الانفصام الدعوي (2 /5).. مع النفس

من خصائص الإسلام العمل على تحرير العبيد

الشيخ أبو الوفاء محمد درويش

قضت الظروف القاسية في أحقاب مديدة من الدهر، على بعض النفوس الإنسانية أن تتعذب، وأن تذوق من ألوان النكال ما تقشعر لهوله الجلود، وتشيب نواصي

قطع القيود

حرص الإسلام على كسر القيود وتحرير العبيد في تشريعاته

الولدان. كان ذلك يوم كان السيد حراً في عبده يقتله إن شاء، ويستحييه إن أراد؛ ويصب عليه من سياط العذاب إن استحياه ما يمزق جلده؛ ويجعله يؤثر الموت المريح، على حياة ملؤها الألم والعذاب. سادت هذه الحال جميع الأمم والشعوب مهما يكن الدين الذي كانت تدينه والشريعة التي تخضع لها.

فلما جاء الإسلام دين الرحمة والعدالة، دين المروءة والإنسانية، دين الحرية والكرامة، تبدلت الحال غير الحال وحلت الرحمة محل القسوة، ونزلت العدالة مكان العسف والظلم والطغيان.

اعترف الإسلام بالكرامة الإنسانية، وامتن بها على الإنسان، قال الله تعالى {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا} [الإسراء: 70].

ولا جرم أن من الكرامة أن يكون الإنسان حراً طليقا، ينعم بحريته التي فطره الله عليها، ويغدو ويروح إلى حيث يطيب له الغدو والرواح، ويأتي من الأمر ما يشاء ويدع ما يشاء، بغير أن يكون عليه مسيطر ولا رقيب، ما دام لا يعتدي على حرية غيره.

ولقد قال أحد الملهمين أو المحدثين من هذه الأمة الإسلامية الخيرة، وهو الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يخاطب أميراً من أمرائه على أكبر إمارة من الإمارات التي بسط عليها الإسلام سلطانه ورفع عليها رايته، وهو عمرو بن العاص أمير مصر حيث شكاه أحد القبط: “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟”.

ولكن هناك حالات إذا تلبس بها الإنسان أهدر الإسلام كرامته؛ وأهدر حريته، وأهدر ما له، بل وأهدر حياته أيضًا.

وذلك إذا وقف في سبيل الدعوة الإسلامية؛ وحاول أن يصد عن سبيل الله، فأباح الله حينئذ قتاله وقتله وأسره بعتوِّه وعدوانه. قال تعالى {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ * فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 190، 192]وقال تعالى {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد: 4].

رأى الله أن هذه الأنفس التي تريد أن تعبث بحرية غيرها، وأن تقف في وجه الدعوة الإسلامية السلمية البريئة، وأن تصد عن سبيل الله، وأن تبغيها عوجاً، جديرة ألا تستمتع بحريتها، وأن تهدر كرامتها، جزاء وفاقا، فأذن الله في أسرها وأباح استرقاقها بما اعتدت على حرية غيرها.

كان الاسترقاق قبل الإسلام فوضى بغير نظام؛ يكفي أن تغير قبيلة قوية بغياً وعدواً على قبيلة ضعيفة وادعة هادئة مطمئنة في ديارها، فتسبي رجالها ونساءها وولدانها ومالها، وتتصرف في كل أولئك تصرف المالك فيما يملك، من حيث لا رادع، ولا زاجر ولا رقيب. يكفي أن يلقى رجل قوي رجلاً ضعيفاً أو فتاةً لا حول لها ولا قوة؛ أو وليداً بعيداً عن أبويه فيشد وثاقه ويعرضه للبيع كما يعرض المتاع.

ولكن الإسلام الذي جاء بالهدى والنور، والعدل والإحسان، والبر والقسط والخير والحق، نظم الرق، وضيق دائرة الاسترقاق ووضع أساسا للقضاء عليه.

أول ما بدأ به من ذلك أن حرم الاسترقاق من طريق الغارة الظالمة على الوادعين الآمنين، ومن طريق الاختطاف وشد الوثاق، قال عليه الصلاة والسلام فيما يروي عن ربه: قال الله تعالى “ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة، ومن كنت خصمه خصمته: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حراً ثم أكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره”.

وجعل الاسترقاق محصوراً في دائرة ضيقة جداً، وهي الأسر في الجهاد أي الحرب الشرعية التي يراد بها إعلاء كلمة الله تعالى.

وكل أسر من غير هذه السبيل باطل محرم.

ثم رغب في عتق الأرقاء وحض عليه وجعله من أعظم القرب، قال تعالى {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد: 11 – 16].

وقال عليه الصلاة والسلام “أيما رجل أعتق امرأ مسلماً استنقذ الله بكل عضو منه عضواً من النار” وقال عليه الصلاة والسلام “أيما رجل كانت له جارية أدبها فأحسن تأديبها، وعلمها فأحسن تعليمها، وأعتقها وتزوجها فله أجران”.

وشرع المكاتبة وهي أن يشتري الرقيق نفسه من مالكه بحال يؤديه إليه نجوما.

وقد رغب القرآن الكريم فيها، وحض على المعونة عليها. قال تعالى {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [النور: 33].

وشرع نظام الفداء بالأسرى. وذلك أن يسترد الكفار أسراهم في مقابل ردهم أسرى المسلمين، أو في مقابل مال يدفعونه لهم؛ وجعل الأمة التي تلد من سيدها غير خاضعة لنظام الرق فلا تباع ولا توهب ولا تورث وتصبح بعد موته حرة. قال عليه الصلاة والسلام: “أيما وليدة ولدت من سيدها فإنه لا يبيعها ولا يهبها، ولا يورثها وهو يستمتع بها، فإذا مات فهي حرة”.

وكان عليه الصلاة والسلام يأمر بالعتق في ظروف خاصة تقربا إلى الله تعالى. روى البخاري عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت: “كنا نؤمر عند الكسوف بالعتاقة”.

وإذا لاحت بارقة من جانب الحرية لعبد كانت سببا في عتقه فلو أن لامرئ نصيباً في عبد مشترك بينه وبين غيره، فأعتق نصيبه، عتق العبد كله من ماله، إن كان له مال، قال عليه الصلاة والسلام “من أعتق نصيباً أو شقيصاً (الشقيص: النصيب) في مملوك فخلاصه عليه في ماله؛ إن كان له مال، وإلا قوم عليه فاستسعى به غير مشقوق عليه” وجعل عليه الصلاة والسلام المثلة بالعبد سبيلا إلى عتقه فقال: “من مثل بعبد عتق عليه”.

وشرع الإسلام العتق في الكفارات؛ فجعل كفارة للقتل الخطأ؛ قال تعالى {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 92].

وشرع العتق كفارة للظهار، قال تعالى {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة: 3].

وشرع كفارة للفطر العمد في رمضان. فلقد كان أول ما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عنه من جاء ليستفتيه فيمن أفطر عمداً في رمضان أن قال له “أتجد ما تحرر به رقبة”.

وشرع العتق كفارة لليمين على التخيير. قال تعالى {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 89].

وقد وضع الإسلام قواعد لمعاملة الرقيق بالرفق والحسنى. قال عليه الصلاة والسلام “إن إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم ما يغلبهم فأعينوهم” وقال عليه الصلاة والسلام “لا يقل أحدكم عبدي، أمتي؛ وليقل فتاي وفتاتي وغلامي”. وقال عليه الصلاة والسلام “إذا أتى أحدكم خادمه بطعام فإن لم يجلسه معه فليناوله لقمة أو لقمتين أو أكلة أو أكلتين فإنه ولي علاجه”.

هذه النصوص تقنعك إن كنت ممن يؤثرون الإنصاف بأن الإسلام أول من عمل على تحرير الرقيق، وأول من أمر بالإحسان إليه.

ولا جرم أن هذا التشريع يفضي إلى القضاء على الرقيق شيئاً فشيئاً حتى لا يبقى منه شيء وإذا علمت أن الإسلام جعل عتق الرقاب مصرفا من مصارف الزكاة حيث يقول {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 60] تبين لك أن الإسلام كان يسير في هذا السبيل بخطى سريعة إبقاء على الإنسانية وتكريما لها.

وإن المعاملة التي أمر الإسلام أن يعامل بها الرقيق تجعل كثيرا من الأحرار يتمنى لو أنه كان رقيقاً يرتع في ظلال سيده مكفى المئونة، خفيف الظهر، ولا يحمل من أوقار الحياة وتكاليفها شيئاً.

وبحسبك أن تنظر فيما قدمت لك من النصوص، لتعلم علم اليقين أن من الكذب الصراح ما يتشدق به الخراصون من أن هذه الأمة من أمم الغرب أو تلك، أول من فكر في محاربة الرقيق والقضاء عليه.

نحن لا نبخس الناس أشياءهم، ولا نغمط أولي الحق حقهم، ولا نجحد أصحاب الفضل فضلهم، فإننا نعرف لهذه الأمم أنها جدت في إحياء تشريع وضع الإسلام أساسه أول الأمر ثم أغفله المسلمون، وتورطوا في شرور أنستهم شريعتهم المطهرة. ألم تعلم بأسواق الرقيق التي كانت تقوم على قدم وساق، في البلاد الإسلامية، يصول فيها النخاسون ويجولون، وليس بين الأرقاء الذين يبيعونهم واحد فقط ممن يبيح الإسلام استرقاقهم.

فكلهم مخطوف أو مسروق. وحسبك هؤلاء الفتيات البيض اللاتي امتلأت بهن القصور في جميع العصور، واستمتع بهن الرجال؛ واستولدوهن الأولاد بغير عقد شرعي فتلوثت الأنساب، وسرى عرق السفاح في كثير من الأسر والبيوتات.

إن الرق الذي تعاونت الدول المتمدينة على محاربته ليس هو الرق الحلال الذي أباحه الإسلام، بل هو رق خبيث آثم حرمه الإسلام منذ سطع نوره وأشرقت شمسه على الآفاق. فالفضل في محاربة الرقيق، والقضاء على الرق الأثيم، يرجع قبل كل شيء إلى الإسلام، دين الله الحق؛ الذي يأمر بالعدل، والإحسان، وإيتاء ذي القربى؛ وينهي عن الفحشاء والمنكر والبغي.

ومن الغريب المدهش، أن الأمم التي سعت وجدّت في سبيل تحرير الأفراد، لا تزال تجدّ وتسعى في سبيل استعباد الأمم والشعوب، وما التمدح بمنة أعطيت باليسار ثم سلب أضعاف أضعافها باليمين.

نسأل الله أن يفقهنا في دينه، ويوفقنا للعمل بما نعلم منه.

———-

* المصدر: مجلة الهدي النبوي.

مواضيع ذات صلة