الانفصام الدعوي (2 /5).. مع النفس

كيف تغرس محبة الله تعالى في قلوب عبادِه؟

منصور بن محمد المقرن

يبذل كثير من الإعلاميين والكتاب العرب جهوداً كبيرة لا تكلّ ولا تمل لتحبيب الزعماء إلى شعوبهم، وذلك من أجل تعزيز الطاعة، وتنمية الولاء، وزرع الهيبة، وفي المقابل، يبرز تساؤل مهم: هل يبذل الدعاة إلى الله تعالى معشار تلك الجهود لتحبيب الله تعالى إلى الناس؛ ليسهل انقيادهم وطاعتهم له سبحانه؟!

يدعو الله

أقصر الطرق إلى محبة الله تدبر أسمائه وصفاته

إن المتأمل لواقع الخطاب الدعوي -بله أساليب الآباء والمربين- ليجدها تركز جهودها -مع أهمية ذلك- على بيان الأحكام الشرعية فحسب، وتفتقر في مجملها إلى ذِكر ما يُحبب العباد لربهم ومولاهم، وذلك بالتعريف بالله عز وجل وذكر صفات الجمال والكمال والعظمة له سبحانه. وقد يقول قائل: إن الناس برّهم وفاجرهم يعرفون الله عز وجل فلا داعي لصرف الجهود في بيان أمرٍ معروف لديهم بالضرورة. ويرد على هذا القول ابن القيم رحمه الله بكلام رصين فيقول: “معرفة الله سبحانه نوعان:‏ الأول ‏:‏ معرفة إقرار وهي التي اشترك فيها الناس البر والفاجر والمطيع والعاصي‏.‏ والثاني‏:‏ معرفة توجب الحياء منه والمحبة له وتعلق القلب به والشوق إلى لقائه وخشيته والإنابة إليه والأنس به والفرار من الخلق إليه”.

ومما يؤكد كلام ابن القيم ما يُلاحظ من بُعد كثير من المسلمين عن طاعة الله تعالى ووقوعهم في معاصيه، فلو عرفوا الله حق المعرفة ما عصوه، قيل للفضيل بن عياض: ما أعجب الأشياء؟ فقال: قلب عرف الله عز وجل ثم عصاه”، وقال العلامة فريد الأنصاري -رحمه الله-: “لو كان الناس يعرفون الله حقاً لرأيت الحال غير الحال، ولرأيتهم يسابقون في أداء حق الخالقية”.

وإن أعظم طريق موصل إلى معرفة الله -عز وجل- هو معرفة وتدبر أسمائه وصفاته سبحانه، بل إن ذلك من أجلِّ علوم الإسلام كلها كما قال ابن القيم: “معرفته والعلم بأسمائه وصفاته وأفعاله أجلِّ علوم الدين كلها.

وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: “إنني لا أتصور أن أحداً يمكن أن يعبد رباً لا يعرف أسماءه وصفاته، وكيف يكون ذلك وهو يمد يديه له: يا رب يا رب! إذا كان لا يعلم أن له صفات وأسماء يدعى بها فكيف يتخذه إلها قادراً وملجأ ومعاذاً ونصيراً؟! ولهذا قال إبراهيم لأبيه {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ} (مريم: 42). وأشار ابن القيم إلى أن التعريف بالله عز وجل كان دأب الأنبياء جميعاً، فقال: “الرسل من أولهم إلى خاتمهم عرَّفوا الرب المدعو إليه بأسمائه وصفاته وأفعاله تعريفاً مفصلاً حتى كأن العباد يشاهدونه سبحانه وينظرون إليه فوق سماواته على عرشه”.

لو بُذلت مزيد جهود وعناية في تذكير وتعريف الناس بصفات الجمال والكمال والعظمة لله تعالى لـتغيرت أحوال الكثير، ولذابت القلوب محبة لخالقها وأنساً به وشوقاً إلى لقائه، قال ابن القيم -رحمه الله-: “المحبة لها داعيان: الجمال والإجلال”. كما أن الاهتمام بهذا الأمر يُسهل عمل الدعاة لكون أصل محبة الله تعالى متجذر في قلب كل مسلم مهما اقترف من المعاصي، قال ابن القيم: “ما من مؤمن إلا وفي قلبه محبة لله، وإن لم يحس بها لاشتغال قلبه بغيره”.

فمحبة الله جلَّ جلاله هي نور القلوب وأُنس النفوس ومن أعظم واجبات الدين، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: “محبة الله بل محبة الله ورسوله من أعظم واجبات الإيمان، وأكبر أصوله، وأجلّ قواعده، بل هي أصل كل عمل من أعمال الإيمان والدين” وقال أيضاً: “اتفقت الأمتان قبلنا-على ما عندهم من مأثور وحكم عن موسى عيسى صلوات الله عليهما وسلامه-أن أعظم الوصايا أن تُحب الله بكل قلبك وعقلك وقصدك، وهذا هو حقيقة الحنيفية ملة إبراهيم” وقال تلميذه ابن القيم: “المحبة هي سرّ شهادة ألّا إله إلا ألله”.

ولعظيم شأن المحبة تضافرت الآثار وأقوال السلف الداعية إلى تحبيب الناس في خالقهم ومولاهم سبحانه، فقد ذكر الإمام أحمد في كتاب الزهد: “أن الله -عز وجل- أوحى إلى داود: يا داود أحبني وأحبّ من يحبني وحبّب إليّ عبادي.

قال: يا رب! ها أنذا أحبك وأحب من يحبك، فكيف أُحبِّبك إلى خلقك؟ قال: أن تذكرني فلا تذكر إلا حسناً. وفي أثر آخر: “أوحَى اللهُ إلى موسى: ذَكِّر خَلقي نَعمائي، وأحسِن إلَيهِم، وحَبِّبني إلَيهم؛ فَإِنَّهُم لا يُحِبّونَ إلّا مَن أحسَنَ إلَيهِم”.

ويبين أبو أمامة الباهلي -رضي الله عنه- جزاء من حبّب الله إلى عباده فيقول: “حَبِّبُوا اللَّهَ إِلَى النَّاسِ يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ” ويؤكد ذلك الجزاء بل ويُقسم عليه التابعي الجليل الحسن البصري رحمه الله حيث يقول: “لو شئتم أن أُقسم لكم لأقسمن: إن أحب عباد الله إلى الله الذين يُحببون عباد الله إلى الله، ويمشون في الأرض بالنصيحة”، ووصف ابن رجب -رحمه الله- أولياء الله بأنهم “يُحببون الله إلى خلقه”.

وقد ذكر ابن القيم أن من المضامين الأصيلة لخطب النبي -صلى الله عليه وسلم- وصحابته تحبيب الله تعالى إلى عباده، فقال: “ومن تأمل خطب النبي -صلى الله عليه وسلم- وخطب أصحابه، وجدها كفيلة ببيان الهدى والتوحيد، وذكر صفات الربِّ جلّ جلاله، وأصول الإيمان الكلية والدعوة إلى الله، وذكر آلائه تعالى التي تحببه إلى خلقه، وأيامه التي تخوفهم من بأسه، والأمر بذكره وشكره الذي يحببهم إليه، فيذكرون من عظمة الله وصفاته وأسمائه ما يحببه إلى خلقه، ويأمرون من طاعته وشكره وذكره ما يحببهم إليه، فينصرف السامعون وقد أحبوه وأحبهم”.

إن محبة الله تعالى متى تمكنت في النفوس أثمرت تذللاً له سبحانه وطاعة وانقياداً، قال شيخ الإسلام: “ومعلوم أن الحب يُحرك إرادة القلب، فكلما قويت المحبة في القلب طلب القلب المحبوبات” وقال: “كلما ازداد القلب حُباً لله ازداد له عبودية” وينبه ابن القيم الدعاة إلى أهمية غرس المحبة في نفوس المدعوين وأنها سبب عظيم يسير لإنقاذهم من المعاصي، فيقول: “فإن صعب عليهم (أي العصاة) ترك الذنوب فاجتهد أن تُحبب الله إليهم بذكر آلائه وإنعامه وإحسانه، وصفات كماله، ونعوت جلاله، فإن القلوب مفطورة على محبته، فإذا تعلقت بحبه هان عليها ترك الذنوب والإصرار عليها، والاستقلال منها”.

ختاماً.. فإن الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في دعوته وطريقة عرضها وترتيب أولوياتها– ومن ذلك تحبيب الناس في ربهم-سيضمن –بإذن الله- نجاح الدعاة في دعوتهم وصلاح الناس في أحوالهم، قال ابن القيم: “لو سلك الدعاة المسلك الذي دعا الله ورسوله الناس إليه سبحانه لصلح العالم صلاحاً لا فساد معه”.

____

* المصدر: المختار الإسلامي (بتصرف في العنوان).

مواضيع ذات صلة