مضمون الشبهة (*)
يدعي بعض المغرضين أن الدين الإسلامي بمنأى عن العلم، ولعجزه عن مجاراته وتناقضه معه؛ أغفله في أحيان، ونفر منه في أحيان أخرى، واستنادا إلى ما ادعوه من عجز وما توهموه من تعارض؛ يدعون إلى فصل هذا عن ذاك. ويرمون من وراء ذلك إلى اتهام الإسلام بالجهل والرجعية؛ لتزهيد الناس فيه، وذلك من خلال وصمه بما ليس فيه.
وجها إبطال الشبهة
1) الفصل بين الدين والعلم من قضايا الفكر المسيحي، نشأت في بيئة وظروف خاصة، ولا علاقة للإسلام بها، وإذا جاز عند هؤلاء الفصل بين الدين والعلم؛ فإنه لا يستقيم لدى المسلمين؛ لأنه أعلى من مثال العلم ورفع قدره.
2) لما كان الدين الإسلامي شديد الاهتمام بالعلم من جهة، وكان العلم وثيق الاتصال بالعقل من جهة ثانية؛ أمرنا القرآن في غير موضع بالتفكر والتعقل؛ حتى صار العقل أعظم مزية في الإسلام.
التفصيل
أولا- الفصل بين العلم والدين من قضايا الفكر المسيحي ولا علاقة لها بالإسلام:
حول هذا الموضوع يحدثنا فضيلة الشيخ عبد الحليم محمود فيقارن التجربة الإسلامية في هذا الصدد بتجربة الكنيسة، فيقول: “إنه لتقليد ببغاوات أن ننقل الفكرة التي نشأت في التعارض بين الدين والعلم من بيئتها الجزئية ومن ظروفها الخاصة إلى مجال الدين عامة أينما كان، وفي أي زمان وجد.
وإنه لمن السخف الواضح، وسوء النية المبيتة أن ننقل الفكرة من جو المسيحية إلى جو الإسلام، الذي كانت أول كلمة في وحيه “اقرأ”، والذي يصل بالعلماء إلى أن يشهدوا التوحيد مع الله والملائكة”[1].
ثم يتحدث فضيلته عن تجليات هذا الموقف الإسلامي، المتصالح مع العلم وآثاره الحضارية، فيقول: ” لقد أحدث الإسلام في الدنيا – بموقفه هذا من العلم – نهضة علمية كان من ثمارها الحضارة الإسلامية، والتي كانت تسمي البحث في الطبيعة وفي الكون هذه التسمية الجميلة: (العلم بسنن الله الكونية).
فعلم الطبيعة في الصورة الإسلامية هو العلم بسنن الله الكونية، وقد قيدت منذ البداية مباشرة بأن تكون (باسم ربك). والعلم في الإسلام -بالدين وبالمادة- لا شرط له إلا أن يكون في اتجاه رباني.
إن الإسلام يوجب أن تكون أسس العلم متسمة بالخير، ويوجب أن تكون غاياته منغمسة في الخير، ويجعل من العلم قربى إلى الله ويجعل منه عبادة لله، إنه سبحانه يجعله باسمه الكريم. ومن الملاحظات الدقيقة في هذه الكلمات التي كانت في افتتاح الوحي أن الله – عز وجل – لم يقل: (اقرأ باسم الله)، وإنما قال: {اقرأ باسم ربك الذي خلق} (العلق: 1)؛ أي: اقرأ باسم المربي، أي: اقرأ في إطار التربية الإلهية.
ومنذ اللحظات الأولى في الإسلام اتسم العلم بالخير، وابتغى الخير، فلم يبتغ العلم الإسلامي في يوم من الأيام التنكيل بالإنسانية أو الاستعلاء أو التسابق من أجل إيجاد وسائل التدمير والتخريب، كلا، وإنما هو باسم المربي، وكان العلم الإسلامي من أجل ذلك ضرورة لا ترفا.
وقد يتساءل إنسان أيضا عما إذا كانت هذه النهضة العلمية التي دوت في أرجاء العالم -منطلقة من القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة- لها أثر في النهضة الأوربية أم لا؟
وعن ذلك يقول العالم الإنجليزي الأستاذ بريفولت صاحب كتاب “بناء الإنسان”، وهو ممن أنصفوا الحضارة الإسلامية بعد أن ظلمها الغربيون قرونا متعددة، يقول: “إن روجر بيكون درس اللغة العربية والعلم العربي في مدرسة أكسفورد، على يد معلميه العرب في الأندلس، وليس لروجر بيكون ولا لسميه الذي جاء بعده – يقصد فرنسيس بيكون، وهما المنسوب إليهما في الحضارة الغربية ابتكار المنهج التجريبي – الحق في أن ينسب إليهما الفضل في ابتكار المنهج التجريبي.
فلم يكن روجر بيكون إلا رسولا من رسل العلم الإسلامي والمنهج الإسلامي إلى أوربا المسيحية، وهو لم يمَلَّ قط من التصريح بأن تعلم معاصريه للغة العربية وعلوم العرب هو الطريق الوحيد للمعرفة الحقة. والمناقشات التي دارت حول واضعي المنهج التجريبي هي طرق من التحريف الهائل لأصول الحضارة الأوربية. وقد كان منهج العرب التجريبي في عصر بيكون قد انتشر انتشارا واسعا. وانكب الناس -في لهف- على تحصيله في ربوع أوربا”.
ويقول: “لقد كان العلم أهم ما جادت به الحضارة العربية على العالم الحديث، ولكن ثماره كانت بطيئة النضج. إن العبقرية التي ولدتها ثقافة العرب في إسبانيا لم تنهض -في عنفوانها- إلا بعد مضي وقت طويل على اختفاء تلك الحضارة وراء سحب الظلام. ولم يكن العلم العربي وحده هو الذي أعاد إلى أوربا الحياة، بل إن مؤثرات أخرى كثيرة من مؤثرات الحضارة الإسلامية بعثت باكورة أشعتها إلى الحياة الأوربية”.
ويقول: “بالرغم من أنه ليس ثمة ناحية واحدة من نواحي الازدهار الأوربي إلا ويمكن إرجاع أصلها إلى مؤثرات الثقافة الإسلامية بصورة قاطعة،؛ فإن هذه المؤثرات توجد -أوضح ما تكون- في نشأة الطاقة التي تكون ما للعالم الحديث من قوة متمايزة ثابتة، وفي المصدر القوي لازدهاره، أي في العلوم الطبيعية، وفي روح البحث العلمي”.
ويقول: “إن ما يدين به عالمنا لعلماء العرب ليس فيما قدموه إلينا من كشوف مدهشة لنظريات مبتكرة، بل يدين هذا العالم لهم بوجوده نفسه؛ فالعالم القديم – كما رأينا – لم يكن للعلم فيه وجود، وعلم النجوم عند اليونان ورياضياتهم كانت علوما أجنبية استجلبوها من خارج بلادهم وأخذوها عن سواهم، ولم تتأقلم في يوم من الأيام فتمتزج كليا بالثقافة اليونانية”.
وقد نظم أهل اليونان المذاهب وعمموا الأحكام ووضعوا النظريات، ولكن أساليب البحث في دأب وأناة، وجمع المعلومات الإيجابية وتركيزها والمناهج التفصيلية للعلم، والملاحظة الدقيقة المستمرة، والبحث التجريبي، كل ذلك كان غريبا تماما عن المزاج اليوناني، ولم يقارب البحث العلمي نشأته في العالم القديم إلا في الإسكندرية في عهدها الهلينستي.
أما ما ندعوه “العلم” فقد ظهر في أوربا نتيجة لروح من البحث جديدة، ولطرق من الاستقصاء مستحدثة، ولطرق التجربة والملاحظة والمقاييس، ولتطور الرياضيات إلى صورة لم يعرفها أهل اليونان. وهذه الروح، وتلك المناهج العلمية، أدخلها العرب إلى العالم الأوربي” [2].
الإسلام يؤاخي بين العلم والدين
لم تعرف البشرية دينا – سماويا كان أم وضعيا – حض على العلم والتعلم، وقرن بينهما وبين العبادة – مثل الإسلام.
وقد تتابعت الدراسات والبحوث في مسألة ” تحرير العلاقة بين الدين والعلم في الإسلام “، حتى صارت وثاقة هذه العلاقة أمرا بدهيا مستقرا في الأذهان، ومن هذه الدراسات فصل رائع عقده المستشرق الألماني المسلم السفير مراد هوفمان في كتابه “الإسلام كبديل” تحت عنوان “الإيمان والعلم”، يقول: “… فطلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة. والقرآن يحث المسلمين في آيات متعددة على ضرورة طلب العلم مستعينين بالله ليزدادوا علما، متوسلين بما منحهم من بصر وبصيرة وقلوب وألباب، ونهى ووسائل إدراك، فيقول عز وجل: {وقل رب زدني علما} (طه: 114)، ويقول عز وجل: {أفلا تعقلون} (آل عمران: 65)، وقال: {ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير} (لقمان: 20)، ويقول عز وجل: {أفلا تتفكرون} (الأنعام: 50).
وللمرء أن يرى في الآيات الخمس الأول من سورة العلق أول ما أوحي إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – أذانا ينادي الإنسان إلى طلب العلم، وأقل مراتبه محو الأمية بتعلم القراءة والكتابة، فيقول أصدق القائلين: {اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم} (العلق: 1-5).
إن المسلم العاقل يفكر في خلق الله -عز وجل- فترى المسلمين من ذوي الألباب يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم، ويتفكرون في خلق السماوات والأرض، يسعون إلى الموضوعية سعيا، لا يميلون إلى الهوى بغيا، يدفعون الشك بالدليل واليقين، ولا يركنون أو يأخذون بمجرد الظنون والتخمين، كما وصفهم رب العالمين.
في ضوء هذا نتفهم طلب الرسول – صلى الله عليه وسلم – إلى كل مسلم ومسلمة السعي الحثيث للتعلم، والأحاديث الصحيحة تبين أن طلب العلم فريضة على كل مسلم، مهما بعدت الشقة،[3] حتى قيل: ولو بالصين،[4] وهو الأمر الذي يقاس اليوم من حيث بعد الشقة والعناء الذي يحيط بها – على العربي آنذاك قبل ألف وأربعمائة عام برحلات الفضاء إلى القمر مثلا.
ولقد بلغ من تقدير الرسول – صلى الله عليه وسلم – للعلم والتعلم أنه قال: «من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة»[5] وفي رواية: «وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطلب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض، حتى الحيتان في جوف الماء»[6].
ولقد وعى الصحابة طلب الرسول – صلى الله عليه وسلم – وعملوا به، خاصة الخلفاء الأربعة -رضي الله عنهم-، وما أحسن رد علي بن أبي طالب على سؤال سُئله عن مصدر علمه: أهو القرآن فحسب؟ أم صحائف أخرى إلى جانبه؟ حيث قال لسائله: كتاب الله، وبصيرة نافذة، وصحيفة بها بيان من الرسول – صلى الله عليه وسلم – لثلاثة أمور. جاء عن أبي جحيفة قال: «قلت لعلي: هل عندكم كتاب؟ قال: لا، إلا كتاب الله، أو فهم أعطيه رجل مسلم، أو ما في هذه الصحيفة. قال: قلت: فما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل،[7] وفكاك الأسير،[8] ولا يقتل مسلم بكافر»[9].
كان هذا الظمأ إلى العلم مقترنا باستعداد المسلم لاستخدام عقله؛ فشكلا القاعدة المنبسطة لازدهار العلوم الإسلامية مع مستهل القرن الثامن الميلادي (الثاني الهجري)، وكان ينبغي أن نجتزئ في هذا المضمار بذكر أربعة عشر معلما عالميا؛ كابن فرناس والخوارزمي والرازي وابن سينا والبيروني وابن الهيثم وابن رشد وابن النفيس وابن بطوطة وابن خلدون.
وبعد أن يورد مراد هوفمان تعريفا بهؤلاء الأعلام المسلمين يبين أثر هذه الحضارة التي تأسست على تلك المرجعية الإسلامية، ومنها انطلقت على الحضارة الغربية، فيقول: “ويدل هذا البيان الموجز بأسماء الأعلام الأربعة عشر وحده على أن الغرب لم يرث الحضارة الهلينية (الحضارة الأوربية القديمة)، وإنما الشرق الإسلامي هو الذي ورثها وبعثها وطورها.
ونظرا لتدفق العلوم والتكنولوجيا الناهضة في تلك الحضارة الإسلامية آنذاك، كان من المفهوم أن يسير التبادل الحضاري في العصور الوسطى في طريق ذي اتجاه واحد بأخذ الغرب عن المسلمين وليس العكس، أو على حد تعبير مارشال هدجسون: ” لم يجد المسلمون لدى الغرب شيئا يذكر يستحق أن يبذلوا جهدا ليتعلموه “. وهكذا كان الغرب في تلك العلاقة مستوردا بحتا فحسب، سواء على الصعيد المادي أو المعنوي… هذا الغزو الحضاري الإسلامي العالمي، أو بلغة العصر الاستعمار الفكري، كما يحلو لبعضهم أن يسميه، ترك بصماته التي تحكي الكثير، في شكل رواسب لغوية وتعابير، ولم نزل حتى اليوم نتوسل بألفاظ عربية الأصل، من مثل: أميرال (أمير البحر)، ألجبرا (الجبر)، والكحول، والعود، والقيثارة”[10].
ويؤصل د. يوسف القرضاوي القضية نفسها بقوله: “نحن – المسلمين – إذن لا نخاف من العقل، بالعكس نحن نرحب بالعقل، وليس في الدنيا كتاب أشاد بالعقل ونوه به مثل القرآن الكريم… ست عشرة آية في القرآن الكريم تتكلم عن أولي الألباب، ومادة: عقل، يعقل، يعقلون، موجودة في القرآن بكثرة. ثم إن الحديث عن الحجة وعن السلطان، وعن البرهان في القرآن الكريم، فالقرآن حافل بمثل هذا: {قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} (البقرة: 111)؛ أي: إن أي قضية لا تقبل بغير برهان.
ولذلك نجد القرآن ينشئ العقلية العلمية، ويحارب العقلية الخرافية التي تصدق أي دعوى تقال لها.. العقلية العلمية التي ترفض الجمود على ما كان عليه الآباء، العقلية المقلدة، عقلية: {إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون} (الزخرف: 23). هذا التقليد يرفضه القرآن، سواء أكان تقليد الآباء، أم تقليد السادة والكبراء: {إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا} (الأحزاب: 67)، أم تقليد العوام من الناس قال تعالى: {وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله} (الأنعام: ١١٦).
إنما يريد من الإنسان أن يفكر وأن يستخدم عقله لا عقل غيره، فالدعوة إلى التفكر، وإلى النظر في ملكوت السماوات والأرض، وما خلق الله من شيء – متواترة في القرآن: {أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء} (الأعراف: 185)، {قل انظروا ماذا في السماوات والأرض} (يونس:101)، عملية النظر والتفكر، دعوة إلى النظر والفكر، الحملة على التقليد بكل أنواعه، على الجمود بكل صوره”[11].
وحول العلاقة بين النقل والعقل يقول: “لم ير علماؤنا إطلاقا أي تعارض أو تناقض بين صحيح المنقول وصريح المعقول. وقد ألف في ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية كتابا ظهر في عشرة أجزاء، اسمه “درء تعارض العقل والنقل”، فلا يمكن أن يتعارض عقل صريح مع نقل صحيح، وإذا رأيت تعارضا فلا بد أن ما ظننته نقلا ليس صحيحا، أو ما ظننته عقلا ليس صريحا؛ لأن العقل أثر من آثار رحمة الله بالإنسان وفضله عليه، والنقل هو وحي الله للإنسان. فكيف تتعارض آثار الله بعضها مع بعض، لا يمكن أن يتعارض العقل مع النقل؛ لن يحدث التعارض إلا من الناحية الظاهرية الشكلية. لكن عند التأمل لا يمكن أن يوجد تعارض، ولا بد أن يكون هناك توفيق بين ما يظن من التعارض، أو أن أحدهما ليس صحيحا.
فلذلك ليس عندنا مشكلة الدين والعلم.. الدين عندنا علم والعلم عندنا دين. الدين عندنا يقوم على أساس من العلم، وأول آيات نزلت في كتابنا: {اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم} (العلق: 1-5)، وكون أول ما نزل على قلب محمد – صلى الله عليه وسلم – مادة القراءة والعلم، والتعلم، والقلم، يؤكد أن الدين عندنا علم، والعلم عندنا دين. وطلب العلم فريضة، سواء أكان علم دين أم علم دنيا، وقد اعتبر الإسلام تعلم علوم الدنيا فريضة كفائية إذا كان المسلمون يحتاجون إليها.
لا نعاني – نحن المسلمين – من مشكلة عانتها النصرانية في المجتمع الغربي، وهي مسألة التعارض بين العلم والدين، وقامت من أجل ذلك محاكم التفتيش، وحرق العلماء، وحدث ما حدث، ليس عندنا شيء من هذا”[12].
ولكنه يحذر في النهاية من اللعب بالألفاظ، داعيا إلى تحرير المقصود بالعقلانية[13] فيقول: “فإذا كانت العقلانية هي هذه فنحن – كما قلنا – دعاة عقلانية. أما إذا كانت العقلانية أن نرفض وحي الله – عز وجل – أو نغلب باستمرار العقل على النص، ولو كان النص قطعي الثبوت قطعي الدلالة، فهذا ليس من العقلانية في شيء؛ لأنه كما يقول الإمام الغزالي:
إذا ثبت وجود الله بالعقل، أو أثبتنا النبوة بالعقل، وأثبتنا نبوة محمد – صلى الله عليه وسلم – وأنه لا ينطق عن الهوى، وأن القرآن كتاب من عند الله، إذا ثبت ذلك كله بالعقل.. عند ذلك يعزل العقل نفسه ويتلقى من الوحي.. وقد يأتي الدين بشيء فوق مستوى العقل، ولكنه لا يأتي بما يستحيله العقل، فلا يأتي الدين بما يستحيل عقلا، وإنما بما يستحيل عادة، والاستحالة العادية أمر يتغير. وكم من أشياء كانت مستحيلة في عادات الناس؛ تغيرت، فلو ذكرنا لأجدادنا منذ عشرات السنين ما يحدث الآن لقالوا: هذا جنون. وكلها أشياء كانت مستحيلة عادة وأصبحت عادية نعايشها يوميا”[14].
ثانيا- أعظم مزية في الإسلام:
عن علاقة الإسلام بالعقل استحسن الشيخ محمد الغزالي – رحمه الله – أن يختم بكلام مقتبس، ونحن نستحسن بدورنا أن نختم به، قال: “وفي علاقة الإسلام بالعقل يسرنا أن نضمن كتابنا هذا بحثا نفيسا للأستاذ الشيخ “نديم الجسر” مفتي لبنان الشمالي قال فيه: نوطئ للبحث بطرح السؤال الآتي: ما هي أعظم مزية يمتاز بها دين الإسلام عن الأديان السماوية الأخرى؟
لا ريب عند المسلم في أن الأديان السماوية كلها من عند الله، ولا ريب عند العاقل أن هذه الأديان السماوية الثلاثة القائمة اليوم على الأرض هي في أصلها، الذي أنزله الله، تتلاقى جميعا على كل معاني الحق والخير بلا أدنى خلاف. فالتفاضل بين دين سماوي ودين سماوي آخر هو تفاضل في الكم والكيف لا في الجوهر، وهو كالتفاضل الذي يكون بين قانونين أرضيين وضعتهما الدولة في فترتين مختلفتين، وكان أولهما مختصرا قليل المواد، وكان الثاني مطولا كثير المواد.
بل الأصح أن نقول: كان أولهما بسيطا يسرد المواد من غير أن يتبسط بذكر المبادئ والأساسيات التي يركز عليها القانون، والثاني يضع إلى جانب المواد الأساسية التي يركز عليها القانون جملا مفصلة، ويفتح الفهم العميق لكل مادة من هذا القانون، كما يفتح باب الاستنباط لكل مادة إضافية تقضي الحاجة أو الضرورة بوضعها في المستقبل. هكذا كان شأن الإسلام بين الأديان السماوية الأخرى، وبهذا قضت حكمة الله حين أنزل هذه الشريعة الخاتمة الكاملة التي أكد – عز وجل – كمالها بقوله: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دين}ا (المائدة: 3).
ذلك أن الإنسان قد خلق بحكمة الله البالغة، وهو يحمل في باطنه رغبتين؛ رغبة الغرائز التي خلقها فيه ليعيش وينتصر في معركة البقاء، ورغبة العقل الذي خلقه الله فيه ليدرك الحق إدراكا واضحا يتم به الإيمان بالله وعبادته، ويتاح له به أن يتحكم في تلك الغرائز ويلجمها حتى لا تجمح وتتعدى حدود الحق والخير.
ذلك أن هذه الغرائز التي سلح بها الفرد لخيره وخير المجتمع تنقلب إلى شر مستطير على الفرد والجماعة، وذلك حين تترك مطلقة جامحة لا يقيدها العقل بقيد الحكمة، فتصبح غريزة البحث عن الطعام شرها وبطنة، وغريزة الإنسال – التناسل والتكاثر – زنا وفسقا وعدوانا، وغريزة الادخار والاقتناء طمعا وشحا وسرقة، وغريزة حب الظهور والسيطرة خيلاء وكبرا واستبدادا، وغريزة الغضب جنونا وسفكا للدماء، بدلا من الدفاع عن النفس والحق والوطن، وغريزة حب الاستطلاع تجسسا وبحثا دنيا عن عيوب الناس!
ولكن العقل في معركته مع الغرائز لم يكن دائما هو الظافر؛ لأن الغرائز تخلق في الإنسان كاملة بكل قوتها، ومتساوية في الأفراد، بينما العقل يتكامل تدريجيا مع التجارب الطويلة التي يمر بها الفرد وتمر بها المجتمعات، ولذلك لا تتحقق فيه المساواة بين الأفراد والأجيال، فكان لا بد من اختلاف العقول قوة وضعفا.
ولما كانت الإنسانية في عصورها الأولى غير مستعدة بعقولها وتجاربها لإدراك حدود الحق والخير إدراكا كاملا، كان الوحي يتولى هذا التحديد بأوامره ونواهيه على لسان الرسل فترة بعد أخرى.
ولما بلغ عقل الإنسانية في التصور والتكامل الحد الذي تستطيع معه أن تعتمد على فكرها في معرفة الحق والخير، أنزل الله آخر كتبه على آخر رسله، بشريعة كاملة، لا من حيث إنها وضعت لكل جزئية من جزئيات الحياة حكما خاصا، فهذا لا يمكن؛ إذ إن أحداث الحياة في تجدد مستمر، والله سبحانه أحكم من أن يخاطب الناس بحكم في أمور لا يعرفونها، ولكنها شريعة كاملة من حيث إنها تنطوي على أسس ومبادئ أصلية تصلح أن تكون منبعا للأحكام التي يمكن استنباطها في المستقبل، وتقدرنا على مواجهة وقائع جديدة لم ينزل بها أي نص صريح.
والآن نعود إلى السؤال: ما هي أعظم مزية يمتاز بها دين الإسلام عن غيره من الأديان السماوية الأخرى؟
رب مجيب منكم أن هذا الذي ذكرناه – من وضع المبادئ الأساسية التي تتفرع عنها الأحكام الجزئية المنصوص عليها وغير المنصوص عليها – هو المزية العظمى لدين الإسلام. ولكن هذه المزية – مع كونها من أعظم مزايا الإسلام – ليست أعظمها على الإطلاق.
ففي القانون الروماني فتاوى بمثابة قواعد وإن لم تكن شاملة أو جامعة، أو محيطة بكل أمر كما هي المبادئ الأساسية في الإسلام، إلا أنها – أي الرومانية – على كل قواعد كانوا يرجعون إليها في تفسير بعض المواد وزيادة بعض المواد الجديدة. ورب قائل يرى أعظم مزية في الإسلام هي التوحيد المطلق المبرأ من كل شوائب الشرك الخفي والجلي، وجواب هذا أن الأديان السماوية الصحيحة كلها مبنية في أصلها على التوحيد بداهة؛ لأنها من عند الله، والله واحد أحد فرد صمد.
وربما يأخذ أحد بظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»[15] فيقول: إن المزية العظمى للإسلام أنه أكمل وأتم مكارم الأخلاق، ولكن هذا الإتمام – على جلالة قدره – ليس أعظم المزايا، فمكارم الأخلاق موجودة في كل الأديان، والإسلام قد أتمها. وقوله صلى الله عليه وسلم: “إنما” لا يراد به الحصر الحقيقي؛ لأن من أعظم غايات الرسالة المحمدية تطهير الوحدانية من أدران الشرك، وهذا التطهير هو الأساس لمكارم الأخلاق.
فإن قيل: إن مزية الإسلام العظمى هي أنه جمع في الحكم بين الدين والدولة، ولكن ما هذا الجمع بمزية خاصة بالإسلام؛ فالمسيحية الأصلية إن لم تكن جمعت في الحكم بين الدين والدولة؛ لأن ظهورها كان في وسط دولة قائمة قوية متسلطة، فإن اليهودية في عهد سليمان وداود، كانت تجمع بين الدين والدولة.
إذن ما هي أعظم مزية يمتاز بها الإسلام؟
إنها المزية الآتية:
إن الله في شريعة الإسلام جعل للعقل السلطان الأعلى في فهم أحكام النصوص المنزلة، وفي استنباط أحكام ما لم ينزل به نص خاص، لا في كتاب الله ولا في سنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهذا العقل الذي أمرنا الله في آيات كثيرة أن نحتكم إليه عند جدلنا بين أنفسنا في معركة الشك واليقين، وفي جدلنا مع غيرنا من المخالفين – يشمل بسلطانه كل معنى في الوجود ابتداء من أتفه الأشياء، كإماطة الأذى عن الطريق، إلى أعظم معنى في الوجود وهو الألوهية والوحدانية.
وقبل أن يعترض معترض نبادر إلى تفصيل هذا السلطان العقلي الذي أمرنا الله أن نحتكم إليه وبيان مداه، ونؤكد في هذا المقام على خمس حقائق لا يجوز أن تغيب عن ذهن عاقل طرفة عين:
الحقيقة الأولى: أن هذا العقل الذي خلقه الله لنا، وأمرنا أن نحتكم إليه – له سلطانان؛ سلطان مطلق: ليس له قيود سوى قيود العقل السليم وحده، وسلطان نسبي: مقيد بقيود المبادئ الأساسية التي قررها الإسلام.
فكما أن المبادئ الأساسية المنصوص عليها بالآيات المحكمات أو المستنبطة من الآيات المحكمات، نحن مأمورون أن نحتكم فيها إلى سلطان العقل مع أنفسنا في عقائدنا، ومع غيرنا، من أصحاب العقائد المخالفة، فإن الأحكام الجزئية التي يمكن أن نفسرها أو نستنبطها ضمن حدود تلك المبادئ الأساسية، تقع بالتالي تحت سلطان العقل الذي سميناه سلطان العقل النسبي المقيد؛ لأن ما بني على المعقول فهو معقول.
الحقيقة الثانية: أن السلطان العقلي المطلق الذي أمرنا الله أن نحتكم إليه – حتى الآيات اللواتي هن أم الكتاب – ليس معناه أن يحتكم كل فرد إلى عقله، فالعقول تختلف قوة وضعفا، فتصيب وتخطئ، ولكن معناه أن نحتكم إلى الأحكام العقلية القاطعة التي تتفق عليها العقول السليمة، كل العقول السليمة، اتفاقا عاما لا خلاف فيه.
الحقيقة الثالثة: كل نص قطعي واضح لا يسبب تناقضا عقليا في الذهن -وهذا شأن الآيات المحكمات كلها بلا استثناء- فمن الواجب الإيمان به ولو كان تصور معناه عسيرا على الذهن، فمن الواجب تأويله تأويلا يرتفع به التناقض العقلي.
الحقيقة الرابعة: إن الآيات المتشابهات التي تعجز عقولنا عن تأويلها يجب أن نردها إلى (أم الكتاب).
وما دامت -المحكمات أم الكتاب- غير متناقضة مع العقل؛ فإن التشابهات التي تهيمن عليها -المحكمات أم الكتاب- تكون ولا بد معقولة وإن عجزنا عن تأويلها. (فالمحكمات) من عند الله، و (المتشابهات) من عند الله، ولكنها – المحكمات أم الكتاب – هي الأصول التي تسيطر على المتشابهات. وما دامت الأصول معقولة، نستطيع فهمها وإدراك حكمتها، فلا بد أن تكون المتشابهات الواقعة تحت سيطرتها معقولة، وإن لم نستطع تأويلها، وهذا معنى قوله عز وجل: {والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب} (آل عمران: 7).
الحقيقة الخامسة: التي يحسن ذكرها للمبتدئين – هي أنه يوجد فرق كبير جدا بين المستحيل العقلي والمستحيل العادي. فالمستحيل العقلي هو الذي يوجب تصور وجوده أو تصور عدمه تناقضا عقليا في الذهن. أما المستحيل العادي فلا يوجب تصور حصوله أو عدم حصوله تناقضا عقليا في الذهن أبدا، ولكن جرت عادتنا – نحن البشرـ أن نعد ضده مستحيلا في العادة كخرق النواميس الكونية بالمعجزات.
فإذا كان النص الديني يتناول هذا النوع من المستحيلات العادية فلا مجال لإنكاره أو لتأويله أبدا، حتى ولا لتعليله على أساس نواميس كونية أخرى كما يفعل العلماء عن حسن نية، بل يجب التصديق به؛ لأن القول باستحالته عقليا هو القول الذي يوجب تناقضا عقليا، فالنواميس والطبائع في الأشياء من خلق الله، والذي خلقها قادر على خرقها، والقول بغير هذا هو الذي يوجب تناقضا عقليا.
هذه هي الحقائق الخمس التي نحن في نطاقها مأمورون من الله بالاحتكام إلى العقل، بين أنفسنا في عقائدنا ومع غيرنا من المخالفين عند تعقلنا لمعنى الإيمان بالله، ووحدانيته وصفات كماله، فضلا عن الجزئيات الأخرى.
وبعد أن يضرب أمثلة على ذلك مثل قضية وجود خالق لهذا الكون التي ورد بها النص والعقل يقرها أيضا وينكر نقيضها. وعلى نسق هذا يعقل العقل قضايا كالوحدانية والبعث والمعجزات، يقول: “وإذا تأملنا فواصل الآيات العديدة التي تحث على استخدام العقل كقوله عز وجل: (لعلكم تعقلون، لقوم يعقلون، لقوم يفقهون، لقوم يتفكرون)؛ يظهر بجلاء لا مجال للشك فيه أن الله هو الذي أمرنا بالاحتكام إلى العقل في إدراك وجوده ووحدانيته وصفات كماله، فضلا عن إدراك ما هو أقل أهمية وخطرا من ذلك من شتى الجزئيات.
فإنكار الاحتكام إلى العقل في نطاق الحقائق الخمس التي ذكرناها لا يجوز أن يسمى خطأ، بل هو إنكار للنصوص الصريحة، ويدخل عند الإصرار في باب الكفر؛ لأنه إنكار وإعراض عن البراهين العقلية التي خاطبنا الله بها”.
إن عقولنا التي خلقها الله لنا مفطورة فطرة على قانون العلية (أو قانون السببية) كما نسميه نحن البشر بالنسبة للمخلوقات، وهو الشيء الذي نسميه الحكمة إلى خلق الله وأوامره ونواهيه.
قد يقول الملحدون المنكرون للصانع: إن عقولنا اكتسبت هذا القانون بحكم العادة؛ لأنها كانت ترى الظاهرة تحدث عقب الظاهرة فتربط بينها برباط السببية فتسمي الأولى علة أو سببا، وتسمي الثانية معلولا أو مسببا، ويرد عليهم المؤمنون بأن الفطرة من صنع الله.
والذي يهمنا على كل حال باعتبارنا مسلمين أن نقرر أن قانون العلية موجود في عقولنا، وأن الله -سبحانه وتعالى- قد أكد هذا القانون، وهذا التأكيد من قبل الله لقانون السببية (فيما يقع من أحداث الكون، وهو ما نسميه حكمة الله، لما يقع من أفعال الله وأحكامه في الخلق والتدبير والتكليف والعقاب والمثوبة) أمره ظاهر في آيات كثيرة لا تعد ولا تحصى. ويكفي لإثبات هذا القانون الذي اتخذه الله – عز وجل – برهانا على وجوده، وخلقه للعالم وللإنسان قوله: {أم خُلقوا من غير شيء أم هم الخالقون} (الطور: 35).
فالبرهان الذي يسوقه الله للعقول من صميم فطرتها بقوله: {أم خُلقوا من غير شيء أم هم الخالقون} (الطور: 35) هو بذاته دليل على اعتبار السببية في دين الإسلام. فالكون حادث، والإنسان الذي أتى عليه حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا حادث؛ فلا بد لوجوده من سبب وعلة، وفاعل خالق هو الله سبحانه.
كذلك يقال عن حكمة إرادته القديمة في خلق الجن والإنس ليعبدوه؛ فالله – عز وجل – كتب على نفسه الحكمة، وهي التي نسميها نحن: داعيا وسببا وعلة. وقد يصرح الله بحكمة أفعاله وأحكامه وأوامره ونواهيه فيذكر سبب الحكم وعلته وحكمته، وقد لا يصرح ويترك لنا أن نستنبطها من خلال الأحكام بعقولنا على قدر ما نستطيع، بدون أن نتحكم على الله أن ما استنبطناه هو الحكمة، أو هو وحده الحكمة والسبب والعلة.
يقول: ” وخلاصة القول أن أفعال الله وأحكامه – عز وجل – مبنية على حكم وأسباب، منها ما هو صريح ومنها ما هو باطن، ولكن ليس بمحظور علينا نحن أن نستنبط وجوه الحكمة من طريق العقل، قد يكون هناك ما يعجز العقل عن استنباط علته وسببه وحكمته، فنتوقف دون أن نزعم أنه بلا حكمة، بل نقول: خفيت علينا حكمته. ومن يدري؟ فقد يكشف الغد عن هذه الحكمة فتظهر لنا كما ظهرت في كثير من أفعال الله، في مخلوقاته وفي أحكامه: {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق} (فصلت: 53). والقول بأن أحكام الله لا يجب أن تعلل صحيح، على معنى أننا نتبعها، ولو لم نفهم علتها وحكمتها، ولكن لا يجوز أن نعتقد أنها بدون حكمة!
فإذا تقرر هذا قلنا: إنه ليس لعالم عاقل أن ينكر على المسلمين أنهم يستطيعون ضمن نطاق المبادئ الأساسية للإسلام وهي الآيات المحكمات أن يستعملوا عقولهم في استنباط بعض وجوه الحكمة في الأحكام الموجودة، وفي استنباط الأحكام الجديدة للحوادث المستجدة من طريق القياس أو الاستحسان؛ لأن القول بعدم وجود حكمة للأحكام الإلهية يتناقض مع العقل، كما أن الجمود عن استنباط الأحكام للأحداث المستجدة هو تعطيل للدين وحكم بنقصانه، وهو الدين الكامل بشهادة الله نفسه.
وهكذا نرى أن أعظم مزية يمتاز بها الإسلام -على غيره من الأديان السماوية- أنه يجعل للعقل السلطان الأعلى في إدراك كل معنى في الوجود، ويأمرنا أن نحتكم إليه حتى في الإيمان بالله ووحدانيته والإيمان بالرسل، وما كانت هذه المزية أعظم المزايا إلا لأنها هي الأصل لكل برهان ذكره الله لإثبات وجوده ووحدانيته وصدق رسله.
فلولا العقل لما عرفنا الله، ولما استطعنا أن نفهم أدلته التي كررها في كتابه ليبرهن على وجوده ووحدانيته، وطلب منا أن نتفكر فيها وندركها ونعقلها، ومن ثم لما استطعنا أن نؤمن بأحقية الأحكام التي بلغنا إياها الرسول – صلى الله عليه وسلم – وما فيها من الهدى والخير، ولما استطعنا أن نستنبط الأحكام المستجدة بطريق القياس، ولتعطلت أحكام الدين في الوقائع التي لم يرد فيها نص. وهذا ما لا يقول به عاقل من العوام فضلا عن العاقل من العلماء الأعلام. فالله – عز وجل – يقول لنا: {أكملت لكم دينكم} (المائدة: 3)، وهو يعلم أن هناك على كل الدهور القادمة وقائع وأحداثا ستأتي، ولم ينزل سبحانه حكما خاصا؛ فلا بد – عقلا – أن يكون قد أجاز أن نستنبط الأحكام على أساس العقل من طريق قانون العلية الذي ندرك به علة الحكم، وحكمة الله فيه ضمن دائرة المبادئ الأساسية التي أنزلها الله في الآيات المحكمات التي هي أم الكتاب.
ليس عندنا في الإسلام شيء يسمى تفكيرا روحيا، أو إيمانا روحيا لا يعتمد على العقل، وليس عندنا أسرار، وليس عندنا خرافات، بل عندنا عقل، ولنا رب حكيم عليم خاطبنا بأدلة العقل وحدها؛ لأن الإيمان تصديق، والتصديق يسبقه تصور، والتصور والتصديق والاستنتاج والحكم كلها من أعمال العقل وحده.
وما ذلك الإيمان الروحاني الذي يسمونه “إيمان العجائز” إلا نوع من الطمأنينة القلبية والسكينة النفسية اللتين يتمتع بهما المؤمن إذا امتلأ عقله الباطن بالإيمان بالله والخشوع أمام قدرته العظمى، والإدراك لحكمته البالغة، والفرح برحمته الواسعة.
فإذا لم يكن الإيمان مستندا في الأصل إلى الاستنتاج العقلي، وكان عبارة عن استهواء روحاني خيالي تظله الأسرار ويتعثر في ظلمته العقل، ذهب ذلك الإيمان الروحي مع الريح عند أول أزمة من أزمات النفس، أو شدة من شدائد الحياة. وهو بعد ليس بالإيمان الذي يرضاه الإسلام من قوم يتفكرون، ويقرءون البراهين العقلية البدهية التي ذكرها الله في كتابه، وصاغها بأسلوب يفهمه البدوي الساذج في القرن السابع، والعالم الفيلسوف في القرن العشرين”[16].
الخلاصة..
إنه لغبن -أي غبن- للإسلام أن يحكم عليه بما ليس فيه، وأن تعمم أحكام كالفصل بينه وبين العلم، ثم تسقط عليه، وهي إن صح إسقاطها على غيره -في ظروف معينة- لا يصح أن تسقط على عليه بحال.
لم تعرف البشرية دينا -سماويا كان أو وضعيا- حض على العلم والتعلم، وقرن بينهما وبين العبادة؛ تحقيقا لغاية استخلاف الإنسان على وجه الأرض -وهي العبادة وعمارة الأرض- مثل دين الإسلام.
في التراث الإسلامي عدم وجود تعارض بين صحيح المنقول وصريح المعقول البتة. وعلى هذا قامت الأدلة -نقلية وعقلية- وأنى يكون ثمة تعارض بينهما وأول لفظة نزلت من القرآن هي “اقرأ”؟!
إن أعظم مزية يتميز بها الإسلام -على غيره من الأديان السماوية- أنه يجعل للعقل السلطان الأعلى في إدراك كل معنى في الوجود، ويأمرنا أن نحتكم إليه حتى في الإيمان بوجود الله ووحدانيته والإيمان برسله.
الهوامش:
(*) ظلام من الغرب، محمد الغزالي، نهضة مصر، القاهرة، ط1، 2003م.
[1] موقف الإسلام من الفن والعلم والفلسفة، د. عبد الحليم محمود، دار الرشاد، القاهرة، ط2، 2003م، ص127.
[2] موقف الإسلام من الفن والعلم والفلسفة، د. عبد الحليم محمود، دار الرشاد، القاهرة، ط2، 2003م، 87:75.
[3] الشقة: السفر البعيد، وهي بعد مسير إلى الأرض البعيدة.
[4] ليس ثمة حديث بهذا اللفظ، بيد أن هناك ما يدعو إلى قطع المسافات في طلب العلم وثواب ذلك عند الله.
[5] أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الذكر والدعاء والتوبة، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر (7028).
[6] صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند الأنصار، باقي حديث أبي الدرداء رضي الله عنه (21763)، وأبو داود في سننه، كتاب العلم، باب الحث على طلب العلم (3643)، وصححه الألباني في الجامع الصغير وزيادته (11243).
[7] العقل: الدية، وسميت الدية عقلا لوجهين؛ أحدهما: أن الإبل كانت تعقل بفناء ولي المقتول، فسميت الديات كلها بذلك وإن كانت دراهم أو دنانير. والثاني : أنها تعقل الدماء عن السفك؛ أي تُمسك.
[8] فكاك الأسير: ما يفتدى به من مال ونحوه.
[9] أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب العلم، باب كتابة العلم (111)، وفي مواضع أخرى.
[10] الإسلام كبديل، د. مراد هوفمان، مؤسسة بافاريا، الترجمة العربية، مجلة النور الكويتية، ط1، 1993م، ص65: 69.
[11] حول الإسلام وقضايا العصر، د يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1992م، ص124، 125 بتصرف.
[12] حول الإسلام وقضايا العصر، د يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1992م، ص127، 128.
[13] العقلانية: مذهب فلسفي يقول : إن العقل مصدر كل معرفة وليس للتجربة دور فيها، وخلافه المذهب التجريبي .
[14] حول الإسلام وقضايا العصر، د يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1992م، ص128، 129.
[15] صحيح: أخرجه الحاكم في مستدركه، كتاب تواريخ المتقدمين من الأنبياء والمرسلين، ومن كتاب آيات رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ التي هي دلائل النبوة (4221)، والقضاعي في مسند الشهاب، إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق (1165)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (45).
[16] ظلام من الغرب، محمد الغزالي، نهضة مصر، القاهرة، ط1، 2003م، ص61:49 بتصرف يسير.
_________________
المصدر: موقع بيان الإسلام