خالد رُوشه
أخطاؤنا علامات مؤثرة في سيرة حياتنا، لا نملك التغافل عنها كما لا نملك التنصل منها وحياتنا مليئة بالأخطاء على مستوى الفرد والجماعات والمجتمعات ولكن تلك الأخطاء لا تعني دائماً الفشل وكذلك لا تعني دائماً الانحراف عن السبيل.. فالخطأ إذا صوّب وقوّم وصار تجربة للتعلم والانطلاق ربما يصير دافعا قويا للنجاح والإنجاز…
والناس في تعاملهم مع أخطائهم أنواع وأصناف:
فالنوع الأول من الناس هم من ينكرون أخطاءهم ويجادلون عنها ويحاربون من يحاول تقويمها لهم متوهمين أنهم يستطيعون بذلك محوها، وهؤلاء يقعون في الخطأ مرتين، مرة حين أخطؤوا والثانية حين أنكروا أخطاءهم ورفضوا النصح والتقويم، فلا هم نفعوا أنفسهم باعترافهم بأخطائهم ولا هم تعلموا منها، فتراهم يعاودون ذات الخطأ مرات ومرات وهم لا يذّكرون…
والنوع الثاني من الناس هم من يعترفون بأخطائهم ولكنهم لا يتعلمون منها ولا يتوبون عنها، فهؤلاء يظلون حياتهم كلها يحملون عقدة الشعور بالذنب والخطأ، ويظلون يعانون من شبح الفشل ليل نهار.
والنوع الثالث من الناس من يعترفون بأخطائهم ويحاولون جاهدين التوبة عنها والاعتذار ثم هم دائماً يحاولون التعلم من أخطائهم التي وقعوا فيها، فيحذرون العودة إليها،. وتصبح أخطاؤهم بالنسبة إليهم علامات صحة في طريق نجاحهم، تدفعهم دائماً للأمام على شتى السبل….
فالنوع الأول هم أكثر الناس مرضاً، وهم شر الناس وحثالة المجتمعات، والنوع الثاني هم أناس بغير طموح قد أقعدهم الفشل ونأى بهم القعود عن الإنجاز، وأما النوع الثالث فهم المتطلعون إلى تعديل مناهج حياتهم والساعون إلى ابتداء صفحات بيضاء يصطلحون فيها مع أنفسهم ويبدؤون عهدا جديدا بلا أخطاء..
كيف نخطئ؟ ومن أين تتولد أخطاؤنا؟
إن بحثا بهذا الشأن قد حير الباحثين النظريين والتجريبيين، حيث إنهم رأوا أن الإنسان يتميز عن باقي المخلوقات بأنه كائن يهدف إلى تحصيل المعرفة من أجل إشباع حاجاته المادية والروحية، وهو للوصول إلى المعرفة يستخدم عقله مفكراً عبر مراحل استدلالية متسلسلة يستنبطها فكره حتى يبلغ هدفه..
لذلك اخترع المتقدمون قواعد وضوابط عقلية أسموها بالمنطق حتى تصبح ثوابت عامة في المعرفة الإنسانية. ذلك أن الإنسان قد لا يصل غالباً إلى المعرفة الحقيقية التي تكشف عن الواقع الفعلي، أو أنه قد يضع لنفسه مناهج تطابق هواه ورغباته ومصالحه لذلك يخطئ كثيراً في تحصيل المعرفة أو استخدامها بالصورة الصحيحة…
ومن ثم كانت قوانين البشر المنطلقة من ذواتهم دائما ما تكون قاصرة عن قيادة البشرية قيادة حكيمة.. “اتفق القانونيون في العالم بأسره على ما أسموه ثغرات القانون وأنه الطريقة المثلى لنقد الأحكام”.
وإذا كان الإنسان كائنا مستدلا عقلانيا فإن نمط حياته العام يتشكل حسب نوعية الحركة المعرفية التي يتخذها وحسب طريقة تفهمه لما حوله.
وقد تتخذ أمة كاملة منهجاً استدلالياً ومعرفياً خاطئاً يقودها إلى اتجاه معاكس ولا يوصلها إلى أهدافها بل لا نبالغ إذا قلنا: إن حضارات راسخة قد حادت بمنهجها كله إلى تخبط وعشوائية منهجية فلم تنتج للبشرية غير ميراث من الحجارة ومنافع تقتصر على ذوي الهيئة فيها والجاه والسلطان.. (لم ينتفع وارثو الحضارة الفرعونية منها بشيء سوى التماثيل الحجرية والآثار الصخرية وطريقة تحنيط الموتى الأغنياء، وصار ذلك مجلبا للسياح من شتى بقاع الأرض للمشاهدة)، وانظر لقوله -تعالى-: {ألم تر كيف فعل ربك بعاد * إرم ذات العماد * التي لم يخلق مثلها في البلاد * وثمود الذين جابوا الصخب بالواد * وفرعون ذي الأوتاد * الذين طغوا في البلاد * فأكثروا فيها الفساد}.. فهؤلاء رغم ما بنوه وشيدوه من صروح عتيدة إلا أنهم لم ينفعوا البشرية بشيء، بل أفسدوا وطغوا.
ومن ثم فإن الحضارات دائما تفتقر -لتصبح مفيدة للبشرية- أن تتبنى منهجا لا ينتمي لتلك المناهج النفعية الإنسانية أو تلك التي تنبني على أهواء أولئك البشر الناقصين.. ولاشك أننا نقصد هنا بذلك المنهج أنه المنهج الرباني الخالد الذي لا يأتيه النقص من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد..
منهج بلا أخطاء
إنه المنهج الذي بناه الذي يعلم البشرية حق العلم، ويعرفها حق المعرفة، ويحيط بنقائصها وقدراتها وميزاتها {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير} (سورة الملك آية 14).
وهو كذلك المنهج التطبيقي السليم الصالح لمصلحة الناس أجمعين ضعيفهم وقويهم غنيهم وفقيرهم صغيرهم وكبيرهم ذكرهم وأنثاهم يأمر بالعدل والقسط والرحمة إذ إنه -سبحانه- غني عن العالمين {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا} (سورة النساء آية 135).
كيف تتراكم الأخطاء؟..
إن الكثير من الأشياء في هذه الحياة تبدو لنا في ظاهرها سليمة وخالية من العيوب لذلك نعمل وفق تلك الرؤية النفعية الإنسانية البعيدة عن الله وعن منهجه والتي نشكل حياتنا وما يتبعها على ضوئها، ولكن قد تكون هذه الأفكار ليست إلا أخطاء تعودنا عليها عبر الزمن حتى يسيطر الركود والجمود والتخلف علينا، ذلك أن الاستمرار على الخطأ يؤدي إلى خلق تراكمات متتالية لمجموعات من الأخطاء المعقدة، وهذه هي إشكالية في المنهجية التي يفكر بها الفرد أو الجماعة أو المجتمع أو الأمة.. إن العبرة التي نستخلصها هي إن المنهج الفكري التطبيقي هو الذي يحدد مسيرة فرد أو أمة، وحياة الأمة وحيويتها مرتبطة بنوعية التفكير الذي تسير وفقه ومصدره ومدى ملاءمته لصلاح العالم، فكم من أمة اندثرت وماتت عندما غرقت في المستنقعات الراكدة لأفكارها النفعية البشرية الجامدة، يقول الإمام ابن تيمية -رحمة الله-: “والدنيا بدون نور الرسالة سوداء مظلمة “.
محددات قياس الخطأ الشخصي
وعلى المستوى الشخصي للخطأ فليس هناك من يدعي العصمة من الأخطاء غير المعاندين المتكبرين أو المتجبرين الطغاة الذين يرون أعمالهم كلها صوابا وخطواتهم كلها إنجازا وتدبيراتهم كلها تطورا.. غير عابئين بأثر أخطائهم على أنفسهم أو الآخرين، وذلك هو عين الظلم للنفس وللناس، وهو كذلك عين الجهل بالحق والصواب، ولا يجتمع الظلم والجهل في مخلوق إلا كان شيطانا سواء كان بشريا أو جنيا..!!
ولذلك فإن هناك ثلاثة محددات أساسية لتقييم أخطاء الإنسان، يقيس على أساسها سلوكه وخطواته وتدابيره الخاصة، وهي:
1- هدف العمل: فالصواب أن يكون لكل عمل هدف، كما ينبغي أن يكون ذلك الهدف هو جلب النفع للإنسان نفسه، أو دفع الضر عنه، ولكن لابد هنا من محدد للأهداف الشخصية ينبغي على الإنسان مراعاته ذلك هو ألا يعود السلوك ذي الهدف النفعي للمرء بضرر على غيره من أمة الإسلام، كما لا يعود دفع الضرر عن المرء بضرر أكبر منه على الفرد ذاته أو مجتمعه.. والشريعة قد حددت لذلك قواعد وضوابط ليس هذا مكان الإسهاب فيها.
2- لمن نقدم أعمالنا؟ الصواب الذي بينته الشريعة العظيمة أن تكون عباداتنا كلها لله وحده لا شريك له، فهو لا يقبل شريكا في العمل، ومن أشرك في العبادة مع الله غيره فقدمها له تركه -سبحانه- وشركه ففي الحديث القدسي في الصحيح ” أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه “، كما علمتنا الشريعة أن عاداتنا وحياتنا وسلوكنا ينبغي أيضا أن يرتجى به وجه الله -سبحانه-، فهو عندئذ -سبحانه- برحمته يحاسبنا عليها كأعمال صالحات بثواب عميم وأجر مضاعف قال -سبحانه-: {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين} (سورة الأنعام آية162).
3- ضرورة الانطلاق في السلوك من قاعدة الشفافية: وأعنى بذلك أن المنهج البرجماتي النفعي الذي يقوم على المصلحة المجردة للأفراد والجماعات بغض النظر عن مصلحة الآخرين ونفعهم قد أنكره الإسلام، ولكن الإسلام قد علّم أن ينطلق المرء من منطلق الشفافية السلوكية البيضاء الواضحة، فأنكر سوء الظن، وأنكر الغيبة والنميمة، وأنكر هتك الأسرار، وأنكر الحيل والخداع والمكر، كما أنكر غض الطرف عن آلام الغير وأحزانه ومعاناته.. فالسلوك الشخصي في الفكر الإسلامي قد بلغ من العظمة والرقي أن يصير إنجاز الآخر إنجازا للأول وأن تكون سعادة الجار سعادة لجاره وأن يتألم مسلم بالعراق يشعر بأنينه مسلم بالمغرب.. فانظر واستخرج الفوائد التي لا تسعها الأوراق..
4- أهمية الانطلاق من مبدأ الاستشارة والاستخارة في القرارات الهامة: وأعني بذلك ضرورة إعمال رأي الخبراء وذوي التجربة في مدى صحة خطواتنا ومواقفنا ومناهجنا الحياتية، وليس العلماء الشرعيون فقط هم الخبراء الذين يُستشارون، ولكن قد يضاف إليهم ذوي الرأي والعلم والخبرة في كل مجال بحسبه، كما أن الاستخارة التي كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يعلمها الناس كما يعلمهم السورة من القرآن لها أثر بالغ في توفيق المرء وهدايته إلى صواب الخطوات والأعمال كما فيها من معاني التوكل والاعتماد على الله -سبحانه- والرضا بقضائه الشيء الكثير والمؤثر على النفس الإنسانية قبل وبعد إتمام العمل.
كيف نتعامل مع أخطاء الآخرين؟
كثيراً ما تتداخل المفاهيم وتختلف المشاعر وتتوالد السلبيات في أثناء تعاملنا مع أخطاء الآخرين، ولكن هناك علامات إيمانية مضيئة قدمها المنهج النبوي الكريم في تعاملنا مع أخطاء الغير تقوم السلوك الإنساني في الحكم على الآخرين وتدعو إلى العدل والإحسان مع المخطئ.. نشير إلى بعضها بإيجاز:
1- أن يكون قصد الوقوف على خطأ الغير هو لله وحده لا شريك له فلا يكون بقصد التشفي والانتقام ولا بقصد السعي لنيل رضا الناس ولا لمصلحة شخصية عائدة أو ظنية.
2- أن يكون منطلق البحث في أخطاء الغير العلم بأن الناس جميعاً خطاؤون، وأن النفس البشرية تخطئ وتصيب، وقد علم هذا وتواتر كمنهج إسلامي شرعي، ففي الأثر الحسن “كل بني آدم خطاء”… وقال مالك: “كلنا يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا المقام” وأشار إلى بيت النبي -صلى الله عليه وسلم- .
3- التفريق بين المخطئ العامد والمخطئ الساهي أو المضطر أو الجاهل أو غيره وكذلك اعتبار ظروف الخطأ.
4- اختيار من يصحح الأخطاء، بحيث يتوافر فيهم العدل والشفافية والبعد عن المصلحة وعدم الخلفية الخلافية أو العدائية ولما ناظر داود الظاهري أحدهم، رد عليه ذلك الشخص، وقال له: إذا كنت تقول كذا وكذا؛ فقد كفرت والحمد لله. قال له داود: لا حول ولا قوة إلا بالله! كيف تفرح لكفر أخيك المسلم؟
5- مراعاة قيمة المخطئ وإيجابياته وقياس فضائله ووزنها بأخطائه.. ففي الحديث “لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم”، وللأسف فنحن حينما نحاول أن نزن حسنات الآخرين وسيئاتهم؛ تجدنا في الغالب نتمنى أن يميل الميزان لترجح هنا أو هناك بحسب ميلنا أو هوانا! وكان الشافعي -رحمه الله- يقول: ما ناظرت أحدا إلا تمنيت أن يظهر الله الحق على لسانه.. فانظر وتأمل.
6- استبدال لوم المخطئ بتوجيهه وتعليمه وتقويم سلوكه وكما يقول أنس بن مالك -رضي الله عنه-: إنه خدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عشر سنوات ما لامه على شيء قط، وإذا حدثه في ذلك بعض أهله قال: “دعوه فلو كان شيء مضى لكانْ”، وفي رواية للطبراني قال أنس بن مالك: “خدمت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عشر سنين فما وُريت شيئاً قط وافقه، ولا شيئاً خالفه” [1].
7- بيان الصواب للمخطئ؛ لأنه ربما ظن نفسه محقا وربما بعد البيان يعود المخطئ إلى الصواب.. في قصة معاوية بن الحكم حيث قال: بينما أنا أصلي مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ عطس رجل من القوم فقلت: “يرحمك الله”، فرماني القوم بأبصارهم فقلت: “ما شأنكم تنظرون إلي” فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمتونني سكت، فلما صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فبأبي هو وأمي ـ ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه ـ فوالله ما نهرني ولا ضربني ولا شتمني قال: “إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن”.
أسباب الخطأ
إن لارتكاب الأخطاء أسبابا كثيرة قد يغفل عنها كثير من المعالجين والمقومين لذلك الموضوع، ويجب على الباحثين في هذا الشأن الاهتمام ببيان أهم تلك الأسباب ليسهل اجتنابها فيعينون الناس على اجتنابها ومن ثم تصحيح سبيلهم في التعاطي مع الأخطاء سواء كانت شخصية أو جماعية
أولا: ترك الاعتصام بمنهج الله الحق، ذلك الحصن الحصين والركن الركين والصراط المستقيم الذي لو اعتصمنا به لما خرجنا عن هدايته وانظر إلى قوله -تعالى-: {ومن يعتصم بالله فقد هُدي إلى صراط مستقيم} (سورة آل عمران آية101) ثم انظر إلى قوله -تعالى-: {واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصي} (سورة الحج آية 78). قال العلماء في هذه الآية: يعنى متى اعتصمتم به تولاكم ونصركم على أنفسكم وعلى الشيطان وإن تركتم الاعتصام به خذلكم، والخذلان منه -سبحانه- أن يكلك إلى نفسك ويخلى بينك وبينها، فترى المخطئ يتهاون في الاعتصام بأوامر ربه فيجره ذلك إلى الوقوع في المعصية والخطأ، ثم يكون خطؤه مركبا فخطأ التهاون بأمر ربه ثم خطأ الوقوع في الخطأ..!
ثانيا: الاستبداد بالرأي: وأعني به ذاك اليقين البالغ الذي يفتعله المرء عند اتخاذه لقرار عمل من الأعمال ضاربا عرض الحائط بكل رأي خالفه أو بأي اجتهاد سبقه أو بأي تجربة عرضت عليه، فهنا نريد أن نقول أن ذلك المنهج في التعصب والاستبداد بالرأي هو منهج لا ينتج غير الأخطاء المتكررة خصوصا إذا كان على مستوى المسئوليات العامة والمتخذة ممن استرعاهم الله رعية سواء كانت صغيرة أو كبيرة، أن اليقين الذاتي هو شعور داخلي لدى الفرد بأنه متأكد من هذا الشيء وهذا اليقين كثيراً ما يكون مضللاً، إذ أن شعورنا الداخلي قد لا يكون على أي أساس سوى ميولنا واتجاهاتنا الذاتية بعيدا عما ذكرنا من محددات اتخاذ القرارات الخاطئة، وهذا الأمر يزداد كلما ازداد الإنسان جهلاً وبعدا عن المنهج القويم أو سيطرت عليه الرغبات النفسية بشكل اكبر.
نلاحظ أن أكثر الناس يقيناً بأعمالهم هم عادة أكثر الناس جهلاً، لكن كلما ازداد المرء علماً تضاءل يقينه بالنسبة للكثير من الأمور وازداد استخدامه لألفاظ، مثل: من المحتمل، ومن المرجح، وأغلب الظن..، بل إن بعض المربين -فيما يخص التجربة والسلوك- قد لا تجد شيئا يقينيا يجزم به في كلامه وكتاباته؛ لأنهم من خلال خبراتهم في الحياة يدركون أنهم مهما وصلوا إلى الحقيقة فإنه مجرد قطرة صغيرة من ذلك البحر المتلاطم المجهول، قال -تعالى-: {وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون} (العنكبوت: 43)؛ لذلك كان قول: (لا أعلم) دليلا على علم العلماء، وكان رد تمام مآل الأمور إلى الله -سبحانه- من تمام الإيمان، والمستبدون بآرائهم دوما هم طغاة مهما اختلفت مجالات طغيانهم.
ثالثا: التفكير النفعي: أو ما يطلق عليه البعض الرغبوي: وهو ذلك النوع من التفكير الذي توجهه الرغبات لا الوقائع وهو نقيض التفكير الواقعي والمنهجي الذي يبذل جهداً في معرفة الوقائع ويبحث في آثار السلوك ونتائجه السلبية والإيجابية ويقيس بينها ويوازن ويقوم، وهذا النوع من التفكير النفعي من المشكلات الأساسية التي تعرقل حيوية الأمة وتقدمها بل إنه يقودها للتراجع والتخلف؛ لأنه يرسم أفكار كل فرد أو جماعة وحسب مصالحه وأهدافه، وبالتالي فإن سلوكه الاجتماعي العام سوف يتشكل حسب هذا المنطلق لذلك تتعمق الانشقاقات واللامبالاة وعدم تحمل المسؤولية والأنانية، ومن ثم يصعب حتى على كثير من المنادين بالوحدة والتعاون أن يطبقوا تلك الدعاوى تطبيقا واقعيا؛ فالكل يريد نفسه القائد، والكل يريد نفسه الموجه والكل يرى أن السبيل الأوحد للوحدة هو أن يصير الجميع تبعا له!!
وقد يرسم ذلك المنهج في التفكير للإنسان واقعا وهميا يحلم به فيجعله يحلق من غير أجنحة حتى إن تيقظ سقط سقوطا مريعا، هذه الأفكار التي توجها الرغبات النفسية تحول الفرد إلى حالم بعيد عن الوقائع يعيش في أوهام تبعده عن مسؤولياته الحقيقية والتغييرية وتبرر له عزلته وانقطاعه، وكم رأينا من عالم سيطر عليه الخوف على نفسه أو سيطرت عليه الدنيا وزخارفها فنسي دوره وتخلى عن مسئوليته واختلق لنفسه الأعذار فنسيه التاريخ وسقط في حمأة الرغبة في المتاع.
المصدر: موقع المسلم.