الانفصام الدعوي (2 /5).. مع النفس

لعبة الأرقام.. قراءة في تقرير مركز بيو للتعددية الدينية في العالم

هشام المكي

أصدر مركز الأبحاث الأمريكي “بيو” تقريره الأخير حول التعددية الدينية في العالم، وذلك بتاريخ الرابع من أبريل 2014م؛ وهو التقرير الذي حاول قراءة التنوع الديني

لعبة الأرقام

ركز التقرير على خمسة أديان عالمية معترف بها

بشكل مفصل في كل بلدان العالم.

وركز تقرير مركز بيو  على خمسة أديان عالمية معترف بها على نطاق واسع، وهي: الإسلام والمسيحية واليهودية والبوذية والهندوسية، حيث يمثل معتنقو هذه الديانات الخمس نحو ثلاثة أرباع سكان العالم.

أما ما تبقى من سكان العالم، فقد دمجهم التقرير في ثلاث مجموعات إضافية: مجموعة الذين لا ينتمون إلى أي ديانة (سواء الملحدون أو الذين لا ينتمون إلى أي دين دون موقف من وجود الإله)؛ أتباع الديانات التقليدية أو الشعبية (بما في ذلك أتباع الديانات الأفريقية التقليدية والديانات الشعبية الصينية وديانات الأمريكيين الأصليين، وديانات السكان الأصليين في أستراليا…)؛ وأخيرا أتباع الديانات الأخرى (مثل البهائية والسيخية والطاوية…).

واعتمد التقرير مؤشر التنوع الذي يتوزع على 10 نقاط، حيث أتاحت النتائج تقسيم بلدان العالم إلى أربعة نطاقات أساسية:

– المستوى العالي جدا: ويشمل البلدان التي حصلت على معدل 7.0 وما فوق. وهي البلدان التي تحتضن أعلى درجات التنوع الديني، وتمثل نسبة (5%) من دول العالم.

– المستوى العالي: تصنف ضمنه الدول الحاصلة على معدل يتراوح بين (5.3) و(6.9)، وتمثل هذه الدول نسبة (15%) من دول العالم، وهي تحتضن مستوى عال من التنوع الديني.

– المستوى المعتدل: ويشمل حوالي (20%) من دول العالم، وهي الدول الحاصلة على معدل يتراوح بين (3.1) و(5.2) ضمن مؤشر التعدد الديني.

– أما ما تبقى من البلدان، فهي مصنفة ضمن المستوى المتدني من التعددية الدينية.

نتائج التقرير

من بين 232 دولة شملها التقرير، جاءت النتائج كما يلي:

تصدرت الترتيب اثنتا عشرة دولة لديها درجة عالية جدا من التنوع الديني، تتموقع ستة منها في منطقة آسيا والمحيط الهادئ (سنغافورة وتايوان وفيتنام وكوريا الجنوبية والصين وهونج كونج)؛ وخمسة منها في أفريقيا جنوب الصحراء (غينيا بيساو، وتوغو، وساحل العاج، وبنين، وموزامبيق)؛ بينما تنتمي دولة واحدة فقط إلى أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي، وهي دولة (سورينام).

وبخصوص تنوع النتائج تبعا للمناطق الجغرافية، توصل التقرير إلى أنه من بين المناطق الست التي تم تحليلها، فإن منطقة آسيا والمحيط الهادئ لديها أعلى مستوى من التنوع الديني، تليها أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، ثم أوروبا وأمريكا الشمالية بمستوى معتدل من التنوع الديني، في حين أن مناطق أمريكا اللاتينية ودول البحر الكاريبي والشرق الأوسط وشمال أفريقيا لديها درجة منخفضة من التنوع الديني.

أما بخصوص وضعية العالم العربي، فالنتائج سلبية عموما، إذ لا توجد أي دولة عربية بين الدول التي تضم درجة عالية جدا من التنوع الديني، أما الدول ذات درجة عالية من التعددية الدينية فتضم 36 دولة، من بينها أربع دول عربية فقط هي: جنوب السودان، قطر، لبنان، والبحرين.

أما الدول ذات تعددية دينية معتدلة فيصل عددها إلى 47 دولة، من بينها دولتان عربيتان فقط هما على التوالي: الكويت والإمارات العربية المتحدة.

بينما تنتمي باقي الدول العربية إلى مجموعة الدول ذات تعددية دينية منخفضة، وفي المراتب المتأخرة عموما: عمان (2.9)، السودان (2.0)، سوريا (1.6)، المملكة العربية السعودية (1.5)، مصر (1.1)، ليبيا (0.7)، الأردن (0.6)، السلطة الفلسطينية (0.5)، الجزائر (0.5)، العراق واليمن وموريتانيا بمعدل (0.2)، تونس والصومال (0.1)، وفي المرتبة الأخيرة يأتي المغرب بمعدل (0.0).

ملاحظات حول التقرير

تبدو الأرقام التي تخص العالم العربي صادمة، خصوصا وما يتفاخر به المسلمون من تسامح ديني عريق، يجد أصوله في التراث التاريخي للحضارة الإسلامية التي احتضنت ديانات متعددة في أشكال رائدة من التعايش.

فمن الغريب أن تجد معظم الدول العربية في مجموعة الدول ذات التعددية الدينية الضعيفة، لدرجة أنك تجد دولا ذات معدل منخفض بشكل ملفت مثل العراق واليمن وموريتانيا وتونس، كما أن المغرب يظهر كدولة معادية للتعددية الدينية بمعدل (0.0).

فما السر وراء غياب التعددية الدينية في العالم العربي تحديدا؟ وما هي مجالات التقصير؟

في واقع الأمر، لا يعود تأخر ترتيب الدول العربية في التصنيف إلى عوامل ذاتية ترتبط بهذه الدول وما تقوم به من سياسات ترتبط بتشجيع التعددية الدينية، بل يرجع هذا الترتيب بالأساس إلى مركز “بيو” نفسه، وإلى المنهجية التي اعتمدها:

– أما ما يتعلق بمركز “بيو”، فهو يعد من أهم مراكز التفكير الأمريكية، تم تأسيسه عام 1948، من خلال صناديق خيرية أسسها أربعة أبناء لمؤسس شركة “صن” للنفط، “جوزيف ن. بيو” وزوجته “ماري أندرسون بيو”، ليتحول بعدها إلى منظمة ذات نفع عام، ويمكنها تلقي الهبات والتبرعات وذلك بدءا من سنة 2004، حيث أصبح المركز مؤسسة بحثية ضخمة لها موارد مادية هائلة وإمكانات كبيرة جدا.

وبخصوص استقلالية المركز، فتأسيسه في الأصل جاء كعمل خيري في إطار ديني وفق تصور للعمل الخيري “الهادئ”، حيث يتنمي المؤسسون إلى الكنيسة المشيخية البروتستانتية الأمريكية. أما سياسيا، فيصرح المعهد باستقلاليته، لكن مؤسسيه ينتمون إلى التيار المحافظ. وأمام هذا الانتماء السياسي والديني للمؤسسين، هل يحافظ المركز فعلا على استقلاليته ومصداقيته؟

– هذا يقودنا مباشرة إلى المنهجية المعتمدة في التقرير، فالمؤشر البحثي المعتمد،  مؤشر عام، له استخدامات عديدة، إذ يستخدمه علماء الأحياء، علماء البيئة، واللغويون، والاقتصاديون وعلماء الاجتماع والديموغرافيا… لكن ربما يكون هذا دليلا على نجاعته.

لكن المنطق المعتمد للتصنيف، هو منطق غريب للغاية: إذ يتم حساب مقدار التنوع الديني في بلد ما، من خلال توفر هذا البلد على الديانات الثمانية الأساسية حسب التقرير، وهي الإسلام والمسيحية واليهودية والبوذية والهندوسية والديانات التقليدية أو الشعبية، ومجموعة الذين لا ينتمون إلى أي ديانة، ومجموعة الديانات الصغرى الأخرى.

بمعنى أن البلد الذي يتوفر على معتنقي هذه الديانات/المجموعات الثمانية بنسب متقاربة، هو البلد الذي يعرف أكبر درجات التنوع الديني. وهذا التصنيف الغريب، يطرح معه الأسئلة التالية:

هل يتعلق الأمر بتنوع ديني أو بتشظٍ وتفتت ديني؟ كيف سيحظى بلد بكل هذا التشظي الديني بهوية جامعة توفر لمواطنيه أجواء الاستقرار والعيش في طمأنينة؟

ألا يتعلق الأمر بقفز على التاريخ والجغرافيا، والحضارة الأميركية قامت على قفزة هائلة على التاريخ؛ فلم يعد تاريخها متصلا، سواء بسبب الغزو الأوروبي المتعدد أو بتر تاريخ السكان الأصليين، كما كانت لها قفزة جغرافية هائلة، بتحويل “عالم قديم” بسكانه وحضارته الإنسانية الراقية، إلى “عالم جديد” كان محل أطماع استعمار واستغلال.

فماذا تفعل الدول العربية لترضي مؤشرات التقرير؟ هل تستورد أتباع الديانات الأخرى؟ أم تفتح باب الردة وبإجراءات تحفيزية أيضا؟

إن أقل ما يقال، هو أن الفوضى الدينية أصبحت هدفا، يتعين على بلدان العالم بلوغه حتى يحظوا باستحسان التقرير، ويصنفوا ضمن الدول المحترمة ذات التعددية الدينية الكبيرة!

لكن في حقيقة الأمر، هناك مؤشرات أخرى تم تغييبها: مثل دراسة تصور الديانات السائدة في بلدان العالم للتعدد الديني، ودرجة التسامح الديني الذي تسمح به؛ بالإضافة إلى دراسات مسحية وتحليلية للمواضيع الإعلامية التي تناولت الديانات الأخرى لفهم الخطاب السائد نحو تلك الديانات؛ أو مؤشر دور العبادة التي تنتمي لديانات غير رسمية، من خلال عددها، وحالتها، ودرجة احترامها من قبل المواطنين… فمن العيب أن تصنف الدول العربية التي تحترم البِيع والكنائس، في مرتبة متأخرة عن بلدان تعرف انتهاكات مستمرة للمساجد!

ينطلق التقرير إذن من خلط واضح بين الفوضى الدينية والتنوع الديني، ليصادر حق الدول في وحدة دينها وعقيدتها، وهو حق تحقق على امتداد التاريخ تراكما، ومكسب لا يلغي الغنى الثقافي لتلك البلدان. أما التعدد الديني، فهو يرتبط أساسا بمناخ حرية التدين والاعتقاد الذي توفره الدول الإسلامية، وهو عقيدة دينية، وتصور شعبي مجتمعي قبل أن يكون سياسيات رسمية.

وإلا، فما هذا التقرير، إلا حلقة في أجندة استراتيجية، تشجع المد المسيحي، ولم تجد أمام اتساع رقعة الإسلام المتزايدة في العالم، من حل لإضعاف الحضور الإسلامي سوى مدخل الحرية الدينية، ربما لتبرر مثل هذه التقارير الضغط الذي قد يمارس على الدول الإسلامية لقلب التوازنات الدينية القائمة!.

——

المصدر: نماء للبحوث والدراسات.

مواضيع ذات صلة