الانفصام الدعوي (2 /5).. مع النفس

حرية الرأي في الحضارة الإسلامية.. ضوابط عامة

د. راغب السرجاني

حرية الرأي في الحضارة الإسلامية تعني حقَّ الفرد في اختيار الرأي الذي يراه في أمر من الأمور العامَّة أو الخاصَّة، وإبداء هذا الرأي وإسماعه للآخرين، وهي حقُّ الشخص في التعبير عن أفكاره ومشاعره باختياره وإرادته؛ ما لم يكن في ذلك اعتداءٌ على حقِّ الآخرين.

حرية الرأي في الإسلام

حرية الرأي حق مكفول للفرد في الإسلام

حرية الرأي من حقوق المسلم

حرية الرأي في الحضارة الإسلامية حقٌّ مكفولٌ للمسلم وثابتٌ له؛ لأن الشريعة الإسلامية أَقَرَّتْهُ له، وما أَقَرَّهُ الشرع الإسلامي للفرد لا يملك أحدٌ نَقْضَهُ أو سلبه منه أو إنكاره عليه، بل إن حُرِّيَّة الرأي واجب على المسلم لا يجوز أن يتخلَّى عنه؛ لأن الله تعالى أوجب عليه النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يمكن القيام بهذه الواجبات الشرعية ما لم يتمتَّع المسلم بحقِّ إبداء الرأي وحريته فيه، فكانت حرية الرأي له وسيلة إلى القيام بهذه الواجبات، وما لا يَتَأَتَّى الواجب إلاَّ به فهو واجب.

وقد أجاز الإسلام حرية الرأي في كافَّة الأمور الدنيوية؛ مثل الأمور العامَّة والاجتماعيَّة، وفي مثال يُجَسِّد ذلك، ما ظهر من سعد بن معاذ وسعد بن عبادة -رضى الله عنهما- حين استشارهما الرسول في مهادنة غطفان على ثلث ثمار المدينة حتى يخرجوا من التحالف يوم غزوة الأَحْزَاب.

عن أبي هريرة قال: جاء الحارث الغطفاني إلى النبي فقال: يا محمد، شاطرنا تمر المدينة. قال: “حَتَّى أَسْتَأْمِرَ السُّعُودَ”. فبعث إلى سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، وسعد بن الربيع، وسعد بن خيثمة، وسعد بن مسعود ، فقال: “إِنِّي قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ الْعَرَبَ قَدْ رَمَتْكُمْ عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ، وَأَنَّ الْـحَارِثَ يَسْأَلُكُمْ أَنْ تُشَاطِرُوهُ تَمْرَ الْـمَدِينَةِ، فَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَدْفَعُوا إِلَيْهِ عَامَكُمْ هَذَا حَتَّى تَنْظُرُوا فِي أَمْرِكُمْ بَعْدُ”. قالوا: يا رسول الله، أوحيٌ من السماء فالتسليم لأمر الله، أو عن رأيك أو هواك، فرأينا تبع لهواك ورأيك؟ فإن كنت إنما تريد الإبقاء علينا؛ فوالله! لقد رأيتنا وإياهم على سواء ما ينالون منا تمرة إلا بشرى أو قرى.

النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

من النصوص التي وردت في النصيحة وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قول الله تعالى: ﴿وَالْـمُؤْمِنُونَ وَالْـمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْـمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْـمُنْكَرِ﴾ [التوبة: 71]، وقول الرسول: “الدِّينُ النَّصِيحَةُ”. قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: “للهِ وَلِكِتَابِهِ، وَلِرَسُولِهِ، وَلأَئِمَّةِ الْـمُسْلِمِينَ، وَعَامَّتِهِمْ”.

قال الإمام النووي في شرحه لهذا الحديث: “وأمَّا النصيحة لأئمة المسلمين فمعاونتهم على الحقِّ، وطاعتهم فيه، وأمرهم به، ونهيهم عن مخالفته، وتذكيرهم برفق، وإعلامهم بما غفلوا عنه ولم يبلغهم من حقوق المسلمين”.

كما قال الرسول: “لا يَمْنَعَنَّ رَجُلاً هَيْبَةُ النَّاسِ أَنْ يَقُولَ بِحَقٍّ إِذَا عَلِمَهُ”، وقال أيضًا: “أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ”.

وواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يستلزم تمتُّعُهُمْ بحرِّيَّة الرأي؛ وحيث قد أمرهم الله بهذا الواجب، فهذا يعني مَنْحهم حقَّ إبداء رأيهم فيما يَرَوْنَه معروفًا أو منكرًا، وفيما يأمرون به وينهون عنه، وكذلك واجب المشاورة على ولي الأمر يستلزم تمتُّع مَنْ يُشَاورهم بحرية إبداء آرائهم.

وقد طُبِّقَتْ حرِّيَّة الرأي على طُولِ التاريخ الإسلامي تطبيقًا رائعًا؛ فهذا الصحابي الجليل الحباب بن المنذر يُبْدِي رأيه الشخصي في موقف المسلمين في غزوة بَدْر على غير ما كان قد رآه النبي ، فيأخذ النبي برأيه، كما أبدى بعض الصحابة رأيهم في حادثة الإفك، وكان منهم مَنْ أشار على النبي بتطليق زوجته السيدة عائشة رضي الله عنها، إلاَّ أن القرآن بَرَّأَهَا، وغير ذلك من المواقف الكثيرة التي كان الصحابة ومن جاءوا بعدهم يُبْدُونَ فيها آراءهم.

هذا، وإذا كانت حُرِّيَّة الرأي والتعبير عنه وإبداؤه من الحقوق المُقَرَّرَة في الشريعة الإسلامية، فلا يجوز إيذاء الشخص لقيامه بإبداء رأيه؛ لأن الشرع أَذِنَ له بذلك، وقد رَدَّتِ امرأةٌ على عمر بن الخطاب وهو يخطب في المسجد في مسألة المُهُورِ، فلم يمنعها، بل اعترف بأن الصواب معها، وقال قولته: “أصابت امرأة وأخطأ عمر”.

الأمانة والصدق في إبداء الرأي

وممَّا ينبغي للمسلم وهو يستعمل حقَّه في إبداء رأيه أن يتوخَّى في ذلك الأمانة والصدق؛ فيقول ما يراه حقًّا، وإن كان هذا الحقُّ أمرًا صعبًا عليه؛ لأن الغرض من حرية الرأي إظهار الحقِّ والصواب وإفادة السامع به، وليس الغرض منه التمويه وإخفاء الحقيقة، وأن يَقْصِدَ بإعلام رأيه إرادة الخير، وأن لا يبغي برأيه ولا بإعلانه الرياء أو السمعة، أو التشويش على المُحِقِّ، أو إلباس الحقِّ بالباطل، أو بخس الناس حقوقهم، أو تكبير سيئات ولاة الأمور، وتصغير حسناتهم، وتصغير شأنهم، والتشهير بهم، وإثارة الناس عليهم؛ للوصول إلى مغنم. وعلى هذا تكون حرية الرأي كما أَقَرَّتْهَا الشريعة الإسلامية، وهي بذلك وسيلة مهمَّة من وسائل التقدُّم الحضاري، كما أنها وسيلة للتعبير عن الذات.

___

* المصدر: الألوكة.

مواضيع ذات صلة