الانفصام الدعوي (2 /5).. مع النفس

بصمات نسائية في مسيرة الحضارة الإسلامية

د. صالح العطوان

كان للمرأة حضورٌ في المجتمع الإسلامي منذ اللحظة الأولى لظهور الإسلام، فكانت تتعلَّم وتُعلِّم، وترحل لطلب العلم، ويقصدها الطلاب لأخذ العلم عنها، وتصنِّف الكتب، وتفتي، وتُستشار في الأمور العامَّة، ولم تكن حبيسة منزل أو حجرة، أو أسيرة في مهنةٍ معيَّنة، بل كان المجال مفتوحًا أمامها تظله الشريعة الغرَّاء، ويرعاه العفاف والطهر.

فالسيدة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها هي أوَّل من آمن بالنبي (صلى الله عليه وسلم) على الإطلاق، وكانت ملاذًا وحصنًا منيعًا للدعوة الإسلامية حتى وفاتها في العام العاشر من البعثة، وهو العام الذي سمَّاه النبي (صلى الله عليه وسلم) بـ عام الحزن.

كذلك كانت المرأة أوَّل من ضحَّت بنفسها في سبيل الله؛ فالسيدة سمية بنت خياط (رضي الله عنها) هي أول شهيدة في الإسلام.

كما كانت المرأة أول من هاجر في سبيل الله؛ فالسيدة  رقية بنت محمد (صلى الله عليه وسلم)، هي أول من هاجرت إلى الله تعالى مع زوجها عثمان بن عفان (رضي الله عنه) إلى الحبشة.

المرأة فقيهة ومفتية

وقد امتدَّ عطاء المرأة المسلمة بعد الإيمان والهجرة والتضحية إلى المجال العلمي والتعليمي، فظهرت الفقيهة والمـُحدثة والمفتية التي يقصدها طلاب العلم، ويأخذ عنها بعض أساطين العلماء، وتفتي في بعض الأمور التي تخصُّ عامَّة المسلمين، وظهر من العالمات المسلمات من تعقد مجالس العلم في كبريات المساجد الإسلامية، ويحضر لها الطلاب من الأقطار المختلفة، وعُرف عن بعض الفقيهات والمحدثات المسلمات أنهنَّ أكثرن من الرحلة في طلب العلم إلى عددٍ من المراكز العلمية في مصر والشام والحجاز حتى صرن راسخات القدم في العلم والرواية، وكان لبعضهنَّ مؤلَّفات وإسهامات في الإبداع الأدبي.

ففي صدر الإسلام كانت أمهات المؤمنين وعددٌ من كبريات الصحابيات من روَّاد الحركة العلمية النسائية، وكانت حجرات عدد من أمهات المؤمنين الفضليات منارات للإشعاع العلمي والثقافي والأدبي، وتأتي أم المؤمنين عائشة (رضي الله عنها) في الذروة والمقدِّمة، فكانت من الفصيحات البليغات العالمات بالأنساب والأشعار، وكان النبيُّ (صلى الله عليه وسلم) يستمع منها إلى بعض ما ترويه من الشعر.

وتروي بعض الآثار أنَّ عائشة (رضي الله عنها) عندها نصف العلم، لذا كانت مقصد فقهاء الصحابة عندما تستعصي عليهم بعض المسائل العلمية والفقهية، خصوصًا فيما يتعلَّق بجوانب حياة النبي (صلى الله عليه وسلم)، وكانت عائشة تحثُّ سائلها ألَّا يستحي من عرض مسألته، وتقول له: “سَلْ فَأَنَا أُمُّكَ”، وقد أخذ عنها العلم نحو (299) من الصحابة والتابعين، منهم (67) امرأة.

أمَّا  أم سلمة (رضي الله عنها) فكانت كما وصفها الذهبي “من فقهاء الصحابيات”، وممَّن روى كثيرًا من الأحاديث عن النبيِّ (صلى الله عليه وسلم)، وروى عنها كثيرٌ من الصحابة والتابعين بلغوا نحو (101)، منهم (23) امرأة.

وتتعدَّد أسماء الصحابيات والتابعيات اللاتي اشتهرن بالعلم وكثرة الرواية، وتحفل كتب الحديث والرواية والطبقات بالنساء اللاتي روين وروي عنهن الحديث الشريف، مثل: أسماء بنت أبي بكر الصديق، وأسماء بنت عميس، وجويرية بنت الحارث، وحفصة بنت عمر، وزينب بنت جحش (رضي الله عنهن).

ولم يغفل كبار كتَّاب الطبقات الترجمة للمرأة المسلمة خصوصًا في الرواية؛ فمحمد بن سعد ذكر كثيرًا من الصحابيات والتابعيات الراويات في كتابه (الطبقات الكبرى)، و(ابن الأثير) خصَّص جزءًا كاملًا للنساء في كتابه (أسد الغابة)، وفي كتاب (تقريب التهذيب) لـ  ابن حجر العسقلاني ذكر أسماء (824) امرأة ممَّن اشتهرن بالرواية حتى مطلع القرن الثالث الهجري.

معلمة الرجال

وقد أسهمت المرأة العالمة بأناملها الرقيقة في صناعة وتشكيل كثيرٍ من كبار العلماء؛ فالمؤرخ والمحدث الشهير (الخطيب البغدادي) صاحب كتاب (تاريخ بغداد) سمع من الفقيهة المحدثة (طاهرة بنت أحمد بن يوسف التنوخية) المتوفاة (436هـ).

وكانت (أمة الواحد بنت الحسين بن إسماعيل) المتوفاة (377هـ) من أفقه الناس في المذهب الشافعي، وكانت على علمٍ بالفرائض والحساب والنحو، وكانت تفتي ويكتب عنها الحديث، أما (جليلة بنت علي بن الحسن الشجري) في القرن الخامس الهجري، فكانت ممن رحلن في طلب الحديث في العراق والشام وسمع منها بعض كبار العلماء كالسمعاني، وكانت تعلم الصبيان القرآن الكريم.

وكانت (زينب بنت مكي بن علي بن كامل الحراني) المتوفاة سنة (688هـ) من النساء اللاتي قضين عمرهن كله في طلب الحديث والرواية، وازدحم الطلاب على باب بيتها في سفح جبل قاسيون بدمشق، فسمعوا منها الحديث، وقرأوا عليها كثيرًا من الكتب.

أمَّا (زينب بنت يحيى بن  العز بن عبد السلام) المتوفاة (735هـ) فقد تفرَّدت برواية المعجم الصغير بالسماع المتَّصل، وقال عنها مؤرِّخ الإسلام (شمس الدين الذهبي): “إنَّه كان فيها خير وعبادة وحب للرواية فقُرئ عليها يوم موتها عدَّة أجزاء”، وكانت (زينب بن أحمد بن عمر الدمشقية) المتوفاة (722هـ) من المحدثات البارعات ذات السند في الحديث، ورحل إليها كثيرٌ من الطلاب.

محدثات في العلم والحديث

ويحكي الرحَّالة (ابن بطوطة) أنَّه في رحلته زار  المسجد الأموي بدمشق، وسمع فيه من عددٍ من محدِّثات ذلك العصر، مثل: (زينب بنت أحمد بن عبد الرحيم)، وكانت امرأةً ذات قدمٍ راسخٍ في العلم والحديث، و(عائشة بنت محمد بن المسلم الحرانية) التي كان لها مجلس علم بالمسجد، وكانت تتكسب بالخياطة، وقرأ عليها (ابن بطوطة) عددًا من الكتب.

وقد تفرَّدت بعض المحدِّثات ببعض الروايات، مثل: (زينب بنت سليمان بن إبراهيم) المتوفاة (705هـ)، والتي أخذ العلم عنها (تقي الدين السبكي).

كما أجازت بعض العالمات المحدثات لعددٍ من كبار العلماء؛ فـ (زينب بنت عبد الله بن عبد الحليم بن تيمية) المتوفاة (725هـ) أجازت (ابن حجر العسقلاني) الذي روى -أيضًا- عن (عائشة بنت محمد بن عبد الهادي) التي كانت ذات سندٍ قويمٍ في الحديث، وحدَّث عنها خلقٌ كثير، وكانت توصف بأنَّها سهلة الإسماع ليِّنة الجانب، وروت عن محدِّثتين هما: (ست الفقهاء بنت الواسطي)، و(زينب بنت الكمال).

وقد أورد (ابن حجر) في كتابه (المعجم المؤسس للمعجم المفهرس) كثيرًا من شيخاته اللاتي أخذ عنهن العلم، وعن اشتراكه في السماع عن الشيوخ مع بعضهن، ووصف بعضهن بأنَّها مصنِّفة وهي (عائشة بن عبد الله الحلبية).

وأورد الإمام (الذهبي) قبله في كتابه (معجم شيوخ الذهبي) كثيرًا من شيخاته، وكان يقول عن بعضهن (توفيت شيختنا).

وكان للنساء دورٌ بارزٌ في تثقيف وتربية الفقيه والعالم الجليل (ابن حزم الأندلسي)؛ حيث علمنه القرآن الكريم والقراءة والكتابة والشعر، وظلَّ في رعايتهنَّ حتى مرحلة البلوغ، ويحكي تجربته فيقول: “رُبِّيت في حجر النساء، ونشأت بين أيديهن، ولم أعرف غيرهن ولا جالست الرجال إلَّا وأنا في حدِّ الشباب.. وهنَّ علمنني القرآن، وروينني كثيرًا من الأشعار، ودربنني في الخط”، وكان لهذه التربية والتثقيف أثرها الكبير في ذوقه وشخصيته.

وتأتي العالمة الجليلة (فاطمة بنت محمد بن أحمد السمرقندي) لتحتلَّ المكانة العالية الرفيعة في الفقه والفتوى، وتصدَّرت للتدريس، وألَّفت عددًا من الكتب، وكان الملك العادل (نور الدين محمود)، يستشيرها في بعض أمور الدولة الداخليَّة، ويسألها في بعض المسائل الفقهية، أمَّا زوجها الفقيه الكبير (الكاساني) صاحب كتاب (البدائع) فربَّما هام في الفتيا فتردُّه إلى الصواب، وتُعرِّفه وجه الخطأ فيرجع إلى قولها، وكانت تفتي ويحترم زوجها فتواها، وكانت الفتوى تخرج وعليها توقيعها وتوقيع أبيها وزوجها، فلمَّا مات أبوها كانت توقِّع على الفتوى هي وزوجها (الكاساني) لرسوخها في العلم وفقهها الواسع.

تراجم النساء

وقد أورد (السخاوي) في موسوعته الضخمة (الضوء اللامع لأهل القرن التاسع) أكثر من (1070) ترجمة لنساءٍ برزن في ذلك القرن، معظمهنَّ من المحدِّثات الفقيهات.

أمَّا العالم الموسوعي (جلال الدين السيوطي) فكان لشيخاته دورٌ بارزٌ في تكوينه العلمي، فأخذ عن (أم هانئ بنت الهوريني) التي لقَّبها بالمسند، وكانت عالمةً بالنحو، وأورد لها ترجمةً في كتابه (بغية الوعاة في أخبار النحاة)، وأخذ -أيضًا- عن (أم الفضل بنت محمد المقدسي) و(خديجة بنت أبي الحسن المقن) و(نشوان بنت عبد الله الكناني) و(هاجر بنت محمد المصرية) و(أمة الخالق بنت عبد اللطيف العقبي)، وغيرهن كثير.

وعرفت تلك الفترة من التاريخ عالمة وأديبة عظيمة هي (عائشة الباعونية) التي كانت من الصوفيَّات والشاعرات المجيدات، وكانت تتبادل قصائد الشعر الصوفي مع أدباء عصرها، ووصفها الغزي في كتابه (الكواكب السائرة في أخبار المائة العاشرة) بقوله: “إنَّها العالمة العاملة الصوفية الدمشقية أحد أفراد الدهر، ونوادر الزمان، فضلًا وعلمًا وأدبًا وشعرًا وديانةً وصيانة”، وكان لها عددٌ غير قليلٍ من المصنَّفات والدواوين والقصائد الصوفية.

وقد تولَّت بعض هؤلاء العالمات مشيخات بعض الأربطة، مثل (زين العرب بنت عبد الرحمن بن عمر) المتوفاة سنة (704هـ) التي تولَّت مشيخة رباط السقلاطوني، ثم مشيخة رباط الحرمين.

عطاء في المحن والأزمات

ولم تكتفِ العالمة المسلمة بالعطاء العلمي في أوقات السلم والرخاء، ولكنَّها كان لها عطاءٌ علميٌّ بارزٌ في أشدِّ أوقات المحن والأزمات؛ فعندما سقطت قلاع الإسلام في الأندلس وفُرض على المسلمين التنصُّر، ومارست محاكم التحقيق أشدَّ وأبشع أنواع التعذيب ضدَّ المسلمين، اضطر بعض الناس إلى إظهار التنصُّر وإخفاء الإسلام.

وعلى الرغم من هذه السياسات الإسبانية القصرية، فإنَّ المسلمين هناك كانوا يمارسون نشاطهم العلمي، وكانت هناك امرأتان تُمثِّلان المرجعيَّة العليا للمسلمين في علوم الشريعة؛ حيث تخرَّج على أيديهنَّ كثيرٌ من الدعاة المسلمين الذين حفظوا وحملوا الإسلام سنوات، وهما (مسلمة أبده) و(مسلمة آبلة)، حيث تخرَّج عليهما الفقيه (أبيرالو) الموريسكي الذي ألَّف كثيرًا من كتب التفسير والسنة باللغة الألخميادية التي ابتدعها المسلمون هناك.

المرأة أديبة وشاعرة

ولم يقتصر دور المرأة في المجتمع الإسلامي على العلم والفقه فقط؛ بل برعت المرأة في مجال الأدب والشعر، حتى فاق بعضهنَّ الرجال، مثل: الخنساء (تماضر بنت عمرو بن الحرث بن الشريد السلمية)، التي تُعدُّ من أشهر نساء العرب قبل الإسلام وبعده، وهي من المخضرمين، لأنَّها عاشت في عصرين؛ عصر الجاهلية وعصر الإسلام، وقد شهدت مجيء الدعوة الإسلامية، ووفدت مع قومها على رسول الله فأسلمت معهم في العام الثامن من الهجرة، وصارت صحابية جليلة ذات مكانة وفضل، وهي من أشهر شاعرات العرب، ولم تكن امرأة أشعر منها، وبعد أن أسلمت استطاعت بإيمانها أن تكون قدوةً طيِّبةً لنساء عصرها والعصور التالية لها، واشتهرت بشعر الرثاء في الجاهلية والإسلام، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يُعجبه شعر الخنساء، وينشدها بقوله لها: (هيه يا خناس ويومي بيده).

وقد عُرِفت بحريَّة الرأي وقوَّة الشخصية؛ حيث نشأت في بيت عزٍّ وجاهٍ مع والدها وأخويها معاوية وصخر، وأجمع علماء الشعر على أنَّه لم تكن امرأة قبلها ولا بعدها أشعر منها، فقد قال بشار فيها: “لم تقل امرأةٌ قط شعرًا إلَّا تبيَّن الضعف فيه، فقيل له: أو كذلك الخنساء؟ قال: تلك فوق الرجال”. وقال النابغة الذبياني: “الخنساء أشعر الجن والإنس”، وسُئِل جرير عن أشعر الناس فأجابهم: “أنا، لولا الخنساء، قيل فيم فَضُل شعرها عنك، قال بقولها:

إنَّ الزمانَ وما يفنى له عَجَبٌ ***  أبقى لنا ذنبًا واستؤصلَ الرَّاسُ

إن الجديدين في طول اختلافهما *** لا يَفْسُدانِ ولكن يفسدُ الناسُ”.

وقد كان للخنساء مواقف كثيرة في سوق عكاظ منها موقفها مع هند بنت عتبة بعد موقعة بدر الكبرى؛ إذ قُتِل فيها والدها عتبة بن ربيعة وعمها شيبة بن ربيعة وأخوها الوليد بن عتبة. فأقبلت هند ترثيهم، وبلغها تسويم الخنساء هودجها في الموسم ومعاظمتها العرب بمصيبتها بأبيها عمرو بن الشريد وأخويها صخر ومعاوية، وأنَّها قد سوَّمت هودجها برايةٍ وجعلت تنشد الناس وتبكيهم، وأنَّها تقول: أنا أعظم العرب مصيبة، وأنَّ العرب قد عرفت لها بعض ذلك.

فلمَّا أُصيبت هند بما أُصيبت به وبلغها ذلك قالت: أنا أعظم من الخنساء مصيبة، وأمرت بهودجها فسوم براية، وشهدت الموسم بعكاظ، فقالت أقرنوا جملي بجمل الخنساء ففعلوا، فلما دنت منها قالت لها الخنساء: من أنت يا أخيَّة؟ فقالت: أنا هند بنت عتبة، أعظم العرب مصيبة، وقد بلغني أنك تعاظمين العرب بمصيبتك فيم تعاظمين؟

فقالت الخنساء: بعمرو بن الشريد، وصخر، ومعاوية، وابني عمرو، وبم تعاظمين أنت؟ قالت: بأبي عتبة بن ربيعة، وعمي شيبة، وأخي الوليد. قالت الخنساء: أو سواء عندك؟ ثم أنشأت تقول:

أبكي أبي عمرًا بعينٍ غزيرةٍ ***  قليلٍ إذا نام الخليُّ هجودها

وَصِنْوَيّ لا أنسى معاوية الذي ***  له من سراة الحَرّتَينِ وُفُودُها

وصخرًا ومن ذا مثلُ صخرٍ إذا ***  غدا بساحته الآطال قزمٌ يقودها

فذلك يا هند الرَّزيَّةُ فاعلمي ***  ونيرانُ حَرْبٍ حينَ شبّ وقودها

فقالت هند تجيبها:

أبكي عميدَ الأبطحينِ كليهما ***  وحاميهما من كل باغ يريدها

أبي عتبة الخيرات ويحك فاعلمي ***  وشيبة والحامي الذمار وليدها

أولئك آل المجد من آل غالب ***  وفي العز منها حين ينمي عديدها

وللخنساء موقف آخر مع النابغة وكبار الشعراء، فقد كان النابغة تضرب له قبة حمراء في سوق عكاظ، ويجلس الشعراء العرب على كرسي وتأتيه الشعراء فتنشده أشعارها فيفاضل بينهم، فأنشدت الخنساء في بعض المواسم قصيدتها الرائية التي ترثي فيها صخرًا، والتي مطلعها:

قذى بعينيك أم بالعين عوَّارُ ***  أمْ ذرفتْ إذ خلت من أهلها الدار

فأعجب بشعرها وقال لها: “اذهبي فأنت أشعر من كل ذات ثديين، ولولا أنَّ هذا الأعمى أنشدني قبلك (يقصد الأعشى) لفضلتك على شعراء هذا الموسم فإنَّك أشعر الجن والإنس”.

فغضب حسان بن ثابت وقال: “أنا أشعر منك ومنها”، فقال: “ليس الأمر كما ظننت”، ثم التفت إلى الخنساء فقال: “يا خناس خاطبيه”.

– فالتفتت إليه الخنساء فقالت: ما أجودُ ما قلته في قصيدتك التي عرضتها آنفًا؟

– قال قولي:

لنا الجفنات الغرُّ يلمعن بالضحى ***  وأسيافنا يقطرن من نجدة دما

– فقالت: ضعفت من افتخارك في ثمانية مواضع في بيتك هذا.

– قال: وكيف؟

– قالت: قلت (لنا الجفنات) والجفنات ما دون العشرة، ولو قلت الجفان لكان أكثر، وقلت (الغر) والغرة بياض في الجبهة ولو قلت البيض لكان أكثر اتساعًا، وقلت (يلمعن) واللمع شيءٌ يأتي بعد شيء، ولو قلت يشرقن لكان أكثر لأنَّ الإشراق أدوم من اللمعان، وقلت (بالضحى) ولو قلت بالدجى كان أكثر طراقًا، وقلت (أسياف) والأسياف ما دون العشرة ولو قلت سيوف لكان أكثر، وقلت (يقطرن) ولو قلت سلن كان أكثر، وقلت (دما) والدماء أكثر من الدم.

فسكت حسان بن ثابت. فهذه المواقف تدلُّ على شاعرية الخنساء ومكانتها وسط الشعراء.

* المصدر: موقع قصة الإسلام.

 

مواضيع ذات صلة