الانفصام الدعوي (2 /5).. مع النفس

الثقافة الإسلامية ومظاهر عبقريتها الإنسانية

د. محمد عطية متولي

أدوات الثقافة الإسلامية

حملت الثقافة الإسلامية في طياتها عوامل بقائها

لكل أمة على مدار التاريخ ثقافتها التي تميزها عن غيرها وتعبر عن خصوصيتها، وبهذه الثقافة تسهم في بناء صرح الحضارة الإنسانية أو في هدمه.

وأعظم مكون في الثقافة العربية هو الإسلام؛ ذلك الذي بلغ بها شأوا بعيدا، بل رفع آفاق الحضارة الإنسانية بأسرها مقاما عليا.

ونظرة واحدة على مبدأ قرآني تثبت صدق ذلك وهو قول الله تعالى {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} (الأنعام: 148)، هذا نداء قرآني لكل من يدعي ادعاء: هل تملك دليلا على صدقه؟ عندما تحول العلم من ظنون وأوهام لا تقوم على أساس ثابت من دليل نظري أو عملي إلى استخدام الأدلة والبراهين في إثبات الأشياء أو نفيها انطلق من عقاله وجال في آفاق الإنسان والكون من حوله وعاد باكتشافات عادت على الإنسانية بالخير إذا أحسن استغلالها.

وقد حملت الثقافة الإسلامية في طياتها عوامل بقائها، وهذا يتطلب منا حسن التعامل معها بعين بصيرة بالعصر خبيرة بهذا التراث الثري الذي سبق له أن قاد البشرية ردحا من الزمن قدم خلالها للإنسانية الحق والحكمة، ووجدت البشرية في ظلاله العدل والرحمة.

كما أنه ينبغي ألا تبقى الثقافة سلعة لا تجد لها سوقا إلا بين المثقفين يتبادلونها في أبراجهم العاجية، بل ينبغي أن يشاركوا الناس آلامهم وآمالهم، وأن يساعدوهم على الوصول إلى طموحاتهم وتجاوز عقبات الحياة، وإلا بقيت سلعة راكدة، مكانها عقول المثقفين وأرفف المكتبات.

وينبغي أن نتجه أولا إلى تراثنا الثقافي لنزيل ما فيه مما يتناقض مع الأصول والقيم التي قامت عليها الثقافة الإسلامية، وهذا واجب أهل الخبرة والدراية بالتراث وأغواره، وهي مهمة تتجدد بمرور الزمان.

وهذا بعض ما يمكن أن تقدمه الثقافة الإسلامية للإنسانية:

1- السلام: تنظر الثقافة الإسلامية إلى بني آدم على أنهم إخوة، فكلهم لآدم، والإنسان إما أخ لك في الدين أو شريك لك في الإنسانية، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا  إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ  إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (الحجرات:13).

والأخ لا يتعامل مع أخيه إلا بالإحسان ورد العدوان بأقل الخسائر للطرفين، وتعتبر الثقافة الإسلامية أن السلم والسلام جوهر عقيدة التوحيد وأن العلاقة بينهما وطيدة من وجوه:

الوجه الأول: أنهما من جذر لغوي واحد، وأبرز معاني السلم، السلام من حيث إنه يؤدي إلى السلامة من الآفات بما يحقق من سكينة وطمأنينة للإنسان.

الوجه الثاني: أن أحد أسماء الله الحسنى «السلام» وهو اسم يشيع السلام والأمن والطمأنينة في جنبات الوجود وفي قلب المؤمن.

الوجه الثالث: أن المسلم لا يكون مسلما إلا إذا تجسد إسلامه في كفالة السلم وإشاعته له ولغيره من منطلق قوله -صلى الله عليه وسلم-: “المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم” (سنن النسائي).

وعلى ذلك فالثقافة الإسلامية تسعى إلى تكوين الإنسان الصالح المصلح المحب للخير الساعي إليه الكاره للشر الذي يدفعه بكل ما يملك من قوة والذي يتمكن من التعايش السلمي مع عامة الناس على اختلاف أديانهم ولغاتهم وألوانهم وأجناسهم وأوطانهم، إنها تسعى لتكوين الإنسان الإيجابي الذي يقلب الجوع إلى شبع ويحول الجهل إلى علم ويشيع جوا من الطمأنينة والسكينة بدلا من الخوف والقلق..

(ثقافة السلام بين التأصيل والتحصيل د. محمد الناصري، بتصرف). وهذا يتطلب توفير القوة التي تحمي الوادعين في ديارهم وتمكنهم من العمل البناء وهم في ظلالها.

2- ثقافة الحياة: تعتبر الثقافة الإسلامية مساعدة الفرد على الحياة وتقديم الدعم والمعونة المادية والمعنوية له بمثابة إحياء للإنسانية بأسرها مهما بلغ تعدادها؛ منطلقة في ذلك من قوله تعالى {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيْعًا} (المائدة:32) وليس ذلك فحسب بل تكافئ من عمر الأرض التي لا مالك لها بتمليكها له «من أحيا أرضا مواتا فهي له» (موطأ مالك) وعن جابر رفعه: «من أحيا أرضا ميتة، فله فيها أجر» (مسند أحمد) بل تجعل من إنقاذ حياة أحد الكائنات الحية سببا لمغفرة كبائر الذنوب، فقد سقت بغيٌ كلبا فغفر الله لها، بل تحث على عمارة الدنيا لآخر لحظة فيها، قال -صلى الله عليه وسلم-: “إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليفعل”. انظر إلى ثقافة ترعى الحياة وتحوطها بسياج يعظم حرمتها ويجعل الاعتداء عليها جرما فظيعا {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} (المائدة: 32) وجعلت جزاء المعتدي من جنس عمله، وسمت هذا الجزاء الوفاق حياة قال تعالى {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: 179). ثقافة تحافظ على الحياة ليس في حدها الأدنى من توفير الغذاء والدواء والكساء فحسب، بل في آفاقها السامية فاعتنت بما يحافظ على البدن والروح والعقل والقلب والظاهر والباطن.

3- ثقافة الشراكة: تعاملت الثقافة الإسلامية مع الثقافات الأخرى تعامل البصير بما عنده الواثق بأن لديه ما يقدمه للعالمين المتطلع إلى الشراكة مع غيره في سبيل رقي الإنسانية وتقدمها، فقد «استخلص المسلمون علوم الهند والفرس والإغريق فحفظوها وعدلوها وزادوا عليها زيادات لا تحصى في الطب والصيدلة والفلك والجغرافية والعلوم والرياضة وغيرها، وأقاموا المراكز الثقافية في الأندلس وغرناطة التي أمدت أوروبا بزاد النهضة الحديثة» (دراسات في الثقافة الإسلامية لمجموعة من الكتاب). وقد قدمت هذه الثقافة أعظم نموذج للتعاون بين بني البشر على اختلاف أعراقهم حيث “تضافر على نشرها خالد بن الوليد المكي وبلال الحبشي وسلمان الفارسي وصهيب الرومي وطارق بن زياد المغربي ومحمود الغزنوي وطغرل السلجوقي وصلاح الدين الكردي ومحمد الفاتح التركي، وساهم في بنائها محمد بن إدريس الشافعي القرشي ومحمد بن إسماعيل البخاري وابن جرير الطبري وابن ماجه القزويني وابن رشد الأندلسي” (دراسات في الثقافة الإسلامية لمجموعة من الكتاب).

4- ثقافة الجمال: وكما اعتنت الثقافة الإسلامية بمبدأ الشراكة بين بني البشر وحثتهم على المحافظة على الحياة في صورها العليا والدنيا اهتمت كذلك بالجمال مستندة في ذلك إلى قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: “إن الله جميل يحب الجمال” (صحيح مسلم). ولمحبته سبحانه للجمال أنزل على عباده لباسا وزينة تجمل ظواهرهم وتقوى تجمل بواطنهم فقال: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا  وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} (الأعراف: 26). وقال في أهل الجنة {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا * وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا} (الإنسان: 11-12). فجمل وجوههم بالنضرة وبواطنهم بالسرور وأبدانهم بالحرير، وهو سبحانه كما يحب الجمال في الأقوال والأفعال واللباس والهيأة يبغض القبيح من الأقوال والأفعال والثياب والهيأة، فيبغض القبيح وأهله ويحب الجمال وأهله.. ونلحظ أن الجمال الذي تقدمه الثقافة الإسلامية للعالمين هو جمال يفيض من باطن الإنسان على ظاهره ولا يتوقف عند حدود البدن فحسب؛ فما جدوى الملابس الأنيقة والبيوت العصرية وسلوك ساكنيها يتسم بالهمجية ويخلو من الذوق.

وما زالت الثقافة الإسلامية قادرة على تقديم القيم والمناهج التي تقود العالم إلى الحق والخير والجمال، ومجال عملها الإنسان تزكي نفسه وتنمي مواهبه وتضبط علاقته مع غيره من بني آدم ومع الكون من حوله.

—–

* المصدر: الوعي الإسلامي.

 

مواضيع ذات صلة