَّادس: الحوارُ والإقناعُ والمجادلة بالتي هي أحْسن:

وممَّا يدلُّ على هذا المعلَم ما جاء عن أبي أُمامة قال: إنَّ فتًى شَابًّا أتَى النَّبيَّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – فقال: يا رسولَ الله، ائذنْ لي بالزِّنا، فأقْبَل القوم عليه فزَجَروه، وقالوا: مهْ، مه! فقال: ((ادْنُه، فدَنا منه قريبًا))، قال: فجلس قال: ((أتحبُّه لأمِّك؟)) قال: لا واللهِ – جعلني الله فداءَك، قال: ((ولا الناسُ يحبونه لأمَّهاتهم))، قال: ((أفتحبُّه لابنتِك؟))، قال: لا واللهِ يا رسول الله – جعلني الله فداءك، قال: ((ولا الناسُ يحبُّونه لبناتهم))، قال:((أفتحبُّه لأختك؟)) قال: لا واللهِ – جعلني الله فداءك، قال: ((ولا الناس يحبُّونه لأخواتهم))، قال: ((أفتحبُّه لعَمَّتِك؟)) قال: لا واللهِ – جعَلَني الله فداءَك، قال:((ولا الناس يُحبُّونه لعمَّاتهم))، قال: ((أفتحبُّه لخالتك؟)) قال: لا واللهِ جعَلني الله فداءَك، قال: ((ولا الناس يُحبُّونه لخالاتِهم))، قال: فوضَع يدَه عليه، وقال: ((اللهمَّ اغفرْ ذنبه، وطهِّر قلبَه، وحصِّن فرْجَه))، قال: فلم يكُن بعدَ ذلك الفتى يلتفتُ إلى شيء[11].

——–

[1] إسناده حسنٌ، أخرجه الترمذي في “سننه” برقم (2499).

[2] أخرجها البخاري في “صحيحه” (4/59/ح3007).

[3] أخرَجها البخاريُّ في “صحيحه” (8/57/ح6259).

[4] أخرجه البخاري في “صحيحه”، (8/12/ح6024).

[5] انظر: “شرح صحيح البخاري”، (9/225) لابن بطَّال.

[6] أخرجه البخاري في “صحيحه” (2/35/ح1150).

[7] أخرجه مسلم في “صحيحه” برقم (100).

[8] انظر: “شرح النووي على مسلم” (3/190).

[9] أخرجه مسلم في “صحيحه” برقم (97).

[10] “فتح الباري” (12/195).

[11] إسناده صحيح، أخرجه أحمد في “مسنده” (5/ 256 – 257).

____

* المصدر: موقع الألوكة.

 

مواضيع ذات صلة