الانفصام الدعوي (2 /5).. مع النفس

الوقت في قاموس الدعوة والداعية

جمال زواوي أحمد

إن الوقت في قاموس الدعوة والدعاة هو الحياة، ولا يعرف قيمة الوقت وحقيقته إلا من ذاق لذة 542711العمل الدائب والحركة النشطة.

ولا يمكن أن تتحقق أهداف الدعوة وتسير إلى الأمام بخطى ثابتة وتقطف ثمارها ناضجة  إلا إذا عرف أبناء هذه الدعوة والعاملين لها قيمة الوقت وأدركوا أن “إضاعة الوقت أشد من الموت؛ لأن إضاعة الوقت تقطع عن الله والدار الآخرة، والموت يقطع عن الدنيا وأهلها”، كما قال ابن القيم رحمه الله.

فالحركة الدائبة والعمل الدائم المثمر حياة الدعوات وقبس نورها وسر نجاحها؛ فالممارسة الفاعلة الواعية تخصب الأفكار وتعدّلها وتحفظها من الأفول.

ولقد أبدع الجيل الأول من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان وحقق المعجزات، لمّا وعى قيمة الوقت حتى قال الحسن البصري رحمه الله: “لقد أدركت أقواما كانوا على أوقاتهم أشد منكم حرصا على دراهمكم ودنانيركم”.

وقد أوصى الصالحون أنّ “نهارك ضيفك فأحسن إليه، فإنك إن أحسنت إليه ارتحل بحمدك، وإن أسأت إليه ارتحل بذمّك وكذلك ليلك”، وقد اعتبروا الراحة والفراغ والبطالة وإضاعة الوقت من نواقض المروءة ومن دنو الهمة ومن علامات المقت حتى قال قائلهم: “الراحة للرجال غفلة”، و”طلب الراحة لا يصح لأهل المروءات” و”إضاعة الوقت من علامات المقت”، ولمّا سئل بعضهم: “متى يجد العبد طعم الراحة؟، قال: عند أول قدم يضعها في الجنة”.

كانت هممهم دائما متطلّعة إلى هدف أسمى وغاية عظمى لا يألون جهدا ولا يدّخرون طاقة إلا وبذلوها في سبيل غايتهم .

ولقد أدرك الرعيل الأول من قادة الدعوة في العصر الحديث ما أدركه سلفهم من قيمة الوقت وعاقبة الفراغ، فقد ذكر الشيخ البنا رحمه الله عن نفسه أنّه “ليس يعلم أحد إلا الله كم من الليالي كنّا نقضيها نستعرض حال الأمة وما وصلت إليه في مختلف مظاهر حياتها، ونحلّل ونعلّل الأدواء ونفكّر بالعلاج وحسم الداء، ويفيض بنا التأثر لما وصلنا إليه إلى حد البكاء.

وكم كنّا نعجب إذ نرى أنفسنا في مثل هذه المشغلة النفسانية العنيفة، والخلّيون هاجعون يتسكّعون بين المقاهي ويتردّدون على أندية الفساد والإتلاف.

وإذا سألت أحدهم عمّا يعمله على هذه الجلسة الفارغة المملّة قال لك: أقتل الوقت، وما درى هذا المسكين أن من يقتل وقته إنّما يقتل نفسه؛ فإنّما الوقت هو الحياة”.

إن سنن الله لا تحابي حيث لا يمكن في ميزانها أن نغفل ونتراخى ونضيع الأوقات في غير فائدة بل نقتلها ونعيش في أجواء الفراغ والبطالة الدعوية، ثم نريد أن ننام الليل فنستيقظ فنجد الواقع قد تغير في الصباح وأهداف الدعوة قد تحققت، فما هذه إلا منى والأماني رؤوس أموال المفاليس.

وقد صور لنا سيد قطب رحمه الله النفوس الفارغة المضيعة لأوقاتها الخالية من الجدية تصويرا دقيقا لما قال: “إنها صورة النفوس الفارغة التي لا تعرف الجد، فتلهو في أخطر المواقف وتهزل في مواطن الجد وتستهزئ في مواطن القداسة، والنفس التي تفرغ من الجد والاحتفال بالقداسة، تنتهي إلى حالة من التفاهة والجدب والانحلال؛ فلا تصلح للنهوض بعبء ولا الاضطلاع بواجب ولا القيام بتكليف وتغدو الحياة فيها عاطلة هيّنة رخيصة”.

وكما أن للفراغ وإضاعة الوقت تأثيرا على الفرد فإن له تأثيرا على المجموع كذلك؛ فالصف الذي تنتشر فيه البطالة تكثر فيه المشاغبات.

ولعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أراد أن ينبهنا إلى هذه القاعدة في العمل التربوي والدعوي لما حدث ما حدث في غزوة بني المصطلق؛ حيث أمر بالرحيل في وقت لم يكن يرحل فيه كما يقول ابن هشام: “ثم مشى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالناس يومهم ذاك حتى أمسى وليلتهم حتى أصبح وصدر يومهم، ثم نزل بالناس فلم يلبثوا أن وجدوا مس الأرض فوقعوا نياما حتى آذتهم الشمس، إنما فعل ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليشغل الناس عن الحديث الذي كان بالأمس”.

فمن علامات حياة قلب الداعية ودليل جديته وحرصه على دعوته حساسيته المفرطة من تضييع وقته وخشيته وحذره من الغبن في فراغه ووقته وصحته كما جاء في الحديث: “نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ”..

كذلك من العلامات أن يكون منحناه البياني في صعود وترقي دائم، فإن مجرّد تساوي يومه مع أمسه من حيث الزيادة في الخير والعمل والحركة والإيجابية هو غبن كذلك في عرف الصالحين الذين قالوا: “من تساوى يوماه فهو مغبون”.

كذلك من العلامات الندم والتحسر على كل جزء من وقته يضيع في غير فائدة في دينه ودنياه، قال ابن مسعود رضي الله عنه: “ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه، نقص فيه أجلي ولم يزدد فيه عملي”.

وقال عمر رضي الله عنه: “إني لأكره أن أرى الرجل سبهللا (فارغا)، لا في عمل دنيا ولا في عمل آخرة”.

كذلك من العلامات أن يتبرّم ويجفل من قاتلي أوقات أهل الجد ولصوصها وسارقيها الذين تحدث عن بعضهم ابن الجوزي رحمه الله، وبيّن لنا كيف استطاع توظيفهم لمّا قال: “فجعلت من المستعد للقائهم قطع الكاغد (الورق) وبري الأقلام وحزم الدفاتر، فإن هذه الأشياء لا بد منها ولا تحتاج إلى فكر وحضور قلب، فأرصدتها لأوقات زيارتهم، لئلا يضيع شيء من وقتي.

ولقد أحصى لنا أحد الصالحين مجالات استغلال الوقت بشكل عام وكل مجال تدخل تحت مسمّاه عدة مجالات فرعية تفصيلية، فقال: “من أمضى يومه في غير حق قضاه أو فرض أدّاه أو مجد أثلّه أو حمد حصّله أو خير أسّسه أو علم اقتبسه.. فقد عق يومه وظلم نفسه”.

فمن غفل عن هذه الأمور الستة، وخلا قاموسه منها أو من بعضها فهو عاق لوقته ولعمره ولحياته وسيكون مآله الخسران ومصيره البوار بلا أدنى شك، وما أشدّه من عقوق وأقساه وأهلكه وأسوده عاقبة.

لا يفهم من حديثنا أنّنا ننفي الراحة مطلقا عن مجتمع الدعاة؛ بل لا بد من سنة الغفلة والرقاد، ولكن كن خفيف النوم، كما أرشدنا العلامة ابن القيم في فوائده .

فالبدار البدار فإنه لا توفيق مع الفراغ، ولا نجاح مع إضاعة الوقت، ولا انتصار مع عقوقه وقتله في الترّهات، ولا قيمة لأهل الفراغ والغفلة والبطالة في ميزان الدعوات؛ فالوقت هو الحياة، فإمّا أن يكون وقتنا نماء وعمارا، أو يكون هلاكا ودمارا، ولا توسّط بينهما ألبتّة.

__________________

المصدر: موقع (يا له من دين).

مواضيع ذات صلة