الانفصام الدعوي (2 /5).. مع النفس

كيف يمكن “التعايش”؟

بدر بن سليمان العامر

التعايش مطلب للجميع، هكذا تسمع وتقرأ في كل وسيلة ومجلس من مختلف الناس، سنة وشيعة وغيرهم، كل يدرك أهمية الاجتماع، ونبذ الشقاق، وكل يعرف

يرفعون مجسما للكرة الأرضية بأيديهم

بالتعايش والتسامح نرتقي بأوطاننا

أنه لا يمكن للناس أن تتفانى أو تتقاتل أو يقضي بعضهم على بعض، ولكن الأمر الغائب هو: كيف نرسم منهجية للتعايش يتفق عليها الجميع، ويضعون خطوطها العريضة، وقيمها المشتركة، وتكون مرجعا لجميع الأطراف؟

 هنا لا بد من وضع بعض القواعد الضرورية لهذا الأمر:

الأولى: أن “التعايش” لا يعني بالضرورة “الاتفاق” على العقائد والأفكار والآراء، إذ لو كان الناس متفقين على هذه الأمور لم يكونوا بحاجة إلى طرح موضوع التعايش، إنما “التعايش” يكون مع وجود الاختلافات التي تصل إلى “الأصول” فضلا عن الاختلاف في “الفروع”.

الثانية: أن التعايش فعل “سلوكي” وليس أمرا “تصوريا نظريا”، فهو حراك اجتماعي وسلوك واقعي بين المختلفين في البيت والشارع والعمل.

الثالثة: أن التعايش يقتضي ترك كل ما يوتر العلاقة بالآخر، فلا يمكن أن يتم التعايش مع النكاية بمقدسات الآخرين، وما يعظمونه من الأفكار والأشخاص، وهذا أمر قررته الشريعة قولا وعملا، فالشريعة الإسلامية أباحت للإنسان المسلم أن يتزوج “الكتابية” التي تعتقد في الله قولا عظيما، ومع ذلك أباح للمسلم الزواج بها وهي تعتقد أن الله “ثالث ثلاثة”، وتعتقد أن لله ولدا، وهو الأمر الذي “تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا، أن دعوا للرحمن ولدا”، ومع ذلك يتزوج الإنسان المسلم النصرانية، وينجب منها، وتكون حليلته، وصاحبته، يحزن لمرضها، ويبكي لموتها، ولكنه قطعا لن يتعايش معها إذا سبت دينه، أو نكأت بنبيه، لأن عقيدتها لها، وسبها لعقائد الآخرين تعد وبغي وظلم، وهكذا الحال بالنسبة للخلاف بين السنة والشيعة، فالعقائد فيها اختلاف، ولا يقتضي التعايش أن يتنازل كل طرف عن عقيدته في مقابل الآخر، بل عليه ألا يتعدى على الآخرين ويستثير مكامن نفوسهم، وهذا لا يعني ترك الحوار والجدل وحتى “المناظرة” لتجلية الحق والصواب في المسائل المختلف فيها، فالأمم الراقية هي التي تدير اختلافاتها بالرقي في القول، واحترام قواعد العلم، وآداب الحوار، وقد نهى الله عن “سب آلهة الكفار” حتى لا يسبوا الله عدوا بغير علم، وكذلك إن كان سب اعتقادات الآخرين يؤدي إلى فتنة أو فساد أو تعد على العقائد الإسلامية والمقررات الشرعية.

والنبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ لما جاء المدينة كانت فيها طوائف وفرق عقدية مختلفة، ولكنه رسم لهم أطرا ومنهجية واضحة في السلم والحرب مع وجود الاختلاف الحاد في العقائد، فهم مؤمنون ومشركون ويهود ونصارى ومنافقون، ومع ذلك سماهم النبي عليه الصلاة والسلامة “أمة من دون الناس”، وهيمنة الدعوة الإسلامية وغلبة المسلمين على غيرهم لم تكن ضررا على المختلفين معهم في المدينة ما دام هناك نظام ضابط للتصرفات والحدود المقبولة وغير المقبولة في طبيعة الاجتماع المديني في ذلك الوقت، فيظل الناس على طبيعتهم حتى يمارسوا ما يؤثر على هذا الاتفاق والعهد، كما فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع اليهود حين خانوا ونقضوا العهد، ويبقى من مهمات “الدولة” حماية هذا السلم من كل ما يؤثر فيه، مع إتاحة المجال للنقاش والاختلاف حول المسائل المختلف فيها في إطار الآداب والقواعد الشرعية والنظامية.

الرابعة: ضرورة مراجعة الموروثات التي تشكل حالة الانفصال عن المحيط، فاجترار إحن التاريخ ومشكلاته، وتربية الأجيال على الثارات، وخلق حالة العداء تجاه السواد الأعظم من المجتمع، هو الذي يخلق الحالة المتوترة في العلاقات، وشعور الشباب بالمظلومية التي تؤدي إلى الاحتقان والتباغض، وهذا أمر ملحوظ في الطقوس التي تمارس من جانب بعض الشيعة في العالم الإسلامي التي تتضمن رسائل سلبية تجاه الأمة كلها، وتؤدي إلى خلق فرصة للغلاة بالانقضاض والقناعة بأن المسألة تتوجه إلى صراع حتمي، وهنا يأتي دور العقلاء من العلماء والمفكرين الذين يعيدون قراءة الموروث، ونقده، وكذلك ضرورة الكف عن إطلاق أحكام “التكفير” لأهل القبلة من كل الأطراف، وحصرها في إطارها القضائي أو من يحمل أهلية إصدار الأحكام، وتربية الناس على المبادئ الشرعية التي تبقي وصف الإسلام على المنتسبين للقبلة، وإحسان الظن، وحمل الكلام على المحامل الحسنة، وترك أمر الأحكام للعلماء والراسخين في العلم.

الخامسة: ضرورة التفرقة بين مجرد الانتساب إلى التشيع الذي يعد أمرا تاريخيا في الوطن، وبين الحمولة الأيديولوجية التي نشأت بعد الثورة الخمينية التي أصبحت أقرب إلى الانتساب “السياسي” منها إلى الانتساب العقدي، فالأول أمر سابق على الخلاف السياسي مع إيران، والثاني امتداد سياسي مضر، لأنه يؤدي إلى ازدواجية الولاء، والخيانة للبلد، وجعل المنتسب وسيلة وأداة سياسية لتحقيق مشروعات سياسية، وهذا، وإن كانت معالجته أمنية، إلا أن التنبيه إلى خطورته لا بد أن يتم من خلال خطاب التسامح والتعايش الذي يرسخ قواعد الوحدة الوطنية ويحذر من هذه المسالك المضرة، التي تخرج من إطار الخلاف الفكري والعقدي إلى الخلاف السياسي المؤدي إلى الشر والفساد حتما… فهذه التصرفات بلا شك ستقنع العقل الاجتماعي بأن القضية ليست خلافا في بعض التصورات العقدية والتاريخية، وإنما هو امتداد سياسي لدولة أخرى لها أهدافها ومطامعها في المنطقة.

السادسة: تحقيق العدالة على أساس “المواطنة” هو الذي يشعر بالرضا وخلق حالة الوئام، والتمييز بين المواطنين على أسس مناطقية أو قبلية أو فئوية أو مذهبية هو الذي يخلق حالة الخصام والعداء.

********

المصدر: عن الوطن أون لاين (بتصرف).

مواضيع ذات صلة