الانفصام الدعوي (2 /5).. مع النفس

استنبات الأئمة

د. محمد عزب (خاص بموقع مهارات الدعوة)*

لقد رعت الحضارة الإسلامية العلم رعاية بالغة، كما أولت طلاب العلم الرعاية التي أولوها للعلم، تدل على ذلك شواهد كثيرة في التراث ومفردات الحضارة، كانت الرعاية تأخذ صورا شتى منها: الوقف، والتبرع بنسخ الكتب، وكفالة الطلاب وبناء المدارس وغير هذا.

رعاية النوابغ وتحفيز هممهم وتقديمهم للمجتمع اتصف به خيار الأمة وأئمتها، فلم يصارع شيخ طالبا، ولم ينهر إمام نابغة لحظ فيه نبوغًا وريادة، وكان الخالف يحمل للسالف منهم أعظم مظاهر التوقير والاحترام، ومن جميل ما حفظته الروايات أن عبد الله نجل الإمام أحمد قال لأبيه يومًا: يا أبه، أي رجل كان الشافعي؟؛ فإني سمعتك تكثر من الدعاء له؟ فقال: يا بني كان الشافعي كالشمس للدنيا وكالعافية للناس، فانظر هل لهذين من خلف أو منهما عوض؟ ([1]).

إن عرى التواصل بين الأئمة وطلابهم ظلت موصولة لم تنقطع، ومن أبرز مظاهر هذا التواصل والتحاب ما كان بين الأئمة الثلاثة؛ حيث بدا كسلسة موصولة لا تنفصم تواصلا واتصالًا عجيبا، واستنباتا لجوانب العلم والفهم حدثتنا عنه كتب التاريخ والتراجم، لقد اكتشف مالك بن أنس نبوغ الشافعي مبكرًا، فظلت الحلقة متصلة، يتعلم الشافعي على مالك، ويتعلم أحمد على الشافعي، فينتقل أثر مالك عبر الشافعي إلى الإمام أحمد.

كان اكتشاف مالك لتلميذه الشافعي درسًا مهمًا من دروس التربية ورعاية ذوي المواهب في ساحات الدرس وتلقي العلم، وإبرازهم للمجتمع، حتى يصيروا هم قادته والمؤسسين لعلومه الآخذين فيه بزمام المبادرة، المربين من بعد لرواده ومجتهديه.

لا بد قبل أن نسوق ما حدث بين مالك وتلميذه الشافعي أن نقرر حقيقة مفادها: أن العالم الذي يرى في نابغة من طلابه يرتاد مجلسه تهديدًا لعلمه أو نيلًا من مكانته أو تأثيرا على نفوذه بين الناس أو بين الطلاب لا يستحق شرف حمل العلم، ولا التسمي به، ولقد ضرب مالك – رحمه الله – المثل الأعظم في النزول للحق والرجوع إليه، والفتوى به على خلاف قوله، حيث استبان له خطؤه، فأبرز بتصرفه الفذ للأمة الشافعي كأحد حداتها في طريق الحق

ينقل ابن عساكر بسنده عن الشافعي قوله: “حضرت مالك بن أنس، وأنا أسمع منه الحديث، ولي دون الأربع عشرة سنة، فجاءه رجل فوقف عليه ثم قال له: إني رجل أبيع القماري([2]) فبعت قمريا على هذه، فرده إلي فقال ما له صوت، فحلفت بالطلاق أنه لا يسكت. فقال: أوَسكتَ؟ قلت: نعم؟ قال: أنت حانث. قال الشافعي: فتبعته، فقلت له: يا رجل، كيف حلفت؟ قال: حلفت بما سمعت. قال: فقلت له: صياحه أكثر من سكوته؟ فقال: صياحه. فقلت: مر؛ فإن امرأتك لك حلال. قال: فماذا أصنع؟ وقد أفتاني مالك بما أفتى. فقال: عُد إليه، فقل له: إن في مجلسك من أفتاني بأن امرأتي هي لي حلال، وأومئ إلي، ودعني وإياه، فرجع، ورجعت، وجلست فيما بين الناس، فقال له: إني رأيت أن تنظر في يميني. قال أليس قد أفتيناك بأنك حانث؟! فقال: في مجلسك من أفتاني بأن امرأتي هي لي حلال. قال: أفي مجلسي؟! قال: نعم. قال: ومن هو؟ فأومأ إلي. فقال لي مالك: أنت أفتيته بذلك؟! قلت: نعم. قال: ولماذا أفتيته بذلك؟ قلت له: سمعتك تروي عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لفاطمة بنت قيس: إذا حللت فآذنيني، فلما حلت، قالت له: قد خطبني معاوية وأبو جهم. فقال: «أما معاوية فصعلوك لا مال له، وأما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه » وعلم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن أبا جهم يضع عصاه عن عاتقه ويتصرف في أموره، فإنما نُسب إلى ضرب النساء، فذكر أنه لا يضع عصاه عن عاتقه، وحمله على الأغلب من أمره، وإني سألته، وقلت: سكوته أكثر أم صياحه؟ فقال:صياحه. فأفتيته بذلك. قال فتبسم مالك، وقال القول قولك ([3]).

سمع مالك الذي قد جاوز السبعين من عمره وقت الواقعة الشافعي الذي لم يجاوز العشرين من عمره وأصغى إليه، واستحسن استخراجه للمسألة وأخذ بها، لأن نشدان الصواب غاية، ولولا ثقة الشافعي بخلق أستاذه ودينه ما تجرأ على أن يتعامل مع الموقف بهذه الجرأةن وبهذا الخلق بين الأئمة وطلابهم برز الأئمة الرواد.

الخليل وسيبويه

لم يكن مجال العلوم الشرعية وحده هو المبرز لهذا الخلق، فلقد كان استنبات الرواد ممن يحملون معارف الوحي والعلوم الخادمة له شائعا في كل علم، لما مات الخليل بن أحمد عالم العربية الأشهر، كان من وفاء تلميذه غير العربي سيبويه أن سعى في حمل أمانته وفاء له، فقد ذهب سيبويه إلى علي بن نصر الجهضمي، فقال له: “يا عليُّ، تعال نتعاون على إحياء علم الخليل ” فتقاعس عليٌّ، وخذَل سيبويه فيما أرادهُ، يقول العلامة محمود شاكر: فحَميَ قلبُ سيبويه، وعزم على أن ينفردَ بإحياء علم الخليلِ، فانبَرَى بكُلّ ما في قلبه من الديانة، والأمانةِ والحب والإخلاص، مستقلا وحده بالعِبْءِ، وحلَّق وحدَه كالعُقاب في جوِّ العربية، يجلِّي بعينيه النافذتين كلَّ علم الخليل وغير الخليلِ، وكلَّ أساليب العربية، وينقضُّ على المعاني بضبطٍ وإحكامٍ كإحكام العُقَاب الصَّيُود، بكُلّ ما في قلبه من القُدْرة على الإبانة والقُدْرة على الاستبانة[4].

بهذه الروح التي وصفها أبو فهر جاء كتاب سيبويه (الكتاب) الذي مات وقد جاوز الثلاثين بقليل أعظم ما أُلّف في النحو العربي، كمبادرة منه في الوفاء لشيخه الخليل الذي وجد أن إحياء علمه حق عليه، ولنا أن ندرك المنزلة التي نزلها الخليل في قلب سيبويه، حتى إنه كان إذا رأى ما يخالف شيخه فيما يورده فإنه لا يذكر نفسه بجواره أبدًا إجلالًا له بل يقول (وقال غيره…)[5] يشير لنفسه في كتابه بهذا أدبا مع شيخه المتوفي وتقديرا لقدره.

كانت هذه هي العلاقة الحاكمة بين العالم المربي والتلميذ المتعلم؛ تظل آصرة المودة قائمة لا تنمحي بوفاة الشيخ، فكان الخليل إمامًا، وكان سيبويه تلميذه إمامًا.

ابن الطفيل وابن رشد

فإذا ابتعدنا قليلا عن مجال علوم الوحي والعلوم الخادمة له، وخرجنا من المدينة ومكة، والبصرة والكوفة، وانتقلنا إلى الفردوس المفقود، وإلى حكماء الفلاسفة فنجد أن من أعظمهم ابن رشد العلامة الفقيه الفيلسوف، كان بروزه وتقدمه بمبادرة من فيلسوف سبقه لبلاط الحاكم، والقصة يحكيها المراكشي على لسان ابن رشد قائلا: “استدعاني أبو بكر بن طفيل يوماً فقال: لي سمعت اليوم أمير المؤمنين يتشكى من قلق عبارة أرسطو طاليس، أو عبارة المترجمين عنه، ويذكر غموض أغراضه، ويقول: لو وقع لهذه الكتب من يلخصها ويقرب أغراضها بعد أن يفهمها فهماً جيداً؛ لقرب مأخذها على الناس، فإن كان فيك فضل قوة لذلك فافعل، وإني لأرجو أن تفي به؛ لما أعلمه من جودة ذهنك، وصفاء قريحتك، وقوة نزوعك إلى الصناعة…[6] فدخل ابن رشد بلاط أبي يعقوب، بوصية من ابن طفيل وترشيحه لهذا، وهو وضع للرجل الفذ حيث تبرز ريادته وعبقريته، وكان رأي ابن طفيل في ابن رشد صائبا في محله، وبرز ابن رشد في عالم الفلسفة بروزًا لا تزال آثاره في العالمين الغربي والمشرقي بادية.

هكذا كان تقديم ابن طفيل لابن رشد، حيث رشحه في وفاء نادر الحدوث ليجاور الأمير بالقصر، ويحظى بما ينفق غيره عليه النفيس والرخيص ليجاور الأمير في القصر ، وإذا نحينا طريقة ومذهب ابن طفيل الفلسفي جانبًا، وما كان عليه ابن رشد، فيبقى الموقف التربوي بالغ الأثر الذي كان لابن طفيل تجاه ابن رشد في إنزال الناس منازلهم حتى صار ابن رشد كما وصفه الذهبي: (فيلسوف الوقت) [7] وقال ابن الأبار: (مال إلى علوم الأوائل فكانت له فيها الإمامة دون أهل عصره)[8] فكان إماما في فنه لا تزال آثاره باقية.

هكذا كانت مناهج العلماء وطريقتهم في إبراز القادة والأئمة والرواد، تبدأ بإخراج المتعلم من دائرة التلقين والحفظ والصمت إلى دائرة التفكير والتدبر والفهم ومناقشة الفتوى والفكرة، والقدرة على التحليل والموازنة القائمة على الدليل، وإعطاء الدرس العملي في التراجع عن غير الصواب مهما كان، وهذا ما ظفر به الشافعي حين تعلم على مالك، وصار بعدها كالشمس للدنيا والعافية للبدن كما وصفه تلميذه الإمام أحمد، كما أن حسن التلقين والإطار العلمي وروح المودة استنبتت وفاء نادرا لدى سيبويه فاعتنى بتراث شيخه الخليل، فأخرج أعظم كتب النحو، ثم كانت إمامة ابن رشد في علوم الفلسفة التي التفت لها ابن طفيل حين بلغ به السن.

وهكذا يجب أن تسير بنا الركائب في استنهاض الأمة التي لا بد فيها من استنبات العباقرة، في ساحات البحث والدرس، ونحن اليوم نخوض معركة الوعي، نحتاج إلى أئمة في كل فن.

([1])تهذيب الكمال، للمزي (24/ 371).

([2]) القمري طائر صغير من الحمام. حياة الحيوان الكبرى، للدميري (2/ 351)

[3] تاريخ دمشق لابن عساكر (51/ 304)

[4] رسالة في الطريق إلى ثقافتنا ، لمحمود شاكر ، (17)

[5] مقدمة تحقيق كتاب سيبويه، الشيخ عبد السلام هارون: 1/7

[6] المعجب في تلخيص أخبار المغرب، للمراكشي (ص: 179)

[7] سير أعلام النبلاء، للإمام الذهبي (21/ 307)

[8] التكملة لكتاب الصلة، لابن الأبار (2/ 74).

 

* أستاذ مشارك بقسم العقيدة بكلية العلوم الإسلامية جامعة المدينة.

مواضيع ذات صلة