خالد رُوشه
للموعظة مكان معروف في قلوب الطيبين، تذكرهم بالخير، وتدعوهم إلى الاستقامة، تبشرهم وتنذرهم، ترغبهم في التوبة والعودة والإنابة إلى الله والمسارعة في الخيرات، والتربية الإيمانية تعتمد الوعظ طريقة تعليمية توجيهية مستوحاة من كتاب الله سبحانه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، قال سبحانه {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} (يونس: 57)، ولكي نحصل على موعظة مثالية مؤثرة اقدم لك قارئي الكريم تلك الوقفات
أولا: الموعظة ترتكن ابتداء على إخلاص قائلها، فما خرج من القلب سيجد له طريقا إلى القلوب، وما اقتصر على كلمات اللسان فلن يجاوز الآذان، ولما سئل أحد الصالحين عن واعظ يعظ الناس طويلا ولا يؤثر فيهم وعن آخر يقل في موعظته لكنه يؤثر في الناس قال: ليست النائحة الثكلى كالنائحة المستأجرة، فالأول مستأجر يؤدي دور ببرود، والثاني صادق ولو كان قليل الكلام.
ثانيا: الموعظة إنما هي كلام طيب، لا سوء فيه ولا إساءة، فلا يصح فيها غيبة الناس ولا انتقاصهم، ولا يجوز فيها سوء الظن بهم، كما لا يعتبر فيها الإساءة إلى العصاة الراغبين في التوبة والإنابة ولا ازدراء صاحب الغفلة؛ فإن الاستهانة بأهل الغفلة من رعونات النفوس ونقائصها، فالموعظة كلم طيب قائم على الترغيب بأحسن الأساليب وألطفها أو الترهيب بأكثرها تأثيرا مما يذكر بالله وعظمته ولا ينفر عاصيا أو بعيدا، بل يقربهم ويؤويهم ويحببهم في العودة إلى سبيل الله المستقيم
ثالثا: الموعظة تقوم أساسا على اللغة العربية، التي زينتها البلاغة وحسن اختيار الألفاظ والتعبيرات الجذابة، فلا موعظة بمهجور الكلمات، ولا بغريب الألفاظ، ولا موعظة بالكلام الركيك عديم القيمة، إنما الواعظ هو البليغ جذل اللفظ واضح البيان وإن قلت كلماته
رابعا: يظن الكثيرون أن الموعظة تقوم على رفع الأصوات وانقطاعها، واحمرار الوجوه واكفهرار الصورة، والعبوس والغضب، وهو ظن خاطئ سلبي، وهم يستدلون على صحة فعلهم بما روي من أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خطب أسمع، وأنه ربما كان يعلو صوته ويحمر وجهه كأنه منذر جيش يقول: صبحكم ومساكم ..
ومكمن خطئهم أنهم اعتبروا هذه الحالة المروية في الحديث إنما هي الحالة الأصلية التي يجب أن يكون عليها الواعظ، ونسوا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان حكيما عليما، يضع الشيء موضعه، فلم يكن ليقسو في مواطن الرفق، ولا ليرفق في مواطن لقاء العدو ومواطن البلايا والفتن؛ فلكل مقام مقال، ولكل حالة أسلوب.
فربما كان الوعظ في بعض الموضوعات يناسبه الابتسام الرائق والصوت المنخفض أكثر مما يناسبه الصراخ والعبوس، كمثل أن يتحدث الواعظ عن الجنة ونعيمها أو يتحدث عن الأخلاق وشمائلها وهكذا.
خامسا: يجب أن يختار الواعظون أوقات وعظهم، ولا يكثروا منه فتمل قلوب الناس، وفي الصحيح من قول عبد الله بن مسعود “كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتخولنا بالموعظة مخافة السآمة علينا”.
سادسا: يجب أن ينشئ المتحدث والواعظ بينه وبين المستمع حالة من المحبة والشفقة والرحمة والعطف والرفق، لا أن يشعره بالقسوة والغلظة؛ فإنشاء الحالة الإيجابية يكون دافعا إيجابيا لقبول الموعظة وداعما قويا للتفاعل معها.
سابعا: لا موعظة بغير قدوة، ولئن وعظ الواعظون بصالح الأخلاق بينما سلوكياتهم تناقض ذلك؛ فإن مواعظهم لن تجاوز أفواههم، فليهتم كل خطيب وواعظ بسيرته الذاتية طاعة لله سبحانه وإنابة له، وإلا فلا أثر لكلماته ولا قيمة لجهده؛ فالناس يريدون أن يروا الموعظة تطبيقيا في سلوك صاحبها حتى يتأثروا بها، فكم سمعوا من كلمات ومحاضرات وخطب، ولما سئلت عائشة -رضي الله عنها- عن خلقه -صلى الله عليه وسلم- قالت: “كان خلقه القرآن”.
ثامنا: ينبغي أن يعيش الواعظ الواقع الحقيقي، وألا يكون حديثه مجرد عظات جافة أو كلمات بعيدة عن الواقع؛ فينبغي عليه أن يضرب المثال الواقعي لتطبيق النصائح التي يقدمها، وينبغي عليه أن يضع يده على جروح المجتمعات وأمراض الناس وآفات الجماعات، كما ينبغي عليه أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر بكلماته، وألا يكون كوعاظ السلاطين يتحدثون بما يحبه أمراؤهم، ويكتمون الحق عما يغضبهم، بل يقول كلمة الحق في الرضا والغضب، ويبلغ الدين، وينصح العالمين.
يقول الغزالي رحمه الله: “وليس كل من ادعى العلم أو اعتلى المنابر أصبح واعظا؛ فالوعظ زكاة نصابها الاتعاظ، ومن لا نصاب له كيف يخرج الزكاة؟! وفاقد النور كيف يستنير به؟! ومتى يستقيم الظل والعود أعوج؟!”.
المصدر: موقع المسلم.