أ.د. طلعت محمد عفيفي
يؤكد القرآن الكريم أن الذى يتولى حساب الناس على صحة أو بطلان معتقداتهم ومجازاتهم عليها إنما هو الله وحده، فمن خلال الآيات القرآنية نجد أننا لسنا مسئولين عن معتقدات غيرنا، ولسنا مطالبين بمحاسبتهم عليها، وإذا حدث نقاش بيننا وبينهم بشأنها فليكن في إطار الأدب والمجادلة بالتي هي أحسن. وأما المعاملة والتعايش مع غيرنا بالحسنى فهو فرض علينا، وواجب تحتمه شريعتنا على كل المنتسبين إليها، شريطة ألا يعتدوا علينا، أو يظاهروا عدوا يحاربنا.
وتاريخ المسلمين منذ عهد النبوة وفيما تلاه من عهود حافل بالصفحات المضيئة في إحسان معاملة المسلمين لمخالفيهم في العقيدة، ولم يثبت في تاريخ المسلمين أنهم أجبروا شعبا غير مسلم على اعتناق الإسلام، وحافظ -في الوقت نفسه- على معابد غير المسلمين، وأتاح لهم أداءهم لعباداتهم. ففي القرآن الكريم ما يدل على الإذن في القتال حماية لحرية العبادة ودورها، وفى هذا يقول الله تعالي: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسمُ اللهِ كَثِيرًا} (الحج: 39، 40).
وأذن النبي صلى الله عليه وسلم لنصارى نجران حين وفدوا عليه بأداء صلاتهم في مسجده، كما أورد ذلك ابن إسحاق في السيرة. كذلك أعطى الخلفاء لأهل الذمة عهودا تدور جميعها على حسن معاشرة المسلمين لهم، وكف أي يد تحاول إيقاع الأذى بهم، ونضرب لهذه العهود مثلا بعهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه لأهل بيت المقدس، والذى جاء فيه: (هذا ما أعطى عبدالله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياد من الأمان، أعطاهم أمانا لأنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم وسائر ملتها، لا تسكن كنائسهم ولا تهدم ولا ينتقص منها ولا من حيزها ولا من صليبها ولا من شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم.
وبفضل هذه التعاليم رأينا الكنائس في بلاد الإسلام تجاور المساجد، دون أن يتعرض لها أحد بأذى، بل رأينا في العصر الحديث، وأثناء ثورة يناير في مصر يؤدى المسلمون صلاتهم في حراسة النصارى، ويقيم النصارى قداسهم في حراسة المسلمين، ورأينا المسلمين يتطوعون لحراسة الكنائس عقب الثورة أثناء احتفالات النصارى بأعيادهم، وهو ما يعكس روح التسامح التي عرف بها المسلمون طوال تاريخهم مع من يخالفونهم في العقيدة.
ومع هذه الصور المشرقة في أمر العقيدة توجد صور أخرى لحسن التعامل والتعايش مع غير المسلمين لا تقل عن ذلك أهمية.
فإلى جانب ما ورد من دعوة القرآن الكريم إلى البر والقسط مع غير المسلمين مادام لم يصدر منهم أذي، فإن النبي صلى الله عليه وسلم حثنا على حسن معاشرتهم في أكثر من حديث.
ففي الحديث الذى رواه أبوداود وغيره: “من ظلم معاهدا أو انتقصه حقه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس؛ فأنا حجيجه يوم القيامة”. وروى الطبرانى بإسناد حسن أنه عليه الصلاة والسلام قال: “من آذى ذميا فقد آذاني، ومن آذانى فقد آذى الله”.
وثمة مواقف أخرى لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم من المسلمين، وكلها تدل على التواصي بينهم بحسن معاشرة غير المسلمين، والتودد إليهم. يقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه: أوصى الخليفة من بعدى بأهل الذمة خيرا، وأن يوفي بعهدهم، وأن يقاتل من ورائهم، وألا يكلف فوق طاقتهم.
وكان رضى الله عنه يسأل الوافدين عليه من الأقاليم عن حال أهل الذمة، فيقولون له: ما نعلم إلا وفاء، وكان سيدنا عبدالله بن عمر رضى الله عنه يوصى غلامه بأن يعطى جارهم اليهودي من الأضحية، ويكرر الوصية مرة بعد أخرى حتى دهش الغلام وسأله عن سر هذه العناية بجار يهودي، فقال له ابن عمر: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “مازال جبريل يوصيني بالجار، حتى ظننت أنه سيورثه”. وبمثل هذا التسامح استطاع الإسلام أن يقنع كثيرا من الشعوب بالدخول فيه طواعية واختيارا، وقد شهد بذلك الأعداء قبل الأصدقاء.
يقول الإمام مالك رحمه الله: “بلغني أن النصارى الذين كانوا بالشام كانوا إذا رأوا الفاتحين من المسلمين قالوا: “والله لهؤلاء خير من الحواريين فيما بلغنا”.
وهذه الصورة المشرقة من التسامح الذى عرف به المسلمون طوال تاريخهم تقابلها صفحات سود سطرتها أيدى اليهود والصليبيين والبوذيين والهندوس إزاء من عاشوا معهم من المسلمين، ولا يزال هذا الحقد الأسود يمارس إلى يومنا هذا ضد المسلمين في كثير من البقاع.
بقي أن نشير إلى أن التسامح الذى ينادي به الإسلام ينبني على مبدأ التعايش السلمى مع كل الناس، وتحقيق العدل بين الجميع، والتعامل بالأخلاق الكريمة دون تفريق بين مسلم وغير مسلم. ولا يعني الأخذ بمبدأ التسامح التنازل عن الدين، أو التفريط فيه، كما قد يفهم البعض أو يطالب به، يقول الدكتور يوسف القرضاوى في كتابه (غير المسلمين في المجتمع الإسلامي): هناك من يستغل فكرة التسامح هادفا إلى تمييع الأديان، وحل عرا الاعتزاز بها، والالتفاف من حولها. وإطفاء حرارة الإيمان الديني بدعوى التسامح أو الوطنية أو القومية، أو غيرها من المفاهيم.
نحن دعاة تسامح، لأن ديننا نفسه يأمرنا به، ويدعونا إليه، ويربينا عليه، ولكن ليس معنى التسامح أن تتنازل عن ديننا، إرضاء لأحد كائنا من كان، فهذا ليس من التسامح في شيء، إنما هو إعراض عن الدين أو كفر به، إيثارا للمخلوق على الخالق، وللهوى على الحق، ونحن لا نلزم غيرنا بترك دينه، حتى يطالبنا بترك دين ربنا.
ليس من التسامح أن يطلب من المسلم تجميد أحكام دينه، وشريعة ربه، وتعطيل حدوده، وإهدار منهجه للحياة، من أجل الأقليات غير المسلمة، حتى لا تقلق خواطرها، ولا تتأذى مشاعرها.ـ.
المصدر: جريدة الأهرام.