الانفصام الدعوي (2 /5).. مع النفس

د.عمرو شريف: لهذه الأسباب.. الإسلام هو الدين الخاتم

منى الموجي، هالة عبدالحافظ أكد المحاضر المصري في نشأة الحضارات وعلاقة العلم والفلسفة والأديان د.عمرو شريف أن رحلته نحو المعرفة الدينية لا تتعارض مع عمله كطبيب ناجح، وأشار إلى أن كثيرًا من

د. عمرو شريف

رحلتي نحو المعرفي تنطلق من كوني طبيبا

رموز الحضارة الغربية مثل آينشتاين كانوا يؤمنون بوجود إله، لافتًا في هذا الصدد إلى أن التدبر في الآفاق كان أيضًا السبيل نحو قناعة أحد أشرس الملاحدة بوجود مدبر لهذا الكون، وحذر من إحداث حالة شقاق بين العلم والدين، رافضًا في الوقت ذاته تعامل الحضارة الغربية مع الإنسان من منطلق مادي بحت، كما تحدث عن دور المعجزة في الديانات الثلاث، ولماذا كان الإسلام هو الدين الخاتم.. إلى التفاصيل.. ** خضت حربًا شرسة على الإلحاد وناضلت على مدى سنوات طويلة لتأكيد العلاقة بين العلم والدين.. لكن ما العلاقة بين دراستك وعملك كطبيب جراح وبين أبحاثك العلمية حول الدين والإلحاد؟ لم أترك يوما عملي كجراح، لكني أعتقد أن الإنسان لا بد أن يكون له اهتمام فكري، وأنا أؤمن بأن الإنسان لا بد أن يكون له رسالة في الحياة، وقضية يتبناها، ومع ذلك أنا لم أبدأ في الكتابة إلا قبل سنوات قليلة، لأن اهتمامي الفكري في البداية كان قاصرا على القراءة والاستيعاب، وبدأت أكتب عندما شعرت بحاجتي للكتابة، وعندما أيقنت أن هناك فكرة معينة لم تأخذ حقها في المكتبات العربية، من هنا بدأت، فجاء أول كتاب لي بعنوان “بني آدم من الطين إلى الإنسان”، كتبته بعدما قرأت كتاب د.عبد الصبور شاهين “آدم”.

تبسيط المسيري

** وما الذي دفعك إلى كتابة كتابك الثاني “رحلة عبدالوهاب المسيري الفكرية”؟ عندما اطلعت على فكر د.عبدالوهاب المسيري، وجدت أن طرحه صعب في أسلوبه ومليء بمصطلحات كبيرة في علم الاجتماع وقضايا معقدة، وكنت قد تعرفت عليه، وتتلمذت على يده، وفي إحدى المرات قلت له إما أن تبسِّط فكرك وأسلوبك أو تسمح لنا بتبسيطه وتقديمه بشكل سلس، وبالفعل قدمت أسلوبه بطرح مبسط من خلال كتابي الثاني “رحلة عبد الوهاب المسيري الفكري”، وهذا الكتاب نشرته هيئة قصور الثقافة المصرية. ** وماذا عن كتابك الثالث “رحلة عقل” الذي يعتبر أشهر أعمالك الفكرية؟ بالفعل هو أشهر الكتب التي ألفتها، ومناسبة الكتاب أنني قرأت كتابا بعنوان “هناك إله” there is a gad، مؤلفه أشرس ملحد في القرن العشرين وهو أستاذ الفلسفة بجامعة أكسفورد “سير انتوني فلو” الذي ظل زعيما للإلحاد طوال 60 عامًا من عمره من سن 20 إلى 80 عاما، وكانت كتاباته مرجع وجدول أعمال الملاحدة، لكن في عام 2004 ذكرت وكالة إسوشيتدبرس أن إنتوني فلو أعلن عن وجود إله بدافع من البراهين العلمية، وقامت الدنيا ولم تقعد حتى الآن، وامتلأت بالمعارضين من تلاميذه وزملائه وتعرض لسخرية وتهكم لدرجة اتهامه بالخرف، نظرا لأنه طعن في السن، وكتب فلو في 2007 كتابه “هناك إله”، وقرأت الكتاب بعد أن دلني عليه صديق، وشعرت بأهمية أن يقرأه كل الشباب العربي، فترجمته في النصف الأول من كتابي “رحلة عقل”، وكان “فلو” قد وصل في كتابه إلى وجود إله ولم يصل لتبني ديانة محددة، وأن هناك دين وأن الإله يتواصل مع البشر، متبعًا بذلك مدرسة قديمة هي مدرسة “الربوبية” التي تؤمن بأن هناك خالق للكون وضع قوانينه وتركه وانشغل عنه بما يليق بالإله وهو ذاته، وهو نفس كلام “أرسطو” الذي رغب في تنزيه الله بهذا الكلام، لكن هذا ليس المفهوم الإسلامي الذي نؤمن به، فنحن نؤمن بالقيومية {اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ}؛ بمعنى أن الله يتابع الكون في كل لحظة ويستجيب لدعواتنا، فالإله لم ولن ينفصل عن الكون. أما النصف الثاني من الكتاب فأسميته “نستكمل الرحلة” حول الأدلة على أن السماء تتواصل مع الأرض والإله يتواصل مع البشر وقدمت مقارنة بين الأديان اليهودية والمسيحية والإسلامية ولم أكتب وجهة نظري في المسيحية واليهودية بل طلبت من صديق مسيحي له اهتمامات كنسية ويهودية أن يطلب من الكنيسة كتابة ملخص كما يريدون أن يعرضوه، ووصلنا إلى أنه لا يكفي قول الإنسان أن هناك إلها، لكن لا بد من تبني أن الإله يتواصل مع خلقه.

آيات الآفاق

** ما الدافع العلمي الذي جعل ملحدا معاندا مثل “فلو” يقر بوجود إله؟ الذي قاد إنتوني فلو لطريق الإيمان ليس دافعا إيمانيا، بل دافعا علميا بحتا، فقد تأمل في خلق الكون من خلال نظرية الانفجار الكوني الأعظم، التي تفسر نشأة الكون، وأيضا قضية خلق الإنسان والشفرة الوراثية الخاصة بالكائنات الحية، وكيف هي شديدة التعقيد، ولا يمكن أن تكون نشأت دون موجد لها، هذان الدافعان العلميان جعلا مجله “التايم الأمريكية” تعلق على قصة إيمان “أنتوني فلو” وتعتبره على رأس أعظم الاكتشافات العلمية في القرن العشرين، وكأننا نحيا في زمن تحقق هذه الآية {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (فصلت: 53)، فها هو أحد أشرس الملاحدة يؤمن بوجود الله من خلال آيات الآفاق. ** لماذا لم يقتنع زملاء “فلو” وتلاميذه بأدلته العلمية بل على العكس هاجموه واتهموه بالخرف؟ لا بد أن نفرق بين الدليل العلمي وتطبيقاته العلمية والفلسفية، من الممكن الدليل العلمي نفسه يراه البعض لصالح قضية الإلحاد، فمثلا نظرية الانفجار الكوني الأعظم تقول إن الكون قديم أزلي لا بداية له، وبالتالي هذا يجعل البعض يشعر بالراحة لعدم البحث عن موجده. وفي وجود آينشتاين 1929 كان هناك عالم فلكي اسمه هابل توصل إلى الأدلة الحاسمة بأن للكون بداية، فسافر آينشتاين إلى أقصى أمريكا ليطلع على أدلته، وكان هابل قد سجل أن الكون يتمدد وأن المجرات تتباعد وهي غير ثابتة، وهذا يعني أن المجرات بالأمس كانت أقرب، وأول أمس كانت أكثر قربا، وبالتالي كانت في يوم ما شيئا واحدا وهو ما أطلق عليه مفردة، وقدروا عمر هذه المفردة بـ13.7 مليار سنة. وتوصلوا أن للكون بداية وأنه نشأ من عدم، لأننا لو جمعنا الشحنات السالبة في الكون مع الشحنات الموجبة يساوي صفر، ولو جمعنا الطاقة السالبة مع الطاقة الموجبة يكون الناتج صفر، وهذه حقائق علمية، لكننا نرى الملاحدة يقولون: إن الكون نشأ من عدم فهو ليس في حاجة إلى إله، ويأتي المؤمن ليقول هل كل هذا الجمال وكل هذا الوجود من عدم؟ وكيف قسم العدم إلى سالب وموجب وشكل منه هذا الكون؟ إذن كل هذا يحتاج إلى قدرة إلهية، فنفس الحقيقة يستشهدون منها على القضية وعكسها، و”فلو” أتبع في حياته مبدأ أبو الفلاسفة سقراط وقال: “أنا أتبع الدليل إلى حيث يقودني، وقادني العلم والفلاسفة من قبل إلى الإلحاد، واليوم الدليل يقودني إلى الإيمان”.

 كيف بدأ الخلق

** ماذا عن الخطوة التالية وكتاب “كيف بدأ الخلق”؟ من خلال انفتاحي على عالم الإلحاد في الغرب وعلى دور العلم والفلسفة في الإلحاد، فظهرت فكرة هذا الكتاب وقررت الوقوف وقفة مع العلم لنرى الآيات في الآفاق والأنفس وكتبت كتاب (كيف بدأ الخلق)، بداية من نظرية الانفجار الكوني، وتطبيقاتها وانعكاساتها العلمية والفلسفية، ونشأة الحياة من خلية واحدة ثم تنوعت، وظهر التنوع الهائل في الكائنات الحية والترقي فيها حتى وصلنا إلى الإنسان، حتى وصلنا إلى نظرة العلم والدين في خلق الإنسان، ومهمة الإنسان في هذه الحياة.. وتواصلت هذه المسيرة في كتابي التالي “ثم صار المخ عقلا”، والذي أوضحت من خلاله أن كل الكائنات الحية لديها مخ، إلا الإنسان لديه مخ وعقل “أَفَلاَ يَعْقِلُونَ”، وهذه قضية شديدة الإعجاز، فلماذا كل الكائنات لها مخ إلا الإنسان له مخ وعقل وكيف صار المخ عقلا، هذا ما تناولته في الكتاب، حيث استشعرت أن العقل في حاجة إلى كتاب وحده يتحدث عن سماته، نظرياته، نشأته، قدراته، وما يستشعر العقل من مشاعر روحية، مثلا في رمضان أثناء قيام الليل نسمع الشيخ يقرأ فتنهمر دموعنا وترتجف قلوبنا، فما الذي حدث؟ وما الذي يصيب أرواحنا وينعكس على أجسادنا وتقشعر له أبداننا؟، كل هذه أمور تناولها الكتاب. ** البعض يدعي أن تخلف الدول العربية والإسلامية على المستوى العلمي بسبب تمسكها بالدين، والعكس بالنسبة للغرب؟ كثير من المفكرين يتحدثون في ذلك، وأرى أن ذلك مأساة، فالدافع الذي يمكن أن يدفعنا إلى التقدم ينسب إليه أنه سبب تخلفنا، في الحقيقة أنا اصف أي دين أنه سلاح ذو حدين إذا أسيء فهمه وظن الناس أن الدين موجود ليبين لنا الطريق إلى الجنة، والسعادة في العالم الأخر فقط، وليس له علاقة في بناء الحضارات في الحياة الدنيا، فهذا الحد الضار، وهذا الذي دفع الماركسيون إلى قول “الدين أفيون الشعوب “، وهي مقولة فيها جزء من الحقيقة إذا أسيء فهم الدين، لكن إذا فهم الدين بشكل صحيح سيختلف الوضع بالطبع. فالدين الإسلامي حث الناس على القراءة والله سبحانه قال في سورة القلم {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} (القلم: 1)، فالمتأمل للحضارة الإسلامية يرى أن وقت تمسك المسلمين بدينهم كانت أوروبا تعيش في العصور الوسطى عصر مظلم، وكان المسلمون في أوج نشاطهم وتقدمهم، وكان العالم يجمع بين العلم والدين فوجدنا الشيخ الرئيس الطبيب ابن سينا، الرازي وابن الهيثم كلهم لهم اهتمامات دينية وعلمية، وليس هناك دين يأمر الناس بالتدبر والنظر في الآفاق للاستدلال على وجود الإله إلا الإسلام. ألم يخطر في بالنا تساؤل: لماذا الدين الإسلامي هو آخر الأديان السماوية؟.. لماذا؟ هناك من يظن أنه لعلو منزلة المصطفى عند ربه، وهذا صحيح ولا شك فيه، لكن هذا لا يجعل الإسلام في حد ذاته آخر الأديان السماوية، وأنا أعتقد لأنه دين قائم على العقل وليس فقط على المعجزات، فلو تأملنا اليهودية فماذا تكون بدون معجزة شق البحر وعصا موسى؟ وما المسيحية دون الميلاد المعجز للمسيح عليه السلام ودون إحياء الموتى وشفاء المرضى إلى آخره؟. أما الإسلام فليس فيه معجزات بهذا المعنى، فدور المعجزات في الإسلام قليل جدا والمعجزة الكبرى في الإسلام هي معجزة عقلية “القرآن الكريم”، وأكبر معجزتين في الإسلام “الإسراء والمعراج”، اقتراب الساعة وانشقاق القمر، ولم نسمع قط أن أحد الصحابة دخل الإسلام لأنه رأى هذه المعجزات، بالعكس هناك من ترك الإسلام بعد أن سمع الرسول يحكي عن رحلة الإسراء والمعراج ولم يصدقه، فالمعجزة دورها ضئيل جدا. والغرب نجح وتفوق عندما أخذ بمنهج العقل، وعندما اكتشف أن الأرض هي التي تدور حول الشمس أنهى العصور الوسطى المظلمة في أوروبا، ولا يمكن القول: إن الإسلام هو سبب التخلف، فسبب التخلف هو أننا فارقنا منهج العقل، وتركنا الأخذ بالأسباب، ولا شك أن التفوق والنجاح في الحضارة له معادلة إن التزمنا بها نجحنا وإن لم نلتزم تأخرنا.

 الخطاب الديني والعلمي

** هل لنا أن نلقي باللوم على الخطاب الديني المشغول بالعقاب والآخرة؟ نعم الخطاب الديني الآن مسئول إلى حد كبير عما آل إليه حال المجتمع الإسلامي، فهو يتبنى للأسف الجوانب الروحية والحياة الآخرة فقط، ويترك جوانب بناء الحضارة، لكن هناك علماء ومفكرين كبارا مثل الشيخ محمد الغزالي، د.محمد عمارة، المهندس فاضل سليمان، د.محمد العوضي ود.محمد سليم العوا وغيرهم اهتموا بتغيير هذه الصورة، لكنه ليس الاتجاه العام، فنحن نحتاج إلى صحوة، للأسف الخطاب الديني لم يساهم فقط في التأخر الحضاري بل في أنه أصبح أحد أسباب ظهور الموجة الإلحادية، نتيجة عدم قدرته على مجاراة التقدم العلمي، وتناقض ما يسمعه الشباب في الإعلام العلمي ودور العلم وما يسمعه في الإعلام الديني ودور العبادة. ومن هنا حدث أن بعض الشباب تركوا الدين، وكثيرون من رجال الدين يثورون إذا قلنا لهم هذا، وسبحان الله الحديث الشريف الذي رواه سيدنا أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها”، فالتجديد وارد وشيء أساس في بنية الدين الإسلامي؛ لأن المجتمع يتغير والعلم يتقدم. ** وماذا عن الخطاب العلمي الغائب عن مجتمعنا؟ تجديد الخطاب العلمي قضية مهمة وتحتاج إلى محاولات جريئة، ومشكلتنا أننا نرث مشكلات الغرب، فالفصام بين الدين والعلم فصام كنسي من العصور الوسطى في أوروبا، عندما بدأت الاكتشافات العلمية في الظهور، وبدأت الكنيسة في رفضها انفصل الدين عن العلم، وأصبح هناك عداء بينهما انتشر في أوروبا ثم صُدر إلينا، وعندما وضع الغرب المنهج العلمي استبعد منها أي تأويلات دينية، حتى لا يتكرر نفس العداء الذي نجم عن أن الدين والعلم لا يلتقيان؛ فالإلحاد المعاصر ما هو إلا إفراز أوروبي، لكن نحن في العالم الإسلامي نتحمل توابعه.

 عواقب الانفصال

** ماذا عن عواقب انفصال الدين عن العلم؟ د.عبدالوهاب المسيري قال: إن النتيجة في انفصال العلم عن الدين هي خسارة الإنسان لنفسه، كما أشبهه أنا بالمسيح الدجال الذي يبصر بعين واحدة فيبصر فينا الجانب المادي فقط، ولا يبصر فينا الجانب الروحي، الإنسان كائن ثنائي، من مادة الأرض، طين، صلصال، حمأ مسنون، فخار، ونفخة من روح الله عز وجل، أو نفخة نسبها الله عز وجل إليه، إعزازا وتوقيرا لعظمة الخالق، وخصوصية الإنسان أنه كائن ثنائي؛ فالإنسان برزخ، والبرزخ هو الذي يصل بين اثنين لا يمتزجان، الجسد من الطين بما فيه من حيوانية وغرائز، والروح بما فيها من نورانية، فالإنسان سيخسر نفسه إذا اهتم بالجانب الطيني وأهمل جانب الروح، وهذا الجانب هو أهم سلبيات الحضارة الغربية وهي حضارة عظيمة جدا أنتجت إنتاجا هائلا ليس له مثيل في الحضارات السابقة، لكنها جعلت من الإنسان كائنا ثلاثي الأبعاد منتجا مستهلكا مستمتعا فقط، أما حقيقة رسالته والمطلوب منه مآله من أين؟ والى أين؟ فلا تهتم ليصل الضياع إلى “جئت لا أعلم من أين لكني أتيت أبصرت أمامي طريقا فمشيت”..

—–

المصدر: الوعي الشبابي (بتصرف يسير).

مواضيع ذات صلة