الانفصام الدعوي (2 /5).. مع النفس

الدعوة الشاملة الخالدة

محمد الخضر حسين

بينما العالم يتخبط في جهل وغواية فإذا بنور يلوح تحت سماء مكة، وتنبعث أشعته في اليمين واليسار، حتى أخذت بلاد العرب من أطرافها، وضربت في أقاصي 8033-1الشرق والغرب، فانقلب الجهل إلى علم، والغواية إلى هدى، ذلك هو نور الدعوة التي قام بها أكمل الخليقة محمد بن عبد الله “.

ترمي هذه الدعوة الصادقة إلى أهداف سامية: إصلاح العقائد، والأخلاق والأعمال، وتنقية النفوس من المزاعم الباطلة، وتحرير العقول من أسر التقليد، تحت ضياء الحجة، وعلى ما يرسمه لها المنطق السليم.

جاء الرسول الأعظم بهذه الدعوة الشاملة، فكانت مصدر خير ومطلع حكمة، وقد أيدها الله –تعالى- بما يضعها في النفوس موضع القبول، ويجعلها قريبة من متناول العقول.

 ومن أقوى مؤيداتها الآيات القائمة على أنَّ المبلغ لها رسول من رب العالمين، وسيرته -عليه الصلاة والسلام- مملوءة بأرقى الفضائل وأَسنى الآداب وأجَلّ الأعمال، حتى إنَّ الباحث في السيرة على بصيرة ليجد في كل حلقة من سلسلة حياته معجزة، ولو استطعت -ولا إخالك تستطيع- أن تضعها في كفه، ثم تعمد إلى سيرة أعظم رجل تحدث عنه التاريخ، فتضعها في الكفة الأخرى، لعرفت الفرق بين من وقف في كماله عند حد هو أقصى ما يبلغه الناس بذكائهم وحزمهم، وبين من تجاوز ذلك الحد بمواهبه الفطرية، وبما خصه الله به من معارف غيبية، وحكم قدسية.

هي دعوة الحق اتجه إليها أقوام لا يؤمنون بأنها وحي سَمَاويّ، فاطلعوا على جملة من حقائقها، ووقفوا على جانب من أسرارها، فشهدوا لها بأنها محكمة الوضع، سامية الغاية، وألموا بأطراف من سيرة المبعوث بها، فاعترفوا بأنه أكبر مصلح أنقذ الإنسانية من غمرات الاستبداد، وعلمها بأقواله وسيرته العملية كيف تتمتع بحقوقها كاملة، وتحتفظ بحريتها وهي آمنة.

دعوة تأبى الخمول والإحجام، حيث ينبغي لها أنْ تظهر في شهامة وإقدام، توجه نصائحها إلى الأمم على اختلاف طبقاتها وتفاضل درجاتها؛ فتسدي النصيحة إلى الملوك فمن دونهم من ذوي المناصب السياسية، والقضائية، والتنفيذية، وتأخذ بأيدي العاملين من نحو التُّجَّار، والصُّنَّاع، والزُّرَّاع إلى أن يسيروا في الطريق الكافل للسلامة والنجاح، وأقبلت على الأسرة فرسمت لها نظماً تيسر لها أن تعيش في ألفة وهناءة، فقررت للزوجة والقرابة من نحو الأبوة والبنوة حقوقاً عادلة، وأوجبت على من يستطيع إسعاد ذوي الحاجات بمال أو جاه أن يسعدهم ما استطاع، وأوصت مع هذا برعاية حقوق الجوار.

وراعت في معاملة المخالفين ما تستدعيه العزة من الحزم، ثم ما تستدعيه العاطفة الإنسانية من الرفق، ففرقت بين من يدخل تحت سلطانها، ومن يناصبها العداء، فمنحت المسالمين من الحقوق ما تطمئن به نفوسهم، وتنعم به حياتهم، وأذنت في تقويم المناوئين بالقدر الكافي للنجاة من عدوانهم.

طلعت الدعوة المحمدية على الناس فصيحة البيان، قوية الحجة، حكيمة الأساليب، ولم تسلم مع هذا من طوائف يرمون أمامها أو وراءها عن قوس إلحاد وقح، أو جهل قاتم، ولولا أن الله –تعالى- تكفل بحفظها، وقيض لها في كل عصر أنصاراً رسخوا في فهم مقاصدها، وتصدوا للذود عن ساحتها بيقظة وحزم لتمكن أولئك المفسدون من إخفات صوتها، وطمس معالمها.

وليست دعوة الإسلام بالدعوة التي ترشد إلى مواطن الإصلاح، ثم تترك الناس وشأنهم كما يفعل وعاظ المساجد والجمعيات، بل هي دعوة تحمل في مبادئها فرضاً على الأمة أن تقوم بتنفيذ ما تقرره من حقوق، أو تفرضه من واجبات؛ إذ لا ينفع تَكُلُّمٌ بحق لا نفاذ له.

** المصدر:  مجلة لواء الإسلام العدد السابع من السنة الأولى في أول ربيع سنة 1367هـ.

مواضيع ذات صلة