الانفصام الدعوي (2 /5).. مع النفس

حين يكون التسامح منقصة للفاتحين!

د. محمد أحمد عزب

لقد جمع الله لرسالة الإسلام كل جوانب الكمال، ونزّهها عن النقص والخلل، وضمن لها البقاء ما اختلف الليل والنهار. صار المسلمون الأُول برسالة الإسلام وفق أخلاق الإسلام كان مدخل الإسلام إلى القلوب هو سماحته وبساطته وإنسانيته، حيث يقدم للمؤمنين به الاطمئنان وهدوء البال ويفتح لهم إلى الله سبحانه بابًا واسعا للمغفرة والأمل وثواب الآخرة [1] وإحقاق الحق عند الفاتحين والداعين للإسلام كان بالرحمة تارة وبالقوة تارة إخرى، ولقد كانت الحكمة هي الحاكمة للرحمة والقوة معا عند قادة المسلمين، يستعملون الرحمة في موضعها والقوة في موضعها، لا تطغى هذه على تلك، ولا تستبدل الرحمة بالقوة أو القوة بالرحمة، وكان هذا هو الغالب عليهم في فتوحاتهم وفي غزواتهم.

التسامح صاحب كل الفتوحات الإسلامية

رسالة التوحيد في حقيقتها مجموع من الحكمة والرحمة والحجة والقوة، فإذا اختزلت الرسالة في جانب منها كأن تختزل في جانب الرحمة، أو تختزل في القوة كان ذاك إخلالا بها، ولقد كانت همة الفاتحين مشتعلة دائما لأنهم تخلقوا بأخلاق النبوة؛ فكانوا حريصين كل الحرص على استنقاذ الناس من الوثنيات والشرك والخضوع للخرافات، وهي مهمة عُني القادة الفاتحون بها، ورأوه واجبا في أعناقهم تجاه الأمم والناس.

ولئن نظر غير المسلمين لفتوحات المسلمين على أنها نوع من الغزو والاستيلاء على الأرض، ونهب ثروات البلاد المفتوحة، فهذا ينبع بالأساس من محاولات تشويه وجه الفتح الإسلامي، ووصم قادته بالانتهازية، وتنفيس لغضب داخل من نظر بحنق لما ظفر به المسلمون من إقبال شعوب بكاملها على دين الله ودخولها فيه أفواجًا، تارة بالحديث عن سيرة القادة والفاتحين بما يقبّح صورتهم ويجعلهم في عداد سافكي الدماء، وتارة بوصم الرسالة الخاتمة بالإرهاب والعنف والانتشار بالسيف.

صور من التسامح الإسلامي

لقد ذكرت كتب التاريخ والسيرة أن أبا عبيدة لما اضطر للرجوع عن حمص تحت إجماع قادته رد الجزية على من جمعها من أهلها، قائلا لأمير الخراج حبيب بن مسلمة: “اردد على القوم الذين كنا صالحناهم من أهل البلد ما كنا أخذنا منهم وقل لهم: نحن على ما كان بيننا وبينكم من الصلح، لا نرجع عنه إلا أن ترجعوا، وإنما رددنا عليكم أموالكم كراهية أن نأخذها ولا نمنع بلادكم، ولكنا نتنحى إلى بعض الأرض، ونبعث إلى إخواننا فيقدموا علينا، ثم نلقى عدونا فإن أظفرنا الله بهم وفينا لكم بعهدكم إلا ألا تطلبوا ذلك”… فرد حبيب بن مسلمة إلى أهل البلد ما كان أخذ منهم وأخبرهم بما قال أبو عبيدة، فقالوا: “ردكم الله إلينا، ولعن الله الذين كانوا يملوكننا من الروم، لكنهم والله لو كانوا هم ما ردوا علينا بل غصبونا وأخذوا مع هذا ما قدروا عليه من أموالنا”[2]

يقول د- محمد عبد الله عنان نقلا عن (Lane – Poole): “ما كان المسلمون كالبرابرة من القوط أو الوندال، يتركون وراءهم الخراب والموت، حاشا.. فإن الأندلس لم تشهد قط أعدل وأصلح من حكمهم”[3].

حتى رجال الدين منهم لم يفزعوا قط في ظل وجودهم تحت حكم المسلمين، وهذا ما أشار له المستشرق دوزي، إذ يقول: لم تكن حال النصارى في ظل المسلمين شديدة الوطأة إذا هي قورنت بما كانت عليه من قبل، وكان العرب شديدي التسامح فلم يضيقوا الخناق على أحد من الناحية الدينية.. ولم يجحد النصارى جميلها فكانوا راضين عنها لتسامحها واعتدالها وآثروا حكمها على حكم القبائل الجرمانية والفرنجة بل يشير إلى رضاء القسس أنفسهم عن سلوك الفاتحين [4].

لقد انطلق المسلمون بين الأمم وفق وصية النبي صلى الله عليه وسلم لا يجاوزونها: “اغْزُوا وَلاَ تَغُلُّوا وَلاَ تَغْدِرُوا وَلاَ تَمْثُلُوا وَلاَ تَقْتُلُوا وَلِيدًا”[5].

وليس العجب من قيامهم بهذه الوصية لكن العجب أن تكون رحمتهم وعدلهم وصفحهم، وتصرفهم وفق أخلاق الإنسانية سبة ومكرًا مكروه ليدخلوا الناس في دينهم.

لقد كانت مواقف المسلمين تجاه مواطني البلاد المفتوحة غاية في الرحمة وغاية في الوزن بالقسط، وهذا ما نطقت به كتاباتهم التي جاء بها عرضا لا بالأصالة حتى صارت الرحمة والحرية التي منحها الفاتحون سبة ومكرا يوصفون به.

يقول يولوج الراهب القرطبي: “كان من مكر العرب أن تظاهروا بأنهم لا يهتمون بدخول الناس في الإسلام، فتطلعت نفوس الناس إلى ذلك الإسلام وودوا لو يتعرفون عليه لعلهم يعرفون السبب في اختصاص العرب أنفسهم به، وضنهم به على غيرهم؛ فما زالوا يفعلون ذلك  ويسألون عن الإسلام، ويستفسرون حتى وجدوا أنفسهم مسلمين دون أن يدروا”.

ونفس الكلام قاله الراهب القبطي يوحنا النيقوسي، حيث تأسف أن العرب لم يلجأوا للقوة في فرض الإسلام، إذ لو فعلوا لزاد تمسك الأقباط بعقيدتهم على مذهب العناد وإباء كل ما يفرض بالقوة، ولما وجد الإسلام هذا الطريق السهل الميسر في مصر والأندلس[6].

وهكذا لم يترك خصوم الإسلام للفاتحين عذرا، ولم يجدوا لهم مكرمة؛ إذ وصفوهم بالوحشية والقتل، وجعلوا رحمتهم وعدلهم مكرا وخبثا، ولكن نور الله أبى إلا أن تكون له الغلبة ولو كره الكافرون.

—–

[1] مؤنس ، الإسلام الفاتح صـ16 بتصرف.

[2] الاكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله والثلاثة الخلفاء (3/ 219).

[3] عنان، دولة الإسلام في الأندلس، 1/64 نقلا عن Lane – Poole: The Moors in Spain, Ch. I.

[4] المستشرق دوزي، صـ 48DOZY : PAR- MUSULMANS D”ESPAGNE.

[5] صحيح مسلم.

[6] الإسلام الفاتح، حسين مؤنس : 15/16.

مواضيع ذات صلة