الانفصام الدعوي (2 /5).. مع النفس

من مقومات الداعية الناجح.. رجاحة الصدر وسماحة النفس

د. علي عمر بادحدح

إن الداعية الحق شخصية متميزة فهو كالمنارة الهادية من بُعد لمن ضل أو حار، وهو كالظل الوارف لمن لفحه حر الشمس والمسير في الهجير، وبالتالي فهو نقطة تجمُّع smahtبالنسبة للمدعوين، ولذا فإنه يحتاج إلى أن يتحلى برحابة الصدر وسماحة النفس ليستوعب الناس ويستميلهم للخير والحق ((فالناس في حاجة إلى كنف رحيم، وإلى رعاية فائقة، وإلى بشاشة سمحة، وإلى ود يسعهم، وحلم لا يضيق بجهلهم وضعفهم ونقصهم، في حاجة إلى قلب كبير يعطيهم ولا يحتاج منهم إلى عطاء، ويحمل همومهم ولا يعنيهم بهمه، ويجدون عنده دائماً الاهتمام والرعاية والعطف والسماحة والود والرضاء)) الظلال (1/500-501).

وهكذا كان قلب الرسول الله صلى الله عليه وسلم وهكذا كانت حياته مع الناس، ((ما غضب لنفسه قط ولا ضاق صدره بضعفهم البشري، ولا احتجز لنفسه شيئاً من أعراض هذه الحياة، بل أعطاهم كل ما ملكت يداه في سماحة ندية، ووسعهم حمله وبره وعطفه ووده الكريم، وما من واحد منهم عاشره أو رآه إلاّ امتلأ قلبه بحبه، نتيجة لما أفاض عليه صلى الله عليه وسلم من نفسه الكبيرة والرحيبة)) في ظلال القرآن (1/500- 501)، والنفس السمحة ليس فيها ضيق أو السماحة السهولة واللين. انظر القاموس المحيط (1/229).

والناس مشاربهم شتى، وسلوكياتهم متباينة، واحتياجاتهم كثيرة، واستفزازاتهم مثيرة، وهذا لا بد أن يقابله الداعية بالاحتمال، لأن الاحتمال – كما قيل – قبر المعايب.

هذه الخصيصة مهمة في تكوين الداعية، يحتاج أن يجتهد في اكتسابها لأنها وقود محرك له في دعوته كما أنها ترفع كفاءة القبول، وتكبح جماح الانفعالات النفسية ذات الآثار السلبية، وتتجلى هذه الخصيصة في عدد من الخلال توضحها وتبين أثرها ومن أهمها:

أولا- الرحمة والشفقة:

((إن الداعي لا بد أن يكون ذا قلب ينبض بالرحمة والشفقة على الناس، وإرادة الخير لهم والنصح لهم، ومن شفقته عليهم دعوتهم إلى الإسلام، لأن في هذه الدعوة نجاتهم من النار وفوزهم برضوان الله تعالى، وأن يحب لهم ما يحب لنفسه وأعظم ما يحبه لنفسه الإيمان والهدى فهو ذلك إليهم أيضاً)) أصول الدعوة (ص:344،343).

وهذا الشعور الغامر بالشفقة على الناس يبعث في النفس الحزن والأسى على حال المعرضين والعاصين، ويتولد إثر ذلك قوة نفسية دافعة لاستنقاذهم من الخطر المحدق بهم، والهلاك القادمين إليه، وما أبلغ وأدق النص القرآني في بيان هذه الصفه عند الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم {فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا} الكهف[6] وقوله تعالى {لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين} الشعراء [3]. تأمل هذه الآيات فإنه ((من فرط شفقته صلى الله عليه وسلم داخله الحزن لامتناعهم عن الإيمان، فهوّن الله سبحانه عليه الحال، بما يشبه العتاب في الظاهر كأنه قال له: لم كل هذا ؟ ليس في امتناعهم– في عدِّنا– أثر، ولا في الدين من ذلك ضرر)) لطائف الإشارات(1/377).

وقال ابن القيم في تفسيره تفسير ابن كثير (3/72): يقول تعالى:{فلعلك باخع…} مسلياًَ لرسول صلى الله عليه وسلم في حزنه على المشركين لتركهم الإيمان وبعدهم عنه)).

فهذه نفس الرسول صلى الله عليه وسلم ملئت رحمة وشفقة على هؤلاء حتى كاد يُهلك نفسه وهو يدعوهم  ويحرص على هدايتهم، ثم يخالط مشاعره الحزن عليهم والأسى لهم.

إن الداعية ينظر إلى المدعوين نظرة الطبيب إلى مرضاه، يرحمهم ويشفق عليهم لعلمه بدائهم وخطورته، ويتلطف في علاجهم، وإن رأى منهم عزوفاً عن الدواء لصعوبته أو مرارته هاله الأمر واحتال بكل الطرق لتوصيل الدواء، وإقناعهم بضرورة تناوله، ولا يمكن أن يتركهم وشأنهم بحجة أنهم المفرطون، وهكذا فإن (( الداعي الرحيم لا يكفُّ عن دعوته ولا يسأم من الرد والإعراض لأنه يعلم خطورة عاقبة المعرضين العصاة، وأن  إعراضهم بسبب جهلهم، فهو لا ينفك عن إقناعهم وإرشادهم)) أصول الدعوة (ص:344).

فالرحمة – كما ترى – باعث دافع ومحرك للدعوة استنقاذاً للناس من الهلاك، وهي في الوقت نفسه عامل استمرار وإصرار وتوسيع لدائرة الاستيعاب والتأثير رغم الصد والإعراض.

ولا ينبغي أن تفهم الرحمة على أنها لين وتهاون بل تأتي الرحمة أحياناً كثيرة في ثنايا الحزم وفي أعطاف الشدة التي تهدف لصالح المدعو، كما قد يشتد الطبيب مع مريضه الذي لا يدرك خطورة مرضه وعظمة الخطر في ترك التداوي أو التقصير فيه ((فليست الرحمة حناناً لا عقل معه، أو شفقة تتنكر للعدل والنظام، كلا إنها عاطفة ترعى هذه الحقوق جميعاً)) خلق المسلم (ص:207).

وإن في سيرة المصطفى الكريم صلى الله عليه وسلم أعظم وأروع الأمثلة على الرحمة سيما في المواقف العصيبة التي بلغت فيها المعاناة أشد مراحلها التي تضغط بعنف على النفس لتشتد وتقسو، وعلى الصدر ليضيق ويتبرم، ومع ذلك تبقي نفسه الكبيرة ورحمته العظيمة هي الغالبة كما حصل يوم رجوعه عليه الصلاة والسلام من الطائف بعد أن ذهب إليها وفي قلبه أمل، فلقي فيها أعظم مما كان يتصور من الإعراض فرجع كسير القلب، فلما بلغ قرن المنازل بعث الله جبريل ومعه ملك الجبال، يستأمره أن يطبق الأخشبين على أهل مكة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ((بل أرجو أن يُخرج الله عز وجل من أصلابهم من يعبد الله عز وجل لا يشرك به شيئاً)) أخرجه البخاري، في كتاب بدء الخلق، باب إذا قال أحدكم آمين والملائكة في السماء (الفتح)(6/360)، وفي صحيح مسلم كتاب الجهاد، باب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين والمنافقين (عبد الباقي) (3/1420) وانظر الرحيق المختوم (ص:150).

وفي يوم أحد عندما شجّ وجهه الشريف، وكُسرت رباعيته، ودخلت حلقتا المغفر في وجنتيه (انظر الرحيق المختوم (ص:314)، وبينما الدم يسيل على وجهه يقول عليه الصلاة والسلام: ((اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)) وفي صحيح مسلم قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبياً من الأنبياء، صلوات الله وسلامه عليهم، ضربه قومه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول:(( رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)) أخرجه مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب غزوة أحد (عبد الباقي) (3/1417)، ومن هنا جاء الوصف الرباني العظيم في ثنايا الآيات التي نزلت في غزوة أحد: {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لا نفضوا من حولك } آل عمران [159].

((لقد أراد الله أن يمتنَّ على العالم برجل يمسح آلامه، ويخفف أحزانه، ويرثي لخطاياه، ويستميت في هدايته، ويأخذ يناصر الضعيف، ويقاتل دونه قتال الأم عن صغارها، ويخضد شوكة القوي حتى يرده إنساناً سليم الفطرة لا يضري ولا يطغي فأرسل محمداً صلى الله عليه وسلم وسكب في قلبه من العالم والحلم، وفي خلقه من الإيناس والبر، وفي طبعه من السهولة والرفق، وفي يده من السخاوة والندى، ما جعله أزكى عباد الله رحمة،  وأوسعهم عاطفة، وأرحبهم صدراً)) خلق المسلم (ص:204).

نعم ((إن الرحمه كمال في الطبيعة يجعل المرء يرق لآلام الخلق ويسعى لإزالتها، ويأسى لأخطائهم فيتمنى لهم الهدى، هي كمال في الطبيعة، لأن تبلد الحس يهوي بالإنسان إلى منزلة الحيوان ويسلبه أفضل ما فيه، وهو العاطفة الحية النابضة بالحب والرأفة)) خلق المسلم (ص:203).

ثانياً: الحلم والأناة:

في مسيرة الدعوة تمر بالداعية أحداث مثيرة، وأفعال مستفزة، والناس – باختلاف طبائعهم – تختلف مواقفهم إزاء المثيرات التي تعمل على دفعهم نحو الرعونة والطيش، فمنهم من ((تستخفه التوافه فيستحمق على عجل، ومنهم من تستفزه الشدائد فيبقي على وقعها الأليم محتفظاً برجاحة فكره وسجاحة خلقه))خلق المسلم (ص: 106).

والحلم ((فضيلة خلقية نافعة.. تقع في قمة عالية دونها منحدرات، فهو أناة حكيمة بين التسرع والإهمال أو التواني، وضبط للنفس بين الغضب وبلادة الطبع، ورزانة بين الطيش وجمود الإحساس)) الأخلاق الإسلامية (2/325).

والأناة عند الداعية إلى الله تعالى ((تسمح له بأن يُحكم أموره، ويضع الأشياء في مواضعها، بخلاف العجلة فإنها تعرضه للكثير من الأخطاء والإخفاق، وتعرضه للتعثر والارتباك، ثم تعرضه للتخلف من حيث يريد السبق، ومن استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه، وبخلاف التباطؤ والكسل فهو أيضاً يعرض لللتخلف والحرمان من تحقيق النتائج التي يرجوها)) الأخلاق الإسلامية (2/353)، وقد امتدح النبي صلى الله عليه وسلم الأشج فقال: ((إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة)) أخرجه مسلم، في كتاب الإيمان، باب: الأمر بالإيمان بالله ورسوله (عبد الباقي)(1/48)، فرحابة الصدر وسعة النفس تقتضي عدم الانفعال المخرج عن حد الصواب والاعتدال، وجمهور الدعوة قد يقع منهم ما يدفع إلى الغضب، وكثيراً ما يتصرفون بدافع من العجلة والرغبة في الحصول على النتائج السريعة، ومجاراة الداعية لهم في الحالتين خلل في مسلك الدعوة، لأن المسايرة قد تؤدي إلى عواقب وخيمة، وقد يكون أولئك العامة مندفعين إلى تلك العواقب بحمية عصبية وحماسة استفزازية، ((لكن المصلحين العظماء لا ينتهون بمصائر العامة إلى هذا الختام الأليم، إنهم يفيضون من أناتهم على ذوي النزق حتى يلجئوهم إلى الخير إلجاءً، ويطلقوا ألسنتهم تلهج بالثناء)) خلق المسلم (ص:107).

ومن أمثله من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ما رواه أنس بن مالك حيث قال: جاء أعرابي فبال في طائفة المسجد فزجره الناس، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم، فلما قضى بوله أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذنوب ماء أهريق عليه (أخرجه البخاري، كتاب الطهارة، باب صب الماء على البول في المسجد (الفتح) (1/324).

ومواقف أخرى كثيرة تبين حمله الذي لا يندفع فيه مع مقتضى الطبع، ولا يمضي معه وفق أعراف الجاهلية وانتصاراتها المبنية على الحمية لأن ((الجاهلية التي عالج رسول الله صلى الله عليه وسلم محوها كانت تقوم على ضربين من الجهالة، جهالة ضد العلم وأخرى ضد الحلم، فأما الأولى فتقطيع ظلامها يتم بأنواع المعرفة وفنون الإرشاد، وأما الأخرى فكف ظلمها يعتمد على كبح الهوى ومنح الفساد، وقد كان العرب الأولون يفخرون بأنهم يلقون الجهل بجهل أشد.

ألا لا يجهلن أحد علينا *** فنجهل فوق جهل الجاهلينا

(خلق المسلم ص109).

ثالثاً: العفو والصفح:

ومن مستلزمات الحلم الذي فيه كظم للغيظ وضبط للغضب، ثم الأناة التي فيها تبصر بالأمور وتأن في التصرف، مع الاستناد للرحمة بالجاهلين كل ذلك يثمر العفو والصفح لأن ((القلوب الكبيرة قلما تستجيشها دوافع القسوة فهي أبداً إلى الصفح والحنان أدنى منها إلى الحفيظة والاضطغان)) خلق المسلم (ص:204).

ومادام الداعي المسلم ينظر إلى من يدعوهم نظرة الرحمة والشفقة عليهم فإنه يعفو ويصفح عنهم في حق نفسه، قال تعالى:{خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين} الأعراف [199].

وإذا كان هذا هو شأن الداعي المسلم بالنسبة لمن يدعوهم ويحتمل صدور الأذى منهم فإن عفو الداعي وصفحه عن أصحابه أوسع، قال تعالى: {فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر} آل عمران [159].

وعند ما وقعت حادثة الإفك، كان وقعها على آل أبي بكر شديداً، فلما نزلت البراءة حلف أبو بكر رضي الله عنه ألا ينفق على مسطح بن أثاثة فأنزل الله في ذلك قوله تعالى: {ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم} النور [22].

والداعية الذي يهدف إلى استمالة القلوب وهدايتها لا يقسو لأن ((القسوة التي استنكرها الإسلام جفاف في النفس لا يرتبط بمنطق ولا عدالة. إنها نزوة فاجرة تتشبع من الإساءة والإيذاء، وتمتد مع الأثرة المجردة والهوى الأعمى))خلق المسلم (ص: 207)، ومن أعظم مواقف العفو عفو النبي صلى الله عليه وسلم عن المشركين يوم فتح مكة. الرحيق المختوم (ص:480، 481).

وهكذا فإن رحابة الصدر وسماحة النفس تنتظم الرحمة التي تدعو إلى الحلم الذي يقود إلى العفو فيكون من وراء ذلك التأثير التلقائي لأن الإنسان يتأثر بالإحسان:{ادفع بالتي هي احسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم} فصلت [34].

وهذا أمر مشاهد حيث نرى أن من كان سمح النفس يستطيع (( أن يظفر بأكبر قسط من محبة الناس له، وثقة الناس به، لأنه يعاملهم بالسماحة والبشر ولين الجانب، والتغاضي عن السيئات والنقائص، فإذا دعاه الواجب إلى تقديم النصح كان في نصحه رقيقاً ليناً، سمحاً هيناً، يسر بالنصيحة، ولا يريد الفضيحة، يسد الثغرات ولا ينشر الزلات والعثرات )) الأخلاق الإسلامية (2/443).

وبعض الدعاة ممن لا يتحلون في أنفسهم بهذه السمة تجدهم يندفعون مع أدنى خطأ أو أقل عثرة، وإذا بهم يدعون بالويل والثبور وعظائم الأمور، وكثيراً ما يواجهون الناس بالأحكام الدامغة الخطيرة من الفسق أو الابتداع أو التساهل ونحو ذلك، وهؤلاء كثيراً ما يستزلهم الشيطان بهذه الحمية الزائفة التي لا تأتي في موضعها الصحيح، والشيطان ينفخ في حميتهم بأن الحق أحق أن يتبع، ويثير التساؤل أين الغيرة الإيمانية والحمية الإسلامية ؟ ليغطي على الأناة التي تنظر في عواقب الأمور والحلم الذي يضبط النفوس والرحمة التي تستميل القلوب، بعض هؤلاء – وللأسف – يندفعون أحياناً خوفاً من أن يُتهموا بعدم الغيرة أو التميع والتساهل، ولا يفهم من قولي أن كل فاعل لذلك مذموم، ولا أن كل موقف يقتضي الحلم واللين فقد أشرت فيما سبق إلى ما ينقص  هذا الفهم ولكني أنوه إلى صور في الواقع ناشئة من أفهام قاصرة وممارسات خاطئة.

المصدر: كتاب مقومات الداعية الناجح للدكتور بادحدح.

مواضيع ذات صلة