الانفصام الدعوي (2 /5).. مع النفس

جمال الطبيعة طريق إلى جمال الأخلاق والسلوك

د.آندي حجازي

هل فكرت يوما لم خلق الله تعالى الألوان في جمال الطبيعة ؟ لماذا تعدد الألوان وتدرجاتها؟ هل تخيلت يوما الكون بلا ألوان؟ أو بلونين أو ثلاثة فقط؟ ولو كان باللون الأسود والأبيض أو الأزرق مثلا، فكيف ستكون الحياة؟ ألن تكون رتيبة؟! تشعرك بالملل والكآبة، فسبحان الله الذي أضفى على الحياة متعة وبهجة وجمالا بتلك الألوان والمخلوقات المتنوعة التي لا تعد ولا تحصى بجمال فائق لا يوصف، وسبحان من خلق جمال الطبيعة لنستمتع به.

جمال الطبيعة

جمال الطبيعة طريق لجمال الأخلاق

جمال الطبيعة

فالله تعالى خلق الجمال في الكون ودعانا للتفكر به والاستمتاع بكل مكوناته، فعلى سبيل المثال: قال الله تعالى واصفا جمال الأنعام التي خلقها للركوب عليها والانتفاع بها: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} (النحل:6)، وقال عز وجل: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ } (النحل:8) فالجمال رائع في الكائنات الحية كالخيول والإبل والطيور والحيوانات بأنواعها في البر والبحر والفضاء، يدعوننا للتأمل بمدى جمالها وروعة ألوانها ودقة صنعها وعظيم خالقها.

والله تعالى دعانا للتفكر في جمال السماء وما فيها من بروج وكواكب وأقمار ونجوم مضيئة تتلألأ وتبعث البهجة والمنفعة: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} (ق:6) {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ} (الحجر:16)، فانظر إلى روعة السماء وبروجها: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} (البروج:1)، وانظر لجمال تضاريس الأرض وأجرامها السماوية: { وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) } (النحل:15-16).

فتأمل جمال الأرض من أنهار جارية، وجنات وبساتين يانعة، وبحار واسعة، وجبال شاهقه، ومياه جارية… إنها روعة الخالق في الكون؛ {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} (النمل:60). وقال عز وجل: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ} (الغاشية:17-19). فالآيات القرآنية في جمال مخلوقات الله كثيرة ولكننا ذكرنا غيضا من فيض.

وما أعظم خلق الإنسان بأسراره العظيمة وإتقان خلقه من بارئ عظيم، إعجاز لا مثيل له! قال تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ } (التغابن:3). {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } (التين:4). فجمال خلق الإنسان يعكس عظمة ودقة وروعة جمال صنع الله الذي أتقن كل شيء صنعه. فالله جميل يحب الجمال، وكل شيء في الكون يعكس جمال ودقة صنعته بلاريب، بدرجة تعجز كلماتنا عن وصفها، ولكن يكفيك التنقل بين بلدان العالم لترى الجمال الحقيقي في الطبيعة لما أبدع الله تعالى.

الجمال البشري

لكن الجمال في الإسلام لا يتمثل فقط في الكون وفيما خلق الله تعالى ولكن هناك أنواع جمال تصدر من البشر أنفسهم وهم المسؤولون عنه ومن ذلك:

جمال السلوكيات وجمال المظهر

الإسلام دين الجمال الحقيقي، ويحث على الجمال ولكن الإنسان من يختار سلوكاته التي تعكس الجمال أو تعكس القبح! فأنت تختار أن تحافظ على النظام أو تخالفه، وتختار أن تفتح النافذة وترمي النفايات في الطريق أو أن تزيل النفايات والأذى من الطريق، وتختار أن تكتب على جدران المدارس والأنفاق والبنايات وبين أن تطلي الجدران المتسخة وتصلح بعض الأماكن من حولك، تختار أن تلبس ملابس نظيفة مرتبة مهندمة أينما ذهبت لتعكس صورة المسلم الحقيقي وجمال مظهره؛ وبين أن ترتدي ملابس غير مرتبة أو متسخة أو ذات رائحة؛ لا تعكس صورة المسلم الحقيقية!

أنت تختار أن تضع المخلفات في كيس للنفايات بعد الذهاب في نزهة وتحافظ على نظافة الحديقة وجمال المكان الذي كنت به، وبين أن تترك وراءك منظرا مشوها قبيحا يتحول إلى مكرهة صحية نتيجة قبح في السلوك! أنت تختار أن تنظف أمام بيتك ومحلك التجاري أو مدرستك وتدهن الرصيف أمام بيتك وتزرعه كمظهر جمالي وبين أن تعتبر أن هذا ليس من شأنك وترمي بحملك على عامل التنظيفات والحكومة.

وأنت من يقرر أن تلتزم بقواعد السير وأنت تقود سيارتك أو تعبر الشارع، وبين أن تخالف كل قواعد السير وتعرض نفسك والآخرين للخطر ظنا منك أن هذا من الذكاء (والفهلوة)، بينما هو تهور وبشاعة في السلوك!

وأنت من يختار أن تتلفظ بأجمل الألفاظ مع الآخرين وأن تتكلم بصوت مهذب معقول يعكس جمال تربيتك وسمو روحك وبين أن ترفع صوتك في الطريق وتشتم وتتعارك مع الآخرين بسبب وبدون سبب، فقط لثقافة لديك! وأنت وحدك من يقرر أن يبتسم في وجه الآخرين فيشع الأمل في قلوب من حوله، وبين أن يلقاهم بوجه عبوس قمطرير يصبح سمة له! وأنت الذي تختار أن تصعد على ظهور الآخرين تملقا للمسؤولين أو أن تؤدي دورك بإخلاص كما يجب… فجمال سلوكاتك من جمال روحك، وهي الجمال بعينه.

جمال الأخلاق

ومن جانب الجمال الأخلاقي؛ فكذلك لك الخيار بين أن تطرح الجمال في أخلاقك وبين أن تنشر القبح فيها، فتفي بالعهود كأن تأتي في الموعد المحدد مع الآخرين، أو أن تتأخر دائما لتصبح هذه سمتك التي تعرف بها! بين أن تلتزم في الطابور وبين أن تتحايل لتسبق كل منهم يصطفون قبلك! بين أن تتقن عملك أو واجبك المدرسي والجامعي وبين أن تسرق جهد غيرك لتقدمه بأقل جهد ممكن وبأقل إخلاص وإتقان متاح!

فلديك وحدك القرار في أن تعكس جمال أخلاقك كالصدق فتقول الحقيقة حين تحتاجها أو أن تختلق القصص والحكايات والاتهامات أو القصص المزورة! والقرار أن تتكلم بكلام حسن لطيف جميل مليء بالأدعية والنصائح والحوار والإقناع والتهذيب، أو أن تتلفظ بكلمات دون أن تلقي لها بالا أو تطلق على الآخرين ألقابا قبيحة تجعل الآخرين ينبذونك وينفرون من الجلوس معك! فللكلمات جمال خاص ووقع في النفس لا يمحى.

وأنت وحدك تقرر إن كنت ستعامل خادمك أو سائقك معاملة طيبة تعكس جمال أخلاق الإسلام وتجعلهم يحبون دينك أو أن تعامل من هم دونك معاملة فوقية متعجرفة وتؤذيهم وتجعلهم ينفرون من هذا الدين الذي تنتمي له، فهل تذكر كيف كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعامل أنس بن مالك؟ لندع أنسا يخبرنا.. فعن أنس -رضي الله عنه- قال: «لقد خدمت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عشر سنين، فوالله ما قال لي: أف قط، ولم يقل لشيء فعلته: لم فعلت كذا، ولا لشيء لم أفعله ألا فعلت كذا».

فلماذا أحب المسلمون الأوائل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويستمر حبه لليوم بين المسلمين؟ أليس لجمال روحه وأخلاقه وتصرفاته وسلوكاته من تهذيب في القول والفعل والنفس، وتطبيق حقيقي لجمال الإسلام العظيم وأخلاقه الرائعة الجاذبة، فلماذا لا نقتدي به اليوم في جمال أخلاقه كالصدق والأمانة والكرم والتسامح والتعاون ومحبة الآخرين والحرص على منفعتهم والتواضع والتهذيب والرحمة والعدل..؟!

وقد مدحه الله تعالى بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ } (القلم: 4)

فنحن بقرار شخصي نختار أن نعكس جمال الإسلام في أفعالنا وسلوكاتنا ومعاملاتنا وبين أن نكون مصدر نفور لهم بتلك الأفعال، فمن سيحب الإسلام إن رأى تلك السلوكات السلبية التي تصدر من أهل الإسلام اليوم بجهل منهم؟!

جمال العقل

العقل البشري مميز عن سائر المخلوقات بحسنه وقدراته ومكنوناته، فللعقل البشري جمال خاص أنيق نافع يتميز به، وينعكس على الواقع قولا وفعلا. فمثلا هناك فرق بين أن تعمل وتدرس وتجتهد وتبدع شيئا جديدا لمجتمعك وعالمك وبين أن تكون عالة على الآخرين، فرق بين أن تبذل جهدا وتنتج وتتقن وبين أن تؤدي المطلوب بأقل القليل من الجهد فتكون فردا عاديا في المجتمع.

وفرق بين أن تكون متعلما وذا علم نافع تنمي قدرات عقلك وتستثمر إمكانات ذكائك في فائدة المجتمع وتنميته كبناء المصانع والمدارس والأبنية الجميلة والحدائق والطرق الحديثة.. وبين أن تكون جاهلا تقع في الكثير من الأخطاء والمشكلات نتيجة الجهل وتوقع الآخرين معك، فالصورة الجمالية مختلفة تماما.

فهناك فجوة بين من يقرأ ويتثقف ويزيد من معلوماته وقدراته المعرفية وبين من يضيع وقته بلا فائدة تذكر، {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} (الزمر:9)، فلماذا سبقنا الغرب والشرق اليوم، أليس بالعلم؟ فانظر مثلا لمن يخترع الأجهزة والآلات أليس له التفوق الحضاري اليوم؟ وانظر كذلك لمن يوظف قدرات عقله فيبني بيته بناء حسنا جميلا جذابا بدل أن يبنيه بناء ناقصا لا معالم جمال فيه؛ فلماذا لا تكون مدينتنا جميلة وأنيقة؟! فالإسلام دين الحس الجمالي حتى في العمارة والبناء، فهو دين عمارة الأرض.

تساؤلات على طريق الجمال

علينا أن نطرح على أنفسنا اليوم تساؤلات: لماذا ترى بلاد الغرب والشرق جميلة ومرتبة شوارعها ومزروعة بالأشجار والزهور، متقنة الأرصفة، مطلية الجسور، أبنيتها قمة في الإتقان والجمال، ومحلاتها التجارية منظمة نظيفة متقنة الصنع، أناسهم يتصفون بالدقة في المواعيد، واحترام النظام والترتيب وحقوق المواطنين الآخرين. لماذا حدائقهم تنتشر في مدنهم بشكل جميل متقن نظيف تعكس مدنيتهم ورقيهم العلمي والعمراني والحس الجمالي لديهم؛ لدرجة أنك تشتهي الجلوس فيها، ولو أخذت آلة التصوير معك لسادت الحيرة لديك بأي منظر تبدأ التصوير؟

الحقيقة أن الكثير من بلادنا العربية ما زالت تحتاج للكثير من الجهد لتصبح بهذا الشكل، والكثير يعتبر أن هذا دور الحكومات فحسب، ولكن الحقيقة أن للأفراد دورا في التغيير كتشجير مدينتهم أو حول بيوتهم وأماكن عملهم، وتحسين أبنيتهم وعمرانها والإبداع بها دون تبذير لا طائل منه، والمحافظة على نظافة مدننا وأناقتها، فأنت إما أن تكون إيجابيا تشعر أن هذا الوطن وطنك، أو أن تكون ذا تفكير سلبي تعتقد أن لا أمل في الإصلاح والتغيير وأن الأمل بعيد وأن الخطأ خطأ الآخرين فقط!

فلماذا لا تبدأ بنفسك وبما تستطيع، فكل إنسان مسؤول عن سلوكاته وسيحاسب يوم القيامة على أفعاله وإتقانه لعمله وحده، فلا تستطيع أن تقول لله تعالى إني وجدت قومي يرمون الأذى في الطريق فرميت مثلهم، أو وجدت الناس يكذبون ويسرقون أو يسرفون أو يغشون أو يسبون أو يحتالون… ففعلت مثلهم! فلم لا تكون أنت بداية التغيير؟ {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (الرعد:11). وقال -صلى الله عليه وسلم-: «أنا زعيم بيت في الجنة لمن حسن خلقه». فلم لا نكون نحن القدوة لأبنائنا وطلبتنا أو موظفينا؟ فمادمت في موقع مسؤولية وتتمنى التغير والأفضل لبلدك، فلماذا تنتظر التغيير أن يأتي من خارجك! فلا تحقرن من المعروف شيئا… فلنبدأ بتطبيق أخلاق الإسلام الجميلة في أنفسنا أولا لتنعكس في مجتمعاتنا، فالله تعالى جميل يحب الجمال.

____

المصدر: الوعي الإسلامي (بتصرف).

مواضيع ذات صلة