الانفصام الدعوي (2 /5).. مع النفس

براءة الإسلام من العنف والإرهاب

د. إسحاق السعدي*

تواصل إنساني

التسامح قيمة إسلامية جوهرية

لقد حدث خلط فاضح ولبس خطير بين مفاهيم الإسلام ومفاهيم الثقافة الغربية وبخاصة في مفهوم “الإرهاب”. ولم يكن ذلك نتيجة الصراع الحضاري والفراغ العلمي والفكري في حاضر الأمة الإسلامية فحسب، بل يقف وراء ذلك بعض القوى المعادية للإسلام وثقافته وحضارته وأمجاد أمته وتاريخها المُشرق بالإسهام الحضاري والإنجاز الثقافي المبدع.

لقد أُلصقت عن سبق إصرار بعض المفاهيم الشائنة والمستهجنة التي ترسبت في البيئة الغربية وتجذرت في تاريخها، وباتت رموزًا ومصطلحات للأفعال القبيحة الهمجية والشريرة، ألصقت تلك المفاهيم البغيضة بالإسلام وأسقطت على بعض مفاهيمه -كمفهوم “الجهاد” و”الدعوة”- إمعانًا في تشويه صورة الإسلام، واستنزالُ أمته إلى حلبة صراع مفتعل ومواجهة مدروسة بغية النيل منها، وإحلال ثقافة العولمة في نموذجها المغاير لحقائق الأمة في قيمها الخلقية ومبادئها الإيمانية ومنطلقاتها وغاياتها، بل المناقض في كثير من الأحوال لأسسها التي قامت عليها، وأهدافها التي تضطلع بها وتسعى لتحقيقها وفقًا لرسالتها في الحياة. إن الموضوع جد طويل، بيد أنني سأركز الحديث هنا عن حقيقتين:

سماحة الإسلام

كون الإسلام دينًا سماويًّا إلهيًّا ربانيًّا، ينبذ العنف والإرهاب، ويأمر بالرفق والرحمة والعدل والإحسان، شأنه في ذلك شأن الأديان السماوية قبل أن يطرأ عليها التحريف والتبديل، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (الأنبياء:107)، وقال: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (النحل:90).. هذه حقيقة نابعة من جوهر الإسلام ومثله العليا، وصفة من صفاته، وسمة لازمة لعقيدته وشريعته وأخلاقه ومبادئه وقيمه وهديه وتعاليمه وآدابه، وهي كذلك حقيقة تاريخية انطلق منها حمَلة الإسلام في شتى مجالات الحياة، وفي علاقاتهم بالآخر أفرادًا وجماعات وأممًا وشعوبًا، بل وحتى مع موجودات الحياة وعناصر البيئة من حيوان ونبات وطير وحيتان وأنهار وبحار وهواء وغابات وأحراش، ومع منارات الأرض ومعالم الطبيعة ومكوناتها، وكانوا منضبطين في التعامل مع ذلك كله بضوابط الإسلام الشرعية والعقلية والمنطقية، بما حقق لها الانسجام مع نواميس الكون وطبائع الأشياء وسنن الفطرة. سواء في فتوحاتهم، أو في تعاملاتهم التجارية مع الشعوب المختلفة، أو حين سياحتهم وتنقلاتهم ورحلاتهم في فجاج الأرض وأقطارها وأقاليمها القريبة منهم والبعيدة، ونحو ذلك من المظاهر التي صاحبت انتشار الإسلام وظهوره وسيادته.

هذا هو المسار العام لتاريخ الإسلام ونشوء حضارته، والطابع المميز لأمة الإسلام وتاريخها سلمًا وحربًا دعوة وجهادًا. ولم يَندّ عن ذلك إلا حالات شاذة وقليلة لا يتأتى عليها القياس لا في الماضي ولا في الحاضر، ولا يصحّ أبدًا أن يستدل بها -في عرف المنصفين وذوي الألباب من مختلف الديانات والثقافات- بما يعمد إليه نفر نكرة عن الإسلام وثقافته، من الجهلة والموتورين والمحبطين واليائسين وأصحاب السوابق الإجرامية والأفكار الشاذة المنحرفة الهدّامة، الذين يحسبون على الإسلام وثقافته -من المنظور الغربي- صَلَفًا واعتسافًا، في حين إنهم كانوا دومًا -وسيظلون- أداة بيد القوى المعادية للإسلام في القديم والحديث شعروا بذلك أم لم يشعروا، أدركوا ذلك بطريق مباشر أو غير مباشر أم لم يدركوا.

وإذا كان الإسلام في حقيقته ينبذ العنف والإرهاب وكل أشكال القسوة والظلم والعدوان، ويحث على الرفق والتسامح ويأمر بالعدل والإحسان -وهذه الحقيقة من المسلّمات المستقرة في عقل كل مسلم ووجدانه- فإن ما يشاع عن الإرهاب وعلاقته بالإسلام وأمته قد ساعد عليه عاملان مهمان:

الأول: كون الإرهاب قد ألصق -ظلمًا وعدوانًا- بالإسلام في الوقت الراهن عبر وسائل الإعلام الغربية المختلفة، وبخاصة تلك الوسائل الموجهة لخدمة الأصوليات الدينية والعنصرية والصهيونية، ومما زاد الطين بلة صلة تلك الوسائل بأصحاب القرار السياسي، وسعة نفوذها الفكري والسياسي والاقتصادي.

والثاني: ظهور بعض الجماعات المتطرفة وانتهاجها أساليب العنف والعدوان، والبحث عن مرجعية فقهية يستندون إليها ويفسرون بها نصوص الكتاب والسنة، متجاهلين المناهج العلمية التي أصّلها علماء الأمة وما تقتضيه من علم شرعي ومشروعية على مستوى قيادات الأمة الفكرية والسياسية، ومصالحها العليا وظروفها التاريخية وواقعها الثقافي والحضاري. ومما يؤسف له ظهور أنصاف المثقفين والمتعلمين الذين أقحموا أنفسهم في التنظير والتدليل بما يذكي نار الفتنة ويحرج الأمة، حتى بلغ الأمر ببعض الكتاب أن يكتب مقالاً بعنوان “الإسلام دين الإرهاب”، مؤصّلاً لما يعنيه لفظ “الإرهاب” في اللغة العربية الإسلامية، متناسيًا أو متجاهلاً ما يحدثه اتحاد اللفظ مع اختلاف المضامين، ناهيك عن الخلفيات والإيحاءات والتحرشات التي يعاني منها واقع الأمة الإسلامية في صراعها وأزمتها الحضارية في سياق أصبحت المصطلحات جزءًا من ذلك الصراع وتلك الأزمة.

الإرهاب مصطلح غربي

كون الإرهاب ظاهرة غربية في جذورها وتطوّراتها التاريخية، وفي منطلقاتها وأهدافها وغاياتها، وكذلك في وسائلها وأساليبها، وهذا ما تؤكده الدراسات والبحوث العلمية. إن المتأمل في مفهوم الإرهاب كطرح غربي يقف على الآتي:

أولاً: قدم هذا المفهوم كممارسة حدثت وتحدث على مدار التاريخ الغربي منذ العهود الرومانية وحتى العصر الحديث إلا ما ندر. فقد استخدم حكام الرومان من أمثال (Tiberius 14-37) و(Aligula 37-41) العنفَ ومصادرة الممتلكات والإعدام كوسائل لإخضاع المعارضين لحكمهم. كذلك الجماعات التي نشطت في التاريخ الأوربي وانتهجت القرصنة والإرهاب، مثل جماعة “الفايكنج” التي نشطت ما بين القرن الثامن والحادي عشر للميلاد، وبثت الإرهاب والرعب في مناطق واسعة من أوربا. ثم جاءت الحروب الصليبية التي لم يشهد التاريخ كعدوانيتها، ومع ذلك كانت تلك العدوانية مقبولة في ثقافة الغرب لمدة بلغت من الطول حدًّا لا يسمح لها بالاختفاء على حد تعبير “كارفين رايلي”. ثم محاكم التفتيش التي قام بها الأسبان ضد الأقليات الدينية والمسلمين بخاصة كأهم المحطات الرئيسية في تاريخ الثقافة الغربية، ناهيك عمّا أحدثته الحروب الصليبية في بيت المقدس وما حوله من الفظائع التي يندى لها الجبين في تاريخ العالم الغربي الديني.

وعلى نحو من ذلك، مارست الدول الحديثة في الغرب الإرهاب كخطة سياسية للدولة، كدولة “هتلر” النازية في ألمانيا، وحكم “ستالين” في الاتحاد السوفيتي، حيث تمت ممارسة إرهاب الدولة تحت غطاء “أيديولوجي” لتحقيق مآرب سياسية واقتصادية وثقافية.

وعلى مستوى الجماعات والمنظمات، فإن التاريخ الحديث للغرب شهد الكثير من ذلك، مثل جماعة “بادر ماينهوف الألمانية”، ومنظمة “الألوية الحمراء الإيطالية”، و”الجيش الجمهوري الإيرلندي”، وغيرها كثير.

ثانيًا: والأنكى من ذلك أن يرتكز العنف والإرهاب على أصوليات دينية ونصوص مقدسة، يقول “كارفين رايلي”: “لقد اكتسبنا القدرة قبل الحروب الصليبية بعهد طويل على تبرير أشد أفعالنا بربرية؛ باسم الله أو باسم الحضارة المسيحية أو باسم العالم الحر، وهي الصورة العلمانية لهذه الحضارة. فالثورة العبرانية حاملة بالفظائع التي أصر “شعب الله المختار” على أنها ترتكب باسم الرب، وقلما نجا المصريون أو القبائل الكافرة من انتقام “الرب الغيور”، وقد ظل المسيحيون على إيمانهم بهذا المنتقم. وفي نهاية القرن الرابع ردد كثير من المسيحيين في “روما” دعوة “أمبروز” للدفاع عن “بلدهم” ضد البرابرة منعدمي الإنسانية الذين لم يكونوا سوى “كلاب” على حد تعبير أسقف آخر”.

مما يؤسف له أن هذه الأصوليات تطفح في العهد الراهن على سطح السياسة الغربية، وتتنامى الأصوليات الأخرى بدعم منها أو تقليدًا لها.

ثالثًا: مما يلاحظ على تاريخ الغرب أن ثقافته ترتكز على محفز حضاري يتمثل في تصور عدو متربص يتأهب بين الحين والآخر للانقضاض عليه ويستهدف منجزاته الحضارية، كي يقوم بنسفها وإرهاب شعوبه وتصفية قادته وزعمائه. وبعمل ماكر لئيم من القوى المعادية للإسلام، استغل الوضع الراهن ولا سيما بعد سقوط الشيوعية وما أحدثه ذلك من فراغ في تلك الجدلية الفكرية التاريخية، فدفع بالإسلام تحت مسمى “الخطر القادم”، وهبَّ المغرضون والناقمون والمأجورون للتنظير لذلك، والتدليل عليه بما يرتكبه بعض الحمقى والموتورين والمغفلين ممن ينتسب للإسلام، وتورط في انتهاج الإرهاب واستحلاله ضد الآخرين وضد أبناء ملته، وتطورت الأوضاع تحت أنشطة مشبوهة وتحت مسميات مختلفة ومسوغات ملفقة يبرأ منها الإسلام وأمته، حتى كانت قاصمة الظهر (أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001)، وإذا بالمواجهة مع الإسلام تحت مسمى “الحرب على الإرهاب” واقع مفروض لا مفر منه، وإذا بالأمة الإسلامية تُستنـزل في ميدان فرض عليها وبمنطق المتنفذ المتحفز للأخذ بالثأر المخدوش في كرامته وكبريائه. وختامًا أودّ التنبيه إلى النقاط الآتية:

1- النظر في المفاهيم والمصطلحات التي توظف في المعترك الحضاري أو يُسوَّق لها سياسيًّا، كمفهوم العنف والإرهاب، بمنهجية تختلف عما اعتاده الباحثون المسلمون من تأصيل المفاهيم المثارة في الساحة الفكرية من خلال بحثها في اللغة العربية، ثم في القرآن الكريم، ثم في السنة النبوية، وما تواضع عليه العلماء المسلمون في صدر الإسلام وتاريخه الماضي… فعلى أهمية هذه المنهجية في التأصيل، إلا أنه ينبغي اعتماد المنهجية الملائمة لمثل هذه المفاهيم والمصطلحات، بحيث تعتمد على استقراء تلك المفاهيم في الساحة الفكرية، وفي الأوساط الإعلامية والسياسية، والمؤسسات العلمية الغربية والمنظمات والهيئات الرسمية وغير الرسمية، والغوص في دلالاتها من خلال البيئات التي نشأت وتطورت فيها، ولها خلفياتها الدينية والثقافية والتاريخية في سياق الحضارة الغربية، ثم مقارنة تلك المعاني والمفاهيم والدلالات بما يقابلها في الحضارة الإسلامية وثقافتها، لئلا يقع المسلمون في شراك اختلاف المفاهيم والمضامين والدلالات.

على ذلك، فإن المتتبع لمعنى الإرهاب -بخاصة في الثقافة الغربية سواء في القديم أو الحديث- يجد أنه يختلف عن معنى الإرهاب الوارد في القرآن الكريم والسنة النبوية والمعاني المعهودة في الثقافة الإسلامية، وأن ما يقابله في الحضارة الإسلامية هو الإجرام المركب من “الفساد في الأرض، والحِرابة، والظلم والعدوان”، وكل هذا يحرمه الإسلام ويجرمه أشد التجريم ويفرض على مرتكبيه عقوبات صارمة.

2- أهمية الإنصاف والنزاهة والإيجابية في النظر لتاريخ الأمم والشعوب، وعدم التوافر على صفحات دون أخرى سواء السلبية أو الإيجابية. فإن النظرة الشمولية الموضوعية العلمية المنهجية النزيهة جديرة بالإنصاف والتعقل، و”الحكم على الشيء فرع عن تصوره”.

الأهم من ذلك العمل الإيجابي على إبراز القدر المشترك بين الأمم والشعوب في ثقافاتها وآدابها وركائزها الإنسانية النبيلة والسامية، ليتأتى للبشر العيش بسلام وتعاون في ظل نظام عالمي متحد في إطاره الحضاري، متنوع في ثقافاته، يحفظ لكل أمة ذاتيتها المتميزة بعقيدتها وشريعتها وآدابها وأخلاقياتها وتراثها الحضاري الخاص، ويوحد بينها فيما تفرضه حضارة العصر ومنجزاتها التي هي في الحقيقة موروث بشري عام أسهمت فيه الأمم والحضارات وقامت بالإسهام الحضاري للإسلام وأمته -الذي يعترف به المنصفون-أنْ يؤهل المسلمين للفاعلية الحضارية من جديد، ويؤكد على أحقيتهم في الملكية الفكرية، وأنهم في صميم التاريخ الحضاري وفي بنيته الأساس، وليسوا شعوبًا خاملة عاشت وتعيش على هامش التاريخ والحضارة.

3- إذا كان هذا المقال قد ركز على حقيقتين مهمتين هما: سماحة الإسلام وبراءته من الإرهاب، والإرهاب مصطلح غربي نشأ في الغرب وتطور فيه، فإن القصد من ذلك إضاءة لما غيبته التيارات المناوئة للإسلام وأمته، وليس القصد وصم الغرب بالإرهاب، إذ جاءت الحضارة الغربية بمعطيات حضارية، وارتكزت على قيم إنسانية أفادت الإنسان ونهضت به، ولها تطبيقاتها الديمقراطية وإيجابياتها المعتبرة في مجال حقوق الإنسان ورعايتها وتحقيق العدالة من خلال إجراءات قانونية وأنظمة مدنية راقية. بيد أن الخلل يكمن في المتآمرين على السلام من أصحاب المصالح الشخصية والمطامع الذاتية التي لا تقنع بالمشروع ولا تعترف بالآخر. ولكن لا يحيق المكر السيئ إلا بأهله.

حمى الله الإسلام وحفظ المسلمين ووفقهم لما فيه صلاح أنفسهم وصلاح البشر.

—–

* كلية الشريعة، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية / المملكة العربية السعودية.

** المصدر: مجلة حراء.

مواضيع ذات صلة