الانفصام الدعوي (2 /5).. مع النفس

حول الجذور الفكرية لأزمتنا الأخلاقية (4)

د. حازم علي ماهر

بين أعمال القلوب وأعمال الجوارح

للعمل في الإسلام مكانة كبيرة؛ فهو يعد مكونًا أساسيًا من مكونات الإيمان؛ فالإيمان هو “ما وقر في القلب وصدقه العمل”، هو اعتقاد وقول وعمل، وكل ذلك يمكن أن يدخل ضمن مفردات مفهوم العمل بمعناه العام الذي يشتمل على نوعين متمايزين من الأعمال، وهما:

أعمال القلوب (مثل الصدق والإخلاص والتواضع، ومترادفاتها من الصفات الخلقية الحسنة، ومضاداتها من الصفات الخلقية المذمومة، كالرياء والكذب والكبر).

وأعمال الجوارح (وهي تشمل كل ما يقوم به الإنسان من أقوال وأفعال عبر لسانه وجوارحه المختلفة، كإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر).

وقد تعرضت المقالات السابقة لما يمكن اعتباره من أعمال القلوب في مواجهة الوهن، حيث استهدفت نزع الوهن من القلوب عبر التفكر في مظاهره وفي أسبابه وفي كيفية التخلص من القابلية له وللاستضعاف بشكل عام، ومحاولة إقناع المسلم بضرورة تغيير صورته الذهنية عن نفسه التي تزيد من التمكين للتسلط الواقع عليه وتدعم استسلامه له، وهو أمر كان ضروريًا قبل التطرق لأعمال الجوارح المرتبطة بأعمال القلوب ارتباطًا لازمًا.

“ومن تأمل الشريعة في مصادرها ومواردها علم ارتباط أعمال الجوارح بأعمال القلوب وأنها لا تنفع بدونها، وأن أعمال القلوب أفرض على العبد من أعمال الجوارح، وهل يميز المؤمن عن المنافق إلا بما في قلب كل واحد منهما من الأعمال التي ميزت بينهما، وهل يمكن لأحد الدخول في الإسلام إلا بعمل قلبه قبل جوارحه. وعبودية القلب أعظم من عبودية الجوارح وأكثر وأدوم فهي واجبة في كل وقت” (ابن قيم الجوزية، بدائع الفوائد- 3/ 193).

ويكشف هذا الاستقراء -بالغ الأهمية- عن أن التركيز على أعمال الجوارح ينبغي ألا يغفل أبدًا عن استصحاب أعمال القلوب، وأهمها –في هذا الصدد- العزم الأكيد على إحلال القابلية للقوة والتحرر محل القابلية للاستضعاف والعبودية لغير الله عز وجل، وشحذ الإرادة المخلصة نحو العمل على الخروج من الوهن المحيط للشخصية المسلمة والمحبط لها، والذي تبين من قبل أنه يتعين –شرعًا وعقلا- العمل على مقاومته غاية الوسع، لما يفرضه الدين الإسلامي من تحرير النفس من الاستكانة والاستسلام لغير الله عز وجل.

ولعل العمل الأهم الذي ينبغي البدء به -في هذا الإطار الذي نتناول فيه دراسة الجذور الفكرية لأزمتنا الأخلاقية، وخاصة أزمة الوهن- هو ما أسماه أ. د. طه عبد الرحمن: “العمل التزكوي”، ويقصد به “الاجتهاد في التعبد -لله عز وجل- بالقدر الذي يتوصل به إلى تخليص الإنسان من مختلف أشكال الاستعباد” (انظر كتابه -الذي رجعت إليه كثيرًا عند كتابتي لهذا المقال: سؤال العمل- بحث عن الأصول العملية في الفكر والعلم، ص 160).

وهذا هو العمل الذي لم يتعرض له كثير ممن كتبوا حول النهوض الحضاري ودور الأخلاق فيه، بينما أشار إليه آخرون –أيضًا- فركزوا على وظيفته الاجتماعية وعلى دوره في المزج بين عناصر بناء الحضارة، لاسيما الحضارة الإسلامية، مثل المفكر الجزائري مالك بن نبي الذي نبه مرارًا إلى دور الفكرة الدينية الأساس في تكوين الحضارة الإسلامية عبر كبح جماح غرائز الإنسان وتنظيمها من خلال نظام أخلاقي صارم حصَّنه ضد غواية المجتمع الذي يعيش فيه وفي مواجهة تسلط ذلك المجتمع على الخلق ومحاولته استعبادهم، وهو أمر يتعلق بالروح أكثر منه تعلقا بالعقل (راجع ما كتبه حول هذا الدور الأخلاقي والحضاري للفكرة الدينية -والإسلامية تحديدًا- في كل من كتابه: “شروط النهضة”، وكتابه: “ميلاد مجتمع”، وكتابه: “وجهة العالم الإسلامي”).

وقد التقى مالك بن نبي في هذا الطرح مع ما انتهى إليه -من قبل- ابن خلدون في مقدمته الأشهر، حين أكد على دور الأخلاق والدين في الحفاظ على إنسانية الإنسان وعدم انحداره إلى مستوى الحيوان، فكتب يقول: “وإذا فسد الإنسان في قدرته على أخلاقه ودينه فقد فسدت إنسانيّته وصار مسخا على الحقيقة” (تاريخ ابن خلدون، 1/ 468).

والواقع أن فكرة إعادة الفاعلية إلى العقيدة الدينية واستئناف دورها الاجتماعي فضلا عن تهذيبها لغرائز الفرد (والأمة) هي نفسها الفكرة التي تاه في فهمها بعض المفكرين والأدباء، فظنوا أن غياب هذه الفعالية تنفي عن المسلمين صفتهم تلك وتدخلهم تحت مصطلح “الجاهلية”، مما ترتب عليه بعدئذ استحلال بعض المتطرفين –استنادًا إلى ذلك الفهم غير الصحيح- لمقاتلة المجتمعات الإسلامية باعتبارها “مجتمعات جاهلية”، واعتبروا ذلك جهادًا منهم في سبيل الله!

والحقيقة أن التكييف الصحيح لحال المسلمين في القرون المتأخرة أن إسلامهم كإسلام (الأعراب) الذين يقولون آمنَّا ولمَّا يدخل الإيمان في قلوبهم، بل كان عليهم أن يعترفوا بأنهم مجرد مسلمين (إسلام جوارح)، إسلام الظاهر المكتسب بالوراثة غالبًا، والذي لم يتمكن من القلوب والعقول بعد، وأن الطريق أمامه للوصول إلى هذا الحال يحتاج إلى عمل أخلاقي (تزكوي كبير) يستحقون بعده وصفهم بالمؤمنين الذين انتصروا على استعبادهم الداخلي لينصرهم الله على استعبادهم الخارجي.

والخلاصة أننا نحتاج إلى أن “نعمل على تطوير أنفسنا” كثيرا كي نحصل على العزة المنشودة، وهو أمر لن يكتمل سوى بأن نتحول من مسلمين (إسلام الأعراب) إلى مؤمنين (إيمان الصحابة)!

من إسلام الأعراب إلى إيمان الأصحاب!

علينا أن نتحول من إسلام الأعراب إلى إيمان الأصحاب، وهو أمر يحتاج إلى تفسير أكثر، وإلى محاولة رسم خطوات عملية لذلك التحول، وفاء لوعد قدمه الكاتب للقراء من قبل بالتركيز على الجوانب العملية إلى جانب النظرية؛ والتي هي ضرورية كذلك باعتبارها هي التي تضع التفسيرات والتحليلات للظواهر الاجتماعية والإنسانية (والعلمية) وتدرس أسبابها وأبعادها، وتتنبأ بمستقبلها ومآلاتها المتوقعة، ومن ضمنها ظاهرة الانحدار الأخلاقي في العالم الإسلامي محل هذه السلسلة من المقالات.

والواقع أن التفسير الأهم لما يريد هذا المقال لفت الاهتمام إليه، نجده بشكل واضح وحاسم عند التأمل بعمق في قوله تعالي في محكم التنزيل: “قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15)” [سورة الحجرات].

جاء في بعض تفاسير القرآن لهاتين الآيتين أن الأعراب المقصودين في هذه الآية هم أعراب بني أسد بن خزيمة، الذين “امتنوا بإسلامهم على نبي الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: أسلمنا، ولم نقاتلك، كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان”. قال ابن زيد فيما نقله عنه الإمام الطبري: “لم يصدقوا إيمانهم بأعمالهم، فرد الله ذلك عليهم (قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا)، وأخبرهم أن المؤمنين الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، أولئك هم الصادقون، صدقوا إيمانهم بأعمالهم; فمن قال منهم: أنا مؤمن فقد صدق; قال: وأما من انتحل الإيمان بالكلام ولم يعمل فقد كذب، وليس بصادق” (تفسير الطبري، جامع البيان..، 22/ 314، 315).

ونظرًا لأن القاعدة الأصولية تقرر أن “العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب”، فإن الآية لا تنطبق على أعراب بني أسد وحدهم، بل تنطبق على كل من اقتصر إسلامهم على الكلام وحده دون أن يتبعه العمل المخلص الصادق، من أول الخلق حتى نهايته، ومن ثم فهو أمر يسري على الكثيرين من مسلمي العصور المتأخرة الذين قَصُرَ إسلامهم على الكلام بالقرآن –أحيانًا- وعلى إثبات هويتهم الإسلامية في بطاقاتهم الشخصية.

ومن حسن الحظ أنني وجدت في تفسير المنار للإمام محمد رشيد رضا ما يدعم هذه النتيجة حين ذكر صراحة أن: “الإيمان الذي حصر الله الصدق في أصحابه [في الآيتين المذكورتين] كان قد فُقِدَ من أكثر أهل الكتاب كما هو حال مجموع المسلمين في هذا العصر، فإن الذي تَصدُق عليه هذه الأوصاف صار نادرا جدا ولذلك حُرم المسلمون ما وعد الله المؤمنين من العزة والنصر، والاستخلاف في الأرض، ولن يعود لهم شيء من ذلك حتى يعودوا إلى التخلق بما ميز الله به المؤمنين من النعوت والأوصاف” (تفسير المنار، 2/ 92).

والحقيقة أن المتأمل في قول الله تعالى سالف الذكر سيجد أنه سبحانه قد ذكر العناصر الرئيسة التي إذا تَخَلَّق بها الإنسان في -كل زمان ومكان- يكون مؤمنًا حق الإيمان، ومن أهمها الإيمان الذي لا يخالطه ارتياب، والجهاد بالمال والنفس في سبيل الله عز وجل، والتحلي بالصدق الذي يدخله ضمن هؤلاء المؤمنين الصادقين، الذين صدَّقوا اعتقادهم وأقوالهم بالعمل الجاد المخلص، مثل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه ولم يخذلوا نبيهم أبدًا، التزامًا منهم بعهدهم مع الله.

فالصدق الذي ينجي صاحبه في الدنيا وفي الآخرة لا يتمثل فقط في أن يبتعد الإنسان عن الكذب في حديثه بل يمتد إلى اعتقاده وعمله، وهذا هو الأهم؛ فإن صِدق الاعتقاد والعمل هو المعول عليه أصلا عند الله عز وجل ثم عند الناس أنفسهم، الذين ينظرون في سلوك الشخص فإذا صدَّق قوله صدقوه، وإذا خالفه كذبوه واتهموه بالنفاق أو بضعف الإيمان.

والملاحظ أننا دخلنا في دوامة الكذب حتى على أنفسنا، فكثيرًا ما نتعلل بالتسلط السياسي والاقتصادي –وغيرهما من أنواع التسلط الواقع على كثير من المسلمين- للتوقف عن العمل الجاد الذي يخدم هذا الدين، ويسهم في تخلص الذات (الفردية والجماعية) من وهنها واستكانتها في مواجهة الظلم والظالمين، وفي مجابهة الواقع المحيط الذي غلب عليه العمل للدنيا حرصًا عليها في مواجهة الآخرة، ليكون حالنا أشد بؤسًا من حال بني إسرائيل في كونهم “أحرص الناس على حياة” مهما كانت حقارتها ودونيتها.

ولو صدق هؤلاء الذين يزعمون انسداد أفق العمل لعزتهم وعزة الأمة أمامهم، لسعوا إلى فتحه غاية استطاعتهم، ولباتوا مهمومين بذلك في ليلهم ونهارهم، لكن للأسف سرعان ما ستلمس أن الدنيا أكبر همهم ومبلغ علمهم، تحركهم المصالح الدنيوية، ولا يحركون ساكنًا في سبيل تحقيق مصالحهم الأخروية إلا بالقدر الذي يرشون به ضميرهم الديني، أو يراءون به الناس، عبر أداء بعض الشعائر العلنية الخالية من الروح والإخلاص لله عز وجل!

ولنبدأ الآن خطواتنا العملية للتخلص من وهننا وضعفنا وهواننا على الناس، فيجلس كل مِنَّا مع نفسه ويدرس مدى صدقه مع الله ومع نفسه ومع الناس، هل هو صادق في إيمانه بالفعل؟ وهل إيمانه –حال وجوده- قويًا إلى درجه يستحق بها وعد الله للمؤمنين بالعزة والنصر والتمكين؟ عسى أن يتوب الله عليه فيتوب!

وللحديث بقية.

——

(ينشر بالتعاون مع موقع الباحث عن الحقيقة(.

مواضيع ذات صلة