القائمة الرئيسية
 الانفصام الدعوي (2 /5).. مع النفس

الداعية وإدارة الذات (قلب يُطل على أفكاره)

فريد مناع

“والله ما نمت فحلمت، ولا شبهت فتوهمت، وإني لعلى طريقي ما زغت” [تاريخ دمشق، ابن 11077عساكر، 30/415].

كلمات نوَّر فاه بها صديق هذه الأمة، يبوح من خلالها بسرٍ إيمانيٍّ من أسرار نجاح الداعية، يوم أن كان يوصي خليفته عمر الفاروق، يقلده أمانة الدعوة، ويحمله تبعة المسئولية، في آخر لحظات حياته المباركة، التي كانت ترجمة عملية لقول الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 162].

لقد كان هدف أبي بكر يلوح أمامه مذ تحمل قلبه بهم هذا الدين، فسار على طريقة خلف صاحبه محمد صلى الله عليه وسلم، فما نام عن هدفه، ولم تتخطفه أوهام الشبهات والغفلات، وأنى لقلب شعاره: “أينقص الدين وأنا حي؟!” أن يغفل أو ينام.

وبهذا يسن أبو بكر لكل داعية من بعده سنة حسنة، تعد عنوانًا لنجاح أي داعية، وسرًّا من أسرار نبوغه وتوفيقه، إنها وضوح الهدف، ورؤية الطريق، التي تجعل صاحبها يحوز العادة الثانية من عادات الفاعلية، فينضم إلى زمرة الدعاة الأفذاذ الذين يستحق أحدهم مدح البحتري:

قلب يطل على أفكاره ويد *** تمضي الأمور ونفس لهوها التعب.

وفي هذه السطور نضع نقاط الرؤية لكل داعية على حروف أهدافه، ونهديه خطوات عملية واضحة، ونرسم له نموذجًا للاحتذاء، حتى يتم له اكتساب عادة تحديد الهدف، ليكمل خطوته الثانية على درب الفاعلية الدعوية.

نقطة الانطلاق

إنما تعد نقطة الانطلاق الحقيقية نحو صناعة الداعية لهدفه، وتحديده لرؤيته في الحياة أن يعرف نفسه حق المعرفة، وأن يحسن التفرس في ذاته ويحكمها؛ كيما يكون مرشحًا لتوجيه غيره، كما نصحه من قبل الزاهد الحكيم سمنون رحمه الله حين قال: (إنَّ من تفرَّس في نفسه فعرفها؛ صحَّت له الفراسة في غيره وأحكمها) [تاريخ بغداد، 9/236].

ومقصودنا أن يعرف الداعية نفسه: هو أن يتعرف على ميوله وإمكاناته؛ لكي يحدد المجال الدعوي الذي من خلاله سيرفع راية هذا الدين، ويجعل منه النقطة المحورية لجوانب حياته، فيسخرها كلها في خدمة هذا المجال، حتى يكون ممن جعلوا صلاتهم ونسكهم ومحياهم ومماتهم لله رب العالمين.

إننا لا نسطر هذا الكلام لكل من أراد أن يبذل شيئًا لله -وإن كان هذا أمرًا مطلوبًا لكل مسلم- بل نخاطب الداعية صاحب الهمة العالية، الذي أبَتْ نفسه الأبية إلا أن يبذل حياته كلها لدينه وأمته، ومن ثم فلا يقنع بالدون، ولا يرضى باليسير، ولا يقر قراره حتى يرى نفسه في مصاف الدعاة المؤثرين في هذه الأمة.

وتصنيف الطاقات والتعرف على الإمكانات هي السنة النبوية التي كان يمارسها المربي الأول محمد -صلى الله عليه وسلم- مع أصحابه الغر الميامين، الذي كان يعرف قدراتهم وطاقاتهم، ويوجههم بحسبها، فانظر إليه صلى الله عليه وسلم، وهي ينبيك عن هذه السنة فيقول:

“أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في أمر الله عمر، وأقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل. ولكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح” [رواه الترمذي، 3791، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 3791].

ولذلك نرى استعمال النبي صلى الله عليه وسلم لتلك السنة واضحًا جليًّا في توظيفه لقدراتهم وإمكاناتهم، فيخصص بعضهم لكتابة الوحي ممن عرفوا بالأمانة والمهارة في الكتابة، كزيد بن ثابت، وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم.

بينما يخصص آخرين لقيادة الجيوش، لما عرفوا به من عبقرية حربية، وكفاءة عسكرية، كخالد بن الوليد، وأبي عبيدة بن الجراح، وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم، ويبقي معه فئة ثالثة يتخذهم وزراء، ويدربهم على أمور الحكم والقيادة؛ حتى يعدهم لمهمة الخلافة من بعده، كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين.

وبهذه الفراسة النبوية، وبحسن توظيف الطاقات والقدرات.. أمكن لصحابة النبي صلى الله عليه وسلم أن يحوزوا القمم السامقة كل في مجاله الذي برع فيه، وأمضى فيه حياته كلها يبذل لدين الله من خلاله؛ فكان منهم الحكام والقادة، والعلماء والخطباء، والوزراء والاقتصاديون، وغير ذلك من مجالات التخصصات التي تحتاجها دعوة الإسلام.

واليوم لا بد أن يسير داعية الإسلام على نفس سيرة السلف الأولين رضي الله عنهم أجمعين؛ كيما يحسن تبليغ الأمانة، وأداء الرسالة من بعدهم، فيكون خير خلف لخير سلف.

ولم تعرف فنون الإنجاز والفاعلية سوى التركيز على المواهب والطاقات سبيلًا لمن كان مراده التفوق والنبوغ والنجاح، يقول مؤلفو كتاب قوة التركيز: “نحن جميعًا قد حبانا الله ببعض المواهب على اختلافها من شخص لآخر، وجزء كبير من حياتك يدور حول اكتشاف هذه المواهب، ثم استخدامها وتوظيفها فيما يعود عليك بالنفع.

وعملية الاكتشاف هذه تستغرق العديد من السنوات مع كثير من الأشخاص، وبعضهم لا ينجح أبدًا في التوصل إلى أعظم مواهبه، وبالتالي تكون حياتهم أٌقل رضاء ومتعة، وهؤلاء الأشخاص غالبًا ما يقضون حياتهم في صراع ومعاناة؛ لأنهم يقضون معظم حياتهم في وظائف وأعمال لا تتناسب مع نقاط قوتهم أو مجالات تفوقهم، وذلك أشبه بمحاولة تمرير صندوق عبر فتحة مستديرة بالقوة، والنتيجة الوحيدة لذلك هي الفشل، كما أنها تتسبب في شعورنا بمزيد من التوتر والضغوط والإحباط”.

قواعد التعرف على الذات

وها هي بعض القواعد التي من خلالها يستطيع الداعية أن يتعرف على نفسه، ويحدد اتجاه سيره الرئيس في طريق الدعوة إلى الله تعالى:

1-   لا تكن غير نفسك:

بمعنى ألا تقلد غيرك تقليدًا أعمى، فتهفو إلى أن تصبح مثل فلان أو علان من النماذج الدعوية الناجحة؛ لمجرد أنك رأيت الناس يعجبون به ويثنون عليه، حتى ولو كان مجاله وتخصصه لا يناسب ميولك وإمكاناتك، وساعتها ستكون كالمـُنْبَتِّ لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى، (أو كذلك الغراب الراقص الذي أراد أن يتعلم مشية أحد الطيور فلم يستطع، فلما أراد أن يعود إلى مشيته نسيها، فكان مشيه مثل الراقص الأبله) [إدارة الذات، د.أكرم رضا، ص35].

ويحكي الكاتب الأمريكي المشهور ديل كارنيجي تجربة مريرة له تعلم منها أنه لن يستطيع أن يكون غير نفسه فيقول: “عندما قدمت إلى نيويورك لأول مرة من مزارع الذرة في ميسوري التحقت بالكلية الأمريكية للفنون المسرحية إذ كنت مصممًا على أن أصبح ممثلاً، كانت لدي فكرة اعتقدت أنها رائعة وأنها طريق قصير وسريع للوصول إلى النجاح، حتى إنني لم أفهم لماذا لم يكتشفها آلاف الطموحين قبلي.

كنت أدرس كيف توصل الممثلون المشهورون إلى أهدافهم، وبعد ذلك أدرس وأقلد أفضل مزاياهم وصفاتهم، فأجعل من نفسي نجمًا ناجحًا ولامعًا، لكن هذه الفكرة كانت سخيفة وواهية؛ إذ كان علي أن أمضي عدة سنوات من حياتي أقلد الآخرين قبل أن أكتشف الفكرة الأكيدة والأساسية، وهي أن أكون ذاتي، وأنني لا يمكن أن أكون غير ذاتي” [كيف تتعامل مع الناس، ديل كارنيجي، ص 18].

2-   الاستخارة والدعاء:

فما ندم من استخار، فعليك أن تستخير الله تعالى وتدعوه في سجودك أن يهديك ويوفقك إلى تخير المجال الذي تستطيع أن تنبغ فيه وتحقق من خلاله رسالة الداعية الرباني، فهو سبحانه العليم بما يصلح عبده، ولذا يقول جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: “كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها” [رواه البخاري، 1096].

قال الإمام الشوكاني -رحمه الله- معلقًا على هذا الحديث: “هذا دليل على العموم، وأن المرء لا يحتقر أمرًا لصغره وعدم الاهتمام به فيترك الاستخارة فيه…” [ نيل الأوطار، الشوكاني، 3/72].

فإذا كان الدعاء والاستخارة مشروعين حتى في صغار الأمور؛ فما بالنا بقرار ستبنى عليه حياة الداعية بكاملها؟.

3-   الاستشارة:

قال تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38]، بل كان سيد النبيين -صلى الله عليه وسلم- وصاحب أرجح عقل وجد على ظهر الأرض عليه الصلاة والسلام، يستشير أصحابه رضي الله عنهم، في كل أحواله.

ففي غزوة الخندق حيث سارع النبي -صلى الله عليه وسلم- بمجرد علمه بتجمع قبائل العرب في جيش قدره عشرة آلاف مقاتل إلى عقد مجلس استشاري أعلى، تناول فيه أمر الدفاع عن كيان المدينة، وبعد مناقشات جرت بين القادة وأهل الشورى اتفقوا على قرار قدمه الصحابي الجليل سلمان الفارسي رضي الله عنه؛ حيث قال: “كنا بأرض فارس إذا حوصرنا خندقنا علينا”؛ فأسرع النبي –صلى الله عليه وسلم- إلى تنفيذ هذه الخطة [الرحيق المختوم، المباركفوري، ص 470].

فما بالنا بمن هو دونه –صلى الله عليه وسلم- في كل شيء من أمثالنا نحن الدعاة إلى الله؟!

فاحرص -أيها الداعية الموفَّق- على استشارة من هم أكثر منك خبرة وأكبر منك سنًّا، وأسبق منك قدمًا على طريق الدعوة من الدعاة والمربين، لا سيما المقربين منك، وتعرف على رأيهم في تحديد ميولك وإمكاناتك، واختيار المجال الدعوي الذي يناسبك، سواءً كان في الخطاب العام، أو الدعوة الفردية، أو طلب العلم وتعليمه، أو التربية أو الكتابة والتأليف، أو العمل الإعلامي والمؤسسي، وغير ذلك من مجالات البذل لدين الله تعالى.

4-   الإمكانات أولا ثم الميول:

فليست القضية في حبك لعمل معين، بغض الطرْف عن إمكاناتك واستعداداتك الحقيقية؛ فالإمكانات تأتي في المقام الأول، ثم إن وافقت الميول فذلك نور على نور، أما إن كنت تهوى تخصصًا دعويًّا معينًا لا يتناسب مع إمكاناتك فذلك مضيعة للعمر، مدعاة للفشل أو على الأكثر للنجاح المتواضع.

ولا بد هنا أن يتعلم الداعية حقيقة هامة، نبهنا إلينا الإمام مالك رحمه الله لما رد على العمري الزاهد كتابه الذي نصح فيه الإمام أن يعكف على نفسه ويتفرغ للزهد والعبادة؛ فكتب إليه مالك رحمه الله يعلمه تلك السنة الربانية:

“إن الله قسَّم الأعمال كما قسَّم الأرزاق، فرُبَ رجل فتح له في الصلاة ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الصدقة ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الجهاد؛ فنشر العلم من أفضل أعمال البر، وقد رضيت بما فتح لي فيه، وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه، وأرجو أن يكون كلانا على خير) [سير أعلام النبلاء، الذهبي، 8/114].

وهي نفس الحقيقة التي أدركها الإمام الذهبي رحمه الله، فقام يرصعها لك في كلامه الذهبي: (ومازال في كل وقت يكون العالم إمامًا في فن، مقصرًا في فنون، وكذلك كان… صاحبه حفص بن سليمان ثبتًا في القراءة، واهيًا في الحديث، وكان الأعمش بخلافه ثبتًا في الحديث لينًا في الحروف) [سير أعلام النبلاء، الذهبي، 5/260].

فاعلم -أيها الداعية الهمام- أنك كائن متفرد، حباك الله تعالى بتكوين خاص، لا يشبهك أحد في الوجود، فكن نفسك واكتشف ذاتك، وركز على مواهبك، فبذلك تختصر على نفسك سنين من المحاولات ذات الجدوى الضعيفة، وتشق لنفسك طريقًا بين الدعاة النابغين.

وبقي لنا بعد أن حددت اتجاهك الأساسي في طريق الدعوة إلى الله تعالى، أن تتعلم كيف تعيد صياغة منظومة أهدافك في الجوانب الأربعة -الإيمانية الدعوية، والمادية، والاجتماعية، والتطويرية- بما يخدم هدفك الرئيسي، ومجال بَذْلِك ودعوتك.

 

أهم المراجع:

1- صناعة الهدف، هشام مصطفى عبد العزيز وصويان شايع الهاجري.

2-   قوة التركيز، جاك كانفليد ومارك فيكتور هانسن ولس هيوت.

3-   صنف نفسك، أحمد بن صالح الزهراني.

4-   تاريخ دمشق، ابن عساكر.

5-   الرقائق، محمد أحمد الراشد.

——

المصدر: مفكرة الإسلام.

مواضيع ذات صلة