الانفصام الدعوي (2 /5).. مع النفس

البوذية.. تاريخها وعقائدها وعلاقة الصوفية بها

د. عبد الله مصطفى نومسوك

بعد المقدمة التي تناولت أهمية الموضوع وأسباب اختياره ومنهج المؤلف فيه والمشكلات التي واجهته خلال البحث، والتعريف بالكتب البوذية التي اعتمد

غلاف الكتاب

البوذية.. تاريخها وعقائدها وعلاقة الصوفية بها

عليها المؤلف، والمصطلحات البوذية المستخدمة بالبحث.. أكد المؤلف أن الديانة البوذية وإن كانت أرضية غير منزلة، فإن دراستها لا تقل أهمية عن الديانات السماوية، نظرا لكثرة أتباعها الذين يقدر عددهم (550 ، 867 ، 554) مليون، وهي ثالث أكثر الديانات أتباعا بعد الإسلام والنصرانية.

قسم المؤلف كتابه إلى باب تمهيدي وبابين رئيسيين، أما الباب التمهيدي فتناول فيه البيئة التي ظهر فيها بوذا في الفصل التمهيدي الأول، وعناصر الديانة الهندية في عصر بوذا، بينما اشتمل الباب الأول الحديث عن بوذا ومذهبه، ليستعرض في الباب الثاني الصوفية وعلاقتها بالبوذية، وليختم بأهم النتائج المستخلصة من البحث.

الباب التمهيدي: وقد تناول فيه المؤلف البيئة التي ظهر فيها بوذا وعناصر الديانة الهندية في عصر بوذا.

  • أما البيئة التي ظهر فيها بوذا: فبعد نبذة عن شبه القارة الهندية وملامحها الجغرافية وسكانها، وبعد بيان حالة الهند السياسية في عصر بوذا، أوضح المؤلف الحالة الاجتماعية التي كانت سائدة في عصر بوذا، وهي نظام الطبقات الهندوسية: طبقة البراهما –رجال الدين والكهنة– وطبقة الكشتريا –المحاربين والحكام ورجال الإدارة-، وطبقة الويشيا –الزراع والتجار-، وطبقة الشودرا –الخدم والعبيد–، وقد كان بوذا من طبقة الكشتريا، وقام بدعوته لإلغاء الطبقات والمساواة، واستجاب له كثير من الناس.
  • وأما عناصر الديانات الهندية –الهندوسية- في عصر بوذا فتتلخص في ثلاثة :

1-عبادة الآلهة من مظاهر الطبيعة: فهناك إله السماء وإله البرق وإله النار والريح والسحاب… إلخ، فكل قوة طبيعية تنفعهم أو تضرهم إله يعبدونه ويستغيثون به في الشدائد.

2- عبادة الآلهة من الحيوانات وأرواح الأجداد: حيث لا فرق عندهم بين روح الإنسان والحيوان، كما أن الروح تنتقل من الإنسان إلى الحيوان تبعا لقانون “كارما” والتناسخ.

3-الاعتماد على التأمل الذاتي والرياضة النفسية: حيث لا يمكن الوصول للهدف الأسمى بالحياة – وهو الاتحاد براماتما مصدر الكائنات وجوهر الوجود باعتقادهم– إلا بالتزهد والتنسك بالغابات والتأمل بأسرار الكون، وذلك من خلال رياضة اليوجيه والجينية.

الباب الأول: تناول المؤلف حياة بوذا ومذهبه، وذلك من خلال خمسة فصول:

1-نسب بوذا وولادته: ولد بوذا من عائلة آرية من طبقة “الكشتريا”، ووالده “سودودانا حاكم مدينة “كابيلافاستو” التابعة لإمارة “ساكا”، وذلك عام 623 ق .م، مع ذكر الكتب البوذية الكثير رمن الأساطير حول الغرائب والعجائب التي حدثت عند ولادته.

نشأ بوذا نشأة أبناء الملوك والأمراء، وتأثر والده بنبوءة الناسك “كال تيوك” الذي زعم أن “سدهارتا” – بوذا – سيصبح بوذا العالم المتنور إذا ترك بيته وخرج من أحضان العالم، ولذلك أرسله والده بعد بلوغه ست سنوات إلى عالم مشهور هو “جورو وسوامترا” فتعلم منه الفروسية والفلسفة.

ترك بوذا حياة الرفاهية والملك وآثر حياة التقشف والزهد حين كان في التاسعة والعشرين من عمره، فترك زوجته وولده وخرج برفقة رفيقه “شانا”، وطاف المدن والبلدات يلتقي بمعلمي البراهمة ويأخذ عنهم الفلسفة والرياضات الهندية، التي تعتقد أن القوة والمعرفة تأخذ بالزهد المفرط وتعذيب النفس…

بدأ بوذا بممارسة رياضات الهند لتطهير نفسه فسمي من ذلك الحين “جوتاما” أي الراهب، وقد اضمحل جسمه وانحلت قوته بسبب هذه الرياضات لمدة ست سنين، ليصل إلى نتيجة مفادها أن التقشف والزهد لا يكفي وحده، ولابد من الثقافة الروحية العميقة، وأن العقل السليم في الجسم السليم.

كانت لمرحلة “الاستنارة” التي ادعاها بوذا أهمية بالغة في تأسيس ديانته؛ حيث زعم أنه حصل على النور والمعرفة تحت ظل شجرة، لينقل تلامذته الخمسة الكثير من الأساطير حول انتصار بوذا على الشيطان “مارا”، وعن فرار “مارا” وجنوده الأشرار من أمام شجرة المعرفة، وهي تشبه إلى حد كبير ما جاء في الأناجيل المحرفة عند النصارى عن صيام المسيح أربعين يوما وطرده للشيطان وخدمة الملائكة له.

دعا بوذا لمذهبه الجديد وكان يلقي مواعظه بكل مكان في مدن مختلفة، وقد ظل على حياة المبشر والمتسول حتى ناهز الثمانين من عمره، ثم توفي في مدينة “كوسينارا” سنة 543 ق . م، وقد أحرقت جثته حسب التقاليد الهندوسية، ثم جمع ما تبقى من رماده، واقتسمه أتباعه إلى ثمانية أجزاء، ودفنوه في أضرحة في أجزاء مختلفة من الهند، وما زال البوذيون إلى الآن يحجون إليها ويقدسونها.

2-الفلسفة البوذية وأخلاقها: في هذا الفصل أوضح الباحث أن بوذا قد تعلم مذاهب قومه ولم يخرج عنها، وأنه تعلم الفلسفة دون أن يكون له علم بالتاريخ، ولذلك يصنفه الكثير من الباحثين بأنه فيلسوف، وقد تضمنت نصوصه أهم عناصر دعوته التي يسميها البوذيون الحقائق السامية الأربع وهي:

–         الألم موجود والحياة عنده عبارة عن سلسلة من موكب الآلام في سبيل البقاء، وهي تشير إلى النظرة المتشائمة للحياة، وتخالف النص القرآني.

–         كل شيء له سبب وعامل ولا بد لهذا الألم من سبب أو عامل، فالإنسان له سبب في وجوده، فإذا أفنى سبب وجوده فني المسبب وهو الوجود وهكذا.

–         إعدام الألم: فما دامت الرغبات والشهوات الإنسانية عند بوذا هي سبب الآلام، حتى حب الإنسان لأولاده هو سبب للآلام عند فقدهم حسب معتقد بوذا، وبالتالي فلا بد من التخلص من الحب لتنتهي الآلام.

–         الوسيلة لإعدام الألم: وهي طريقة واحدة عند بوذا وهي اتباع ما يسمى “الشعب الثماني أو الممر الأوسط بين التلذذ والزهد”، وهي قواعد الحياة الحقة في البوذية، وهي: سلامة الرأي والنية والقول والفعل والعيش والجهد والتفكير والتأمل.

كما تناول في هذا الفصل فلسفة إنكار الذات في البوذية، والأخلاق العامة التي يتبعها عامة الناس من المدنيون الذين يسكنون المنازل، والخاصة للرهبان الذين ينقطعون للتبتل، متناولا الأخلاق السلبية في البوذية.

3-العقائد في البوذية: اشتملت الديانة البوذية كغيرها من الديانات على مجموعة من العقائد، غير أن معظم هذه العقائد ليست أصلا لها، وإنما مقتبسة من البرهمية، لأنها الديانة الأم في الهند التي تفرعت عنها سائر الديانات.

وقد اتفقت البوذية مع البرهمية في الاعتقاد “بكارما” أي قانون الجزاء، وبالتناسخ أيضا، مع اختلاف في تفسير هذه العقائد.

–        بالنسبة لقضية الألوهية عند بوذا وأتباعه فهي قضية ثانوية، لأن مذهب بوذا معتمد على الأخلاق والتجربة الروحية، ولذلك يرى كثير من الباحثين أن البوذية فلسفة أخلاقية أكثر منها دين، وقد ناقش المؤلف في هذا المبحث شبهة نبوة بوذا والرد عليها، وقضية الألوهية عند البوذيين بعد بوذا، وانقسام أتباعه إلى من جعل بوذا ليس إنسانا محضا، بل روح الإله قد تجسد فيه فأصبح كائنا إلهيا، وبين من اعتقد ببشرية بوذا، وأنه مقدس ارتقى لمرتبة أسمى من الإنسان والملائكة والآلهة، فألهوه بهذا الاعتبار.

-كما تناول المؤلف قضية تراجع كثير من المثقفين البوذيين حديثا عن عدم وجود الإله الخالق، متأولين وجوده باسم “دهارما” بمنزلة الإله في النصرانية، بالإضافة لتناوله عقيدة الثالوث في البوذية التي تتألف من: بوذا المؤسس، و”دهارما” بمعنى تعاليم بوذا وشرائعه، و”سانغها” بمعنى أصحاب بوذا والقديسيين.

-كما تناول المؤلف عقيدة “كارما” أو ما يسمى قانون الجزاء عند البوذية، وهي كلمة سنسكريتية تعني “العمل”، أي كل عمل يعمله الإنسان قولا أو فعلا أو فكرا، وقد تناول المؤلف تفاصيل هذا القانون، بدءا من تعريفه، وانتهاء بنقدها.

-ومن ضمن عقائد البوذية عقيدة تناسخ الأرواح “سمسارا”، والتي تعتبر من أهم وأقدم العقائد الهندوسية، وقد تناول المؤلف تفاصيل هذه العقيدة، وفندها تفنيدا يظهر عوارها وتناقضها وبطلانها.

-كما تناول المؤلف في هذا الفصل عقيدة “نرفانا”، وهي كلمة سنسكريتية وتتألف من كلمتين “نر” ومعناها الانتهاء أو الانعدام، و”فانا” أي الشهوة، والمعنى انتهاء الشهوة، وهي متسقة مع النزعة التشاؤمية البوذية، التي تعتبر الحياة مصدر الآلام.

4- الرهبنة في البوذية: تناول المؤلف في هذا الفصل تعريف الرهبنة البوذية ونشأتها، والتي تعني الامتناع عن جميع الرذائل والاعتزال التام عن الحياة المدنية، كما تناول نشأة الرهبنة البوذية التي تعود إلى منتصف القرن السادس قبل الميلاد.

-عقد المؤلف موازنة بين الرهبنة البوذية والرهبنة النصرانية، ليصل إلى نتيجة مفادها أن هناك ملامح تشابه بينهما يؤكد اقتباس النصرانية المحرفة الكثير من عقائدها من البوذية، وذلك بالأدلة الموثقة.

-استعرض المؤلف في هذا الفصل بعض نماذج من التقاليد والخصائص والنظم والآداب في الرهبنة البوذية، كلبس الأصفر وحلق الرأس والمشي حفاة، والتسول وترك العمل، والصوم والصمت الدائم والتبتل، وسكنى الدير والخضوع لشيخه، ناهيك عن الآداب الكثيرة التي يلتزم بها الرهبان البوذيين في حياتهم.

  • استعرض المؤلف في هذا الفصل أيضا عبادة القديسين البوذيين، مستعرضا الخطوات والعبادات التي لا بد من تخطيها ليصل البوذي لمرتبة القديس.
  • كما أظهر المؤلف ما في الرهبنة البوذية من فساد، وما فيه من مخالفة صريحة للفطرة الإنسانية التي فطر الله الإنسان عليها، مبينا موقف الإسلام من الرهبانية، ورفضه الصريح والواضح لها بكل صورها وأشكالها، بالأدلة الصريحة من الكتاب والسنة.

5-المذاهب البوذية وانتشارها في الأقطار: في هذا الفصل استعرض المؤلف المذاهب البوذية، مبينا أنها مذهبان كبيران: قديم وجديد، أما القديم فهو شديد الصلة ببوذا وينتشر بجنوب الهند وبورما وتايلاند وكمبوديا، والجديد الذي اختلط بالآراء والنظريات الفلسفية، والذي انتشر شمال الهند والتبت ومنغوليا والصين واليابان وكوريا وفيتنام، وقد استعرض المؤلف أهم نقاط الاختلاف بين هذين المذهبين.

الباب الثاني: الصوفية وعلاقتها بالبوذية

1-التعريف بالصوفية ونشأتها وعلاقة البوذية كمصدر من مصادرها: فبعد أن عرف المؤلف الصوفية بكونها فرقة دينية أخلاقية فلسفية تقوم على الزهد في الدنيا والانصراف إلى الروح، وسبب هذه التسمية والاختلاف المذكور حولها، استعرض المؤلف موجزا عن نشأة التصوف والصوفية وتطورها، ليصل إلى النقطة الأهم في الموضوع ألا وهي علاقة الصوفية بالبوذية.

حيث أكد المؤلف أن البوذية تعتبر مصدرا من مصادر الصوفية، مؤيدا كلامه هذا بالأدلة والبراهين وأهمها:

  • انتشار البوذية بفارس وخراسان وما جاورهما قبل الفتح الإسلامي، وهي مواطن نشأة وخروج كثيرا من كبار الصوفية.
  • دخول بعض البوذيين في الإسلام ونقلهم بقايا معتقداتهم السابقة وعدم تخليهم نهائيا عنها.
  • وجود العلاقات الثقافية بين العرب والهنود.

2- علاقة الصوفية بالبوذية في العقائد والأخلاق: وقد استعرض المؤلف أوجه هذه العلاقة من خلال:

  • الفناء: حيث تتشابه فكرة الفناء الصوفي مع عقيدة “نرفانا” البوذية، والتي هي عبارة عن التشبع الروحي والانصراف عن الدنيا كلها، وهي غاية ما يطمح إليه البوذي، كما أن الفناء الصوفي هو عبارة عن فناء الأوصاف المذمومة، أو الفناء المطلق، وهي غاية ما يطمح إليه الصوفي، مؤكدا أن الفناء الصوفي هو طريق إلى عقيدة  الاتحاد والحلول ووحدة الوجود الباطلة.
  • في الطريق إلى الفناء: حيث تتشابه الوسائل والسبل والرياضات الروحية للوصول إلى حالة الفناء المطلوبة بين الصوفية والبوذية، فالتفاصيل الدقيقة المثبتتة في الكتب الصوفية حول وسائل وطرق الرياضة والمجاهدة، تشبه إلى حد كبير وسائل ورياضات البوذيين، كالزي واللباس والخلوة وتقديس الشيخ، والتجرد من المال والجاه وشهوة البطن والفرج، والصوم والصمت الدائم والعزلة ….
  • في الحلول والاتحاد: حيث ظهرت عقيدة حلول وتجسد الإله في شخص بوذا لينقذ الناس من آلام الحياة، كما اعتقد النصارى في المسيح عليه السلام، إلا أن البوذية زادت بإمكانية ارتقاء أي إنسان لمرتبة بوذا بالمجاهدة.

وقد ظهرت عقيدة الحلول في الصوفية في القرن الثالث الهجري بعد ما مهد لها أبو يزيد البسطامي الفارسي (ت 261ه) بنظرية الفناء، كما صرح بها الحلاج (ت309ه) في إشارة إلى كون البوذية مصدرا من مصادر الوصفية.

3-علاقة الصوفية بالبوذية في العادات والتقاليد: وقد استعرض المؤلف في هذا الإطار بعض تلك العادات والتقاليد وهي:

  • لبس الخرقة والمرقعة: وهي شعار المتصوفة وعلامة على دخول أتباعهم في الطريق، والتي لا تلبس إلا من يد الشيخ، ولها شروط تشبه إلى حد كبير لبس الخرقة البوذية التي كانت علامة على الزهد.
  • في اتخاذ الشيخ: فلا بد للمريد من شيخ وإلا فإن شيخه الشيطان، ولا بد أن يرتبط قلبه معه ويتوجه إليه ليأتي الفيض بواسطته…
  • في ملازمة الرباط “الخلوة”: وهو عبارة عن حبس النفس في مكان ما، وملازمة الأوراد وترك التكسب، وهو يشبه ملازمة الرهبان البوذيين للأديرة.
  • السياحة: وهي عادة رهبان بوذا، وهي تجريد النفس من الشهوات واستخراج الأثرة والأنانية منها، وهي معروفة أيضا عند الصوفية، فكثير منهم يؤثر السياحة والسفر على الإقامة، ويخرجون إلى البوادي والصحارى والجبال.
  • التسول وترك الكسب: فالرهبان البوذيون لا يتكسبون ولا يحترفون، بل يعيشون على عطاء الناس لهم، وهو حق شرعي لكل راهب بوذي، وهي عادة معروفة عند الصوفية، حيث يزعمون أنها حقيقة التوكل على الله.

وبذكر أهم نتائج البحث ختم المؤلف كتابه القيم الذي غاص فيه في الديانة البوذية وعقائدها، ونقل إلى المسلمين خلاصة معرفته بهذه الديانة عن قرب، حيث كان يعيش في تايلاند التي يدين كثير منهم بهذه الديانة، ناهيك عن مقارنته بين البوذية والصوفية، واستدلاله على أن كثيرا من أفكار الصوفية مأخوذة من البوذية. فجزاه الله عن المسلمين كل خير . والحمد لله رب العالمين.

——–

** المصدر: التأصيل للدراسات

مواضيع ذات صلة