الانفصام الدعوي (2 /5).. مع النفس

مـسـالك تـقـريـب الخطاب الشـرعي

د.أمينة مزيغة

لما كان المخاطبون بأحكام الشريعة الإسلامية ليسوا على وزان واحد من حيث الفهم والإدراك، وكان التواصل ضرورة ملحة لتقريب مضامين الشرع الحكيم، مسالك تقريب الخطاب الشرعيوالوقوف على موارده الصافية، كان من الضروري اعتبار مجموعة من المسالك تكون خادمة لهذا الهدف ومحققة له، ولعل أول ما ينظر إليه لتحقيق ذلك جملة أمور، منها:

– النظر في المكلف وأحواله، باعتباره محور التشريع، والمقصود بالامتثال لأوامره واجتناب نواهيه.

– اعتماد لغة تكون مفهومة وميسرة تحقق قصد الإفهام والتفهيم.

– مراعاة الرفق واللين عند توجيه الخطاب المراد تقريبه.

– اعتبار الواقع ومقتضياته في التقريب.

لا يمكن الحديث عن تقريب مضامين الشريعة من المكلف أو المتلقي، إذا لم يتم مراعاة مجموعة من الاعتبارات فيه، حتى يكون هذا المكلف أولا مدركا ثم فاهما لما يوجه إليه من خطاب، وقادرا على أداء ما تم إدراكه وفهمه على أتم وجه.

وأول ما ينظر إليه عند المخاطبة «العقل» يقول الإمام الغزالي رحمه الله: “المكلف: وشرطه أن يكون عاقلا يفهم الخطاب..؛ لأن التكليف مقتضاه الطاعة والامتثال، ولا يمكن ذلك إلا بقصد الامتثال، وشرط القصد العلم بالمقصود، والفهم للتكليف، فكل خطاب متضمن للأمر بالفهم، فمن لا يفهم، كيف يقال له: افهم؟! ومن لا يسمع الصوت كيف يُكلم؟!.. ومن يسمع قد يفهم فهما ما، لكنه لا يعقل ولا يثبت كالمجنون وغير المميز، فمخاطبته ممكنة، لكن اقتضاء الامتثال منه.. غير ممكن”(1).

فالقدرة على الفهم هي أساس التكليف، وبها تتحدد إمكانية مخاطبة الشخص أو عدم مخاطبته.

والذي يمكن أخذه مما سلف أن هناك خطابًا، وهناك بعده فهم، ثم تكليف فامتثال، أو بعبارة أخرى، لا امتثال دون تكليف، ولا تكليف دون فهم، ولا فهم دون عقل.

ثم هناك مسألة الاستعداد لتلقي ما يوجه إليه، ذلك أن المكلفين ليسوا على مستوى واحد من حيث القدرة على تطبيق ما تم فهمه؛ لاختلاف أحوال كل منهم حسب الزمان والظروف والقدرات، فليس الشاب كالشيخ، ولا الصحيح كالسقيم، ولا الذكر كالأنثى، فمراعاة الخطاب لأحوال المكلفين ومراتبهم في الفهم والتعقل، كل ذلك مما يُسهم في تقبل الخطاب، وتحقيق التواصل.

اللـغـة الـمـيسّـرة

من جهة أخرى هناك مسألة اللغة، باعتبارها أداة تتعدى وظيفتها التواصلية بين أطراف مختلفة من المجتمع، إلى وظائف أخرى تربوية، وتثقيفية، وعاطفية، وتفهيمية، ولتؤدي اللغة هذه الوظائف لابد أن تكون ميسرة، في متناول كل من يوجه إليهم الكلام، يقول الشاطبي رحمه الله: “إنما يصح -في مسلك الإفهام والفهم- ما يكون عامّا لجميع العرب، فلا يتكلف فيه فوق ما يقدرون عليه بحسب الألفاظ والمعاني، فإن الناس ليسوا على وزان واحد ولا متقارب، إلا أنهم يتقاربون في الأمور الجمهورية وما والاها، وعلى ذلك جرت مصالحهم في الدنيا”(2).

ويمثل لذلك بالتكاليف الاعتقادية التي أكد فيها أنه يجب “أن تكون من القرب للفهم، والسهولة على العقل، بحيث يشترك فيها الجمهور، من كان ثاقب الفهم، أو بليدًا، فإنها لو كانت مما لا يدركه إلا الخواص لم تكن الشريعة عامة؛ فلا بد أن تكون المعاني المطلوب علمها واعتقادها سهلة المأخذ”(3).

مراعـاة الرفـق والليـن

إن أي حديث أو كلام لن يلقى آذانا صاغية ولا قلوبا واعية، إذا لم يتم توصيله بطريقة تراعي الرفق واللين، وبكيفية محببة إلى نفوس المخاطبين، حتى لا ينفضوا ويديروا ظهورهم، ليس لعيب في مضمون الخطاب، بل فيمن يقدم هذا الخطاب، والكيفية التي يقدمه بها، ولا شك أن الناظر في كتاب الله -عز وجل- يلاحظ أن آياته لم تنزل للتضييق على الناس أو التشديد عليهم، بل “تنزل لهم بالتقريب والملاطفة والتعليم في نفس المعاملة به، قبل النظر إلى ما حواه من المعارف والخيرات”(4)، وتبعا لذلك عدد الإمام الشاطبي -رحمه الله- جملة أمور يتميز بها كلام الله -عز وجل- عند مخاطبة عباده، منها:

– الإبلاغ في إقامة الحجة على ما خاطب به الخلق، فإنه تعالى أنزل القرآن برهانا على نفسه على صحة ما فيه.

– ترك الأخذ من أول مرة بالذنب، والحلم عن تعجيل المعاندين بالعذاب، مع تماديهم على الإباية والجحود بعد وضوح البرهان، وإن استعجلوا به.

– تحسين العبارة بالكناية ونحوها في المواطن التي يحتاج فيها إلى ذكر ما يستحيا من ذكره في عادتنا، حتى إذا وضح السبيل في مقطع الحق، وحضر وقت التصريح بما ينبغي التصريح فيه، فلا بد منه، وإليه الإشارة بقوله {والله لا يستحيي من الحق} (الأحزاب: 53).

– التأني في الأمور، والجري على مجرى التثبت، والأخذ بالاحتياط(5).

على هذا المنوال، وسيرًا على نهج القرآن، حري بكل من رام تقريب مضمون الخطاب أن يكون لين الجانب، معتدلا، واقعيا، منفتحا على ما يعيشه الناس من مشكلات، واحتواء ما يمرون به من أزمات، وإيجاد مخارج لهم في ضوء هدي الشرع الحكيم.

اعتبـار الـواقع

من المعلوم أنه قبل التفكير في تقريب مضمون أي خطاب، لا بد من الإحاطة بواقع الناس، وفهمه بكل مكوناته، والتبصر بالأحوال والظروف المعيشة، وكذلك الإحاطة بمختلف القضايا الدينية، والسياسية، والاقتصادية، والثقافية، التي تحيط بالفرد والمجتمع؛ ذلك أن الواقع «ليس إلا مجموع الوقائع الفردية والجماعية، الخاصة والعامة، ومن ثم فإن فهم ذلك الواقع هو فهم تلك الوقائع، واستيعابها، وتبين طبيعتها، وخصائصها”(6)، إذ لا معنى لشحذ العقول بما لا علاقة للمتلقي به، وبما يضيق صدره به.

——

الهوامش:

1- المستصفى1/158.

2- الموافقات 2/65 .

3- الموافقات 2/67.

4- الموافقات 3/282.

5- انظر الموافقات 3/ 282- 283 .

———-

المصدر: مجلة الوعي الإسلامي.

مواضيع ذات صلة