محمد الدسوقي
إن الإسلام الذي أمر الله سبحانه وتعالى بالدعوة إليه ينتظم العقيدة التي تفسر للناس الكون من حولهم، والحياة التي يعيشونها، والوجود الإنساني.. كما ينتظم القوانين التي تتضمن المصالح التي لا قيام للمجتمع إلا بها، والمصالح التي تيسر للناس الحياة، والمصالح التي ترشدهم إلى العادات الحسنة والعرف الصالح، وتعرفهم بنظام العبادة والسلوك الطيب الحسن.
والإسلام ينتظم -أيضا- المبادئ التي تحفظ حقوق الفرد، وتحمي حريته، وتصون كرامته، وتدعو إلى العمل الجاد لدين الله سبحانه وتعالى، ولدنيا الناس، كما ينتظم العلاقات الإنسانية التي يمكن أن ترسي قواعد السلام العالمي، وتعاليمه تناهض النظام الطبقي، والتمايز العنصري، وتدعو إلى احترام العقل وقبول حكمه فيما له قدرة على الفصل فيه.
وهذه القضايا هي في حقيقة أمرها قضايا الحياة التي جاء بها الوحي ليستقيم أمر الناس، ويأمنوا الضار وهم يحاولون التقدم الصحيح، والرقي المنشود.. ومن ثم عظُم أمرُ الدعوة إلى الله تعالى، وجل شأنها، ويبدو ذلك جليا في آيات القرآن الكريم.. يقول عز وجل آمرا بالدعوة: {وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (آل عمران: 104).
وهي وظيفة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ووظيفة أتباعه من بعده.. يقول عز وجل: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (يوسف: 108).
والدعوة إلى الله عز وجل أحسن قول، وأهدى عمل.. يقول سبحانه: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (فصلت: 33)، وقد أخذ الله تعالى الميثاق على أهل الكتاب أن يدعوا إلى كلمة الله الحقة فقال عز وجل: {وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ} (آل عمران: 187).
خير أمة
وإهمال الدعوة من كبائر الإثم، ومن موجبات العقاب.. يقول سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (البقرة: 159-160).
والأمة الإسلامية تميزت عن غيرها من الأمم بقيامها بهذه الفريضة.. يقول عز وجل: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ} (آل عمران: 110).. وبهذا تستحق الأمة الإسلامية رعاية الله سبحانه وتعالى، والاستظلال بظلال رحمته الوارفة.. قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (التوبة: 71).
صفات الدعاة
إن الدعوة إلى الله عز وجل دعوة إلى الحق والخير، ووراثة للنبوة، ولا يصلح لها إلا عظماء الرجال، وصفوة الأمة، والذين مَنّ الله تعالى عليهم بصفات متميزة تعينهم على النجاح في أداء مهمتهم السامية.. ومن هذه الصفات:
– العلم بالدعوة، والرسوخ في الدين، ومعرفة العلوم التي تعين الداعية على النجاح فيما هو بصدده، ووعي المذاهب الاجتماعية، والاتجاهات الفكرية المعاصرة.
– العمل الذي يتمثل في قوة الإيمان، وشدة الإقبال على الله سبحانه وتعالى، والزهد فيما لا ينفع، وتذكر الآخرة والاستعداد لها.
– التزام القانون الأخلاقي من الصدق والإخلاص والشجاعة في الجهر بالحق والصبر والمصابرة، والأمل في النجاح حتى لا يتسرب اليأس إلى النفس.
– القدرة على التعبير والتأثير، وحسن العرض، وقوة الحجة.
– فهم أساليب الدعوة، واختيار الأسلوب العصري والسهل والفصيح.
– لا بد أن يكون الداعية قدوة حسنة فيما يدعو إليه من خلق حسن، وعزوف عن سفاسف الأمور، وتحمس للحق والخير.
نقول هذا بعد أن دخل ميدان الدعوة إلى الله نفر ممن لا يحسنون عرض الإسلام، ويمثلون في الواقع عبئا عليه إذ تحسب تصرفاتهم وأفعالهم الشخصية على الإسلام وهو منها براء!
أسلوب الدعوة
وضع الإسلام للدعوة أسلوبا حكيما، ومنهجا رشيدا.. فهو يقسم المدعوين أقساما ثلاثة، ويجعل لكل قسم أسلوبا خاصا به:
القسم الأول: جماعة العلماء.. وهؤلاء يدعون بالحكمة.. وهي أعلى أنواع المعرفة، والمعبر عنها بالفلسفة التي يذعن لها العقل، ولا يجد بدا من الخضوع لها.
القسم الثاني: عوام الناس.. وهؤلاء تكون دعوتهم بالموعظة.. وهي التعاليم التي تشعر النفس البشرية بنقصها، وخطر أمراضها الاعتقادية والخلقية، وتحملها على معالجتها حتى تشفى وتهتدي.
القسم الثالث: طائفة المجادلين.. وهؤلاء ينبغي أن يكون الجدل معهم حسنا لا يشوبه عنف، ولا تخالطه غلظة.. وإنما تواجه الحجة بالحجة، وتقاوم الفكرة بالفكرة على أساس من المنطق السليم ابتغاء تجلية الحق والكشف عن وجه الصواب.
وهذا الأسلوب هو الذي ذكره رب العزة سبحانه وتعالى في قوله: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل: 125).
طرق الدعوة
الحقيقة التي لا مراء فيها أن الدعوة إلى الله عز وجل لها طرق كثيرة.. منها الخطابة والمحاضرات والندوات ودروس الوعظ والتذكير.. وهذه يكون تأثيرها كبيرا في النفوس متى صدرت عن إخلاص، ومتى أعدها الداعية وأداها بأسلوب حسن، وكانت تعالج واقع الناس، ومشكلات الحياة.
ومن طرق الدعوة: المساجد، والمعاهد، والمدارس، والصحف، والإذاعة، وسائر أجهزة الإعلام الحديثة التي لابد من أن توضع لها سياسة مرسومة، وخطط حكيمة حتى تثمر ثمارها، وتنتج آثارها من الاستضاءة بنور الوحي، والاهتداء بهداية الإسلام.
وحري بنا أن نؤكد أن أجهزة الإعلام الحاضرة تمثل الخطر القادم على المثاليات والأخلاقيات، إذ تستطيع أن تهدم في دقائق معدودة ما يبنيه الدعاة في أزمان طويلة لما لها من قدرة على اختراق المجتمعات المختلفة.. وهذا ما يدعو إلى ضرورة العمل لتطويعها في خدمة الإسلام والمسلمين.
إن أجهزة الإعلام في الحاضر مهيأة تماما لأن تكون سلاحا مشهرا في وجه أبناء الأمة الإسلامية بعد أن برع خصومنا في استخدامها ترويجا لدعاواهم الكاذبة، وانتصارا لفكرهم السام فأصبحت في كثير من الأحيان يدا ضاربة للمسلمين، ووسيلة للتشكيك في الدين، والحض على الرذيلة.
قدوة حسنة
وواجب الحكومات في تطويع تلك الأجهزة يسبق بكثير واجب الأفراد، فالحكومات هي المالكة لها، وهي المشرفة عليها، والمخططة لكل ما يقدم بها.. وعلى الحكومات أن تعيد إلى أجهزتنا الإعلامية هويتها الإسلامية، وأن تنتشلها من تلك التبعية المخزية لإعلام الغرب أو الشرق.
ومن طرق الدعوة أيضا: القدوة الحسنة، والأسوة الطيبة التي لها شأن كبير وأثر بعيد المدى إذ هي علم هاد يشير إلى المثل الحي، والفضيلة المجسمة، وعرض للنموذج البشري الصالح الذي يراد محاكاته والاقتداء به.
ومنها أيضا تأليف الكتب السهلة الجذابة الجادة التي تعرف الناس بالإسلام، وتشرح لهم تعاليمه، وتقنعهم بأنه وحي الله تعالى إلى نبيه ومصطفاه محمد -صلى الله عليه وسلم-، وأنه منهج كامل يتناول شؤون الحياة جميعا وأنه كفل للناس جميع حقوقهم الكافية لإسعادهم وجلب الرخاء والأمن والسلام لهم.. وأنه أوجد حضارة مشرقة وتاريخا مجيدا يوم أن طبق تطبيقا صحيحا.
ومن طرق الدعوة: إحياء الشريعة بتعلمها وتعليمها، والعمل بها، ودفع الشبهات عنها، وإظهار تفوقها على كل نظم الأرض وقوانينها الوضعية.
وجه مشرق
ومن الطرق التي يجب العناية بها تنقية الثقافة الإسلامية من الرواسب التي أضيفت إليها كبعض التفسير للقرآن الكريم الذي لا أصل له، والأحاديث المردودة والضعيفة، ومسائل الفقه التقليدية التي تمثل الجمود والتعصب، والقضايا التي لا صلة لها بالإسلام.. فهذه وأمثالها من الحجب التي تحجب وجه الإسلام المشرق الجميل.
ومنها قيام الدولة الإسلامية برسالتها، فالدولة في الإسلام رسالتها الدعوة إلى الإسلام، ونشر تعاليمه العقائدية والعبادية، وقيمه الخلقية والاجتماعية.. وواجب الدولة ينحصر في أمرين:
الأول: بذل المال وإنفاقه في نشر الدعوة وإعلانها حتى يدوي صوتها في العالمين.
الثاني: وضع خطة منظمة للدعوة، واتخاذ الأساليب التي تضمن لها النجاح، والتمكين في الأرض.
تكوين الدعاة
إن هذا العصر عصر صراع فكري بقدر ما هو عصر صراع عسكري.. ولا يمكن للإسلام أن يقف أمام هذا الصراع، إلا إذا كان مسلحا بقوى هائلة من دعاة مؤمنين به، وفاهمين له، ومشبعين بروحه وواقفين عليه جميع قواهم وكل طاقاتهم.
وصراع الأفكار في العصر الحاضر قوي عنيد، ولا بد من مقاومته بقوة تفوقه، وتتغلب عليه، والإسلام في ذاته قوة!.. ذلك أن الإسلام ليس فيه ما يشق على الناس فهمه، أو يصعب عليهم العمل به.
إن روحانية الإسلام روحانية مهذبة لا تغمط الفطرة حقها، ولا تميل بالإنسان يمينا أو يسارا.. كما أنه ليس فيه مادية بعض الأديان، ولا رهبانية البعض الآخر.
إن الجو مهيأ في الحاضر لتقبل الإسلام بعد أن فشلت النظم الوضعية في التخفيف من معاناة الناس، وبعد أن تنكرت تلك النظم للوجود وتحللت من كل الفضائل، والأخلاق والمثل والمكارم.. وبعد أن منيت بالفشل في المناحي السياسية، والاقتصادية والاجتماعية.
ولذا يلزم اختيار الدعاة من بين ذوي العقول المستنيرة، والنفوس الطاهرة، والعواطف الجياشة، والإرادة القوية، والسمت الحسن.
إن شخصية الداعية القوية هي التي تستطيع أن تؤثر التأثير المنشود في العقول والقلوب بعد أن يكون قد تزود بحفظ القرآن الكريم وفهمه فهما صحيحا، ومعرفة السنن الصحيحة والسيرة، وهدي السلف، والاطلاع على العلوم التي تبين مشيئة الله تعالى في المجتمع البشري.
يضاف إلى هذا ضرورة الاختلاط بالناس لمعرفة عاداتهم وتقاليدهم، وأمراضهم وعللهم.. فيكون الداعية مثل الطبيب في تشخيص الداء ووصف الدواء.
أخلاق الدعوة
والدعوة إلى الله عز وجل أحوج ما تكون إلى دعاة يخلصون الدعوة إلى الله لا للوظيفة.. ويصدعون بالحق دون مجاملة لأحد من الناس، ويكون سلوكهم صورة صحيحة لما يقولون، ويكونون قدوة حسنة في العلم والعمل والزهد ومكارم الأخلاق.
ولاشك في أننا بحاجة شديدة إلى أن نوفر لهؤلاء الدعاة معينا صافيا من الثقافة الإسلامية الرفيعة، وأن نوفر لهم التوجيه السديد والقيادة الواعية المستنيرة التي تقود مسيرة الدعوة قيادة صحيحة.
إن غيبة التوجيه، وفقدان القيادة الداعية، وانعدام القدوة، وحدوث التمزق بين أفراد الأمة وجماعاتها أمام كثرة التيارات الإسلامية التي يعجز شبابنا منفردا عن المعادلة بينها والتعرف على الصالح منها والطالح.. كل هذا أضر بالشباب المسلم، فأحدث عند البعض فراغا شديدا جعلهم يتوجهون وجهات لا إسلامية ليملئوا هذا الفراغ! ومن ثم أصبح هذا البعض لا يجيد التفريق بين ما هو إسلامي وما هو دخيل على حياة المسلمين! كما أحدث عند جماعة أخرى من الشباب نوعا من السلبية المميتة تجاه قضايا الإسلام.
والواقع الذي نعيشه اليوم يؤكد وجوب العناية بتكوين الدعاة تكوينا خاصا يتوازى مع عظيم مهمتهم.
المصدر: مجلة الوعي الإسلامي.