الانفصام الدعوي (2 /5).. مع النفس

العلاقات الإنسانية في الإسلام

د. رمضان فوزي بديني

خلق الله تعالى الإنسان اجتماعيا بطبعه؛ ففطره على الميل للاندماج والتواصل مع أفراد مجتمعه، ولا يمكنه أن يعيش في معزل عن غيره من بني البشر؛ حتى أصبح العزل والحبس عن الناس نوعا من أنواع العقاب والتعزير في القوانين الحديثة رغم أن إن هذا ممتد في عمق التاريخ من أيام نبي الله يوسف عليه السلام كما ورد في القرآن عن حبس العزيز ليوسف عليه السلام، وإذا كان الجرم عظيما فإن جرعة العقاب تزيد وذلك بحبس المجرم حبسا انفراديا، وهو من أصعب أنوع العقاب.

ولأن الله عز وجل خالق النفوس وخبير بما تنصلح به في معاشها ومعادها، وعالم سبحانه بمدى حاجتها للتواصل والتفاعل مع مجتمعها المحيط؛ فإنه عز وجل وضع لها من الضوابط والمحددات ما يجعل هذا التواصل فعالا وإيجابيا.

يقول أحد الباحثين: “وقد لا يخفى على باحث أن انبعاث رسول الله –صلى الله عليه وسلم- كان منعطفا تاريخيا في حياة الناس جميعا، وتحولا حضاريا متميزا في نهج حياتهم وتعاملهم. تحول الخطاب فيه من قومية الأديان ومحدودية مقاصدها إلى عالمية الإسلام وشمولية دعوته، وتكامل مقاصده، ومن عزلة المجتمعات البشرية وتضادها وتصارعها إلى وحدة الأسرة البشرية وتعاون مجتمعها؛ حيث سمع الناس لأول مرة في تاريخهم الإنساني فكرة المجتمع الإنساني الواحد، كما سمعوا أيضا لأول مرة فكرة التعايش السلمي بينهم من غير تمايز. وكان النبي –صلى الله عليه وسلم- يعمل على نشر الإخاء الإنساني الذي يتجاوز المسلمين إلى غير المسلمين” (معالم العلاقات الإنسانية في الإسلام، ص100، د.أحمد عبد الرحيم السايح).

فقد جعل الله تعالى للإنسان شبكة من العلاقات المتداخلة والمترابطة بقدر تعدد علاقات الفرد بمن حوله، سواء كانت عائلته أم أصحابه أم جيرانه أم رؤساءه أم مرؤوسيه، والتي تجتمع في النهاية في ثلاث شعب عامة؛ بحيث تحوي كل شعبة منها مجموعة أخرى من العلاقات والآداب الفرعية المتداخلة والمتشابكة مع غيرها في الشعب الأخرى:

1-             علاقة الفرد بربه تعالى (اتق الله حيثما كنت): وتضم عددا من الآداب الواجبة مثل توحيده عز وجل، وتنزيهه عن الشريك والولد، وإفراده بالعبادة الخالصة… إلخ.

2-             علاقة الفرد بنفسه (وأتبع السيئة الحسنة تمحها): وتستتبع أيضا البعد عن الذنوب والمعاصي حتى لا يعرضها للعذاب، وعدم ظلم النفس، والسعي إلى تزكيتها ومجاهدتها… إلخ.

3-             علاقة الفرد بمجتمعه (وخالق الناس بخلق حسن): وهذه الشعبة هي مناط حديثنا في السطور التالية؛ حيث يعد من أبرز العلاقات الإنسانية التي أقرها الإسلام في هذا السياق، وتتعدد مظاهر هذه العلاقة إلى عشرات المبادئ والواجبات التي نكتفي منها ببعض ما يخدم الهدف من هذا الكتاب على النحو التالي:

التعارف

أخبر الله تعالى في كتابه أنه خلق كل الناس من ذكر وأنثى، ثم تفرقوا لشعوب وقبائل وبطون وأفخاذ ليتعرف كل منهم على الآخر؛ ليصلوا الأرحام ؛ فقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (الحجر: 13).

فالتعارف هو أول طريق للتعامل الإنساني الإيجابي والبناء؛ فبالتعرف على الآخر من حيث شخصيته وطباعه وميوله وما يحب وما يكره يتم التواصل الفعال والمثمر؛ فلكل شخصية مفتاح ومدخل يختلف عن غيرها، ولا يستطيع أحد الإمساك بهذا المفتاح –الذي يعد هاما وضروريا للقائد التربوي لنجاحه في مهمته- إلا بالتعرف الدقيق والفهم العميق وسبر أغوار شخصية الطلاب.

حسن الخلق

جاءت آيات القرآن الكريم وأحاديث السنة النبوية المشرفة -قولا وعملا وتقريرا- مؤكدة على حسن الخلق الذي يعد ضمانة حقيقية لمجتمع صالح ومترابط برباط وثيق من العلاقات الإنسانية الحميدة؛ فحسن الخلق هو ملاك كل العلاقات الإنسانية الإيجابية؛ فهو السور الكبير الذي يضم بين جنباته كل هذه العلاقات البناءة.

ولذلك جاء الوصف القرآني للرسول –صلى الله عليه وسلم- بذلك واضحا {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}. وفي هذا السياق يأتي التوجيه النبوي بالأمر المباشر: “‏اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن” (سنن الترمذي)، وقال صلى الله عليه وسلم “ما من شيء يوضع في الميزان أثقل من حسن الخلق وإن صاحب حسن الخلق ليبلغ به درجة صاحب الصوم والصلاة” (سنن الترمذي).

وتمتد عناية الإسلام بحسن الخلق حتى يجعله أكثر ما يدخل الجنة؛ فقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏عن أكثر ما يدخل الناس الجنة فقال تقوى الله وحسن الخلق وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار فقال: ‏الفم والفرج (الترمذي).

والشواهد في هذا المجال أكثر من أن نحيط بها هنا، ولكننا نؤكد على أهمية الأخلاق الحميدة في الإدارة التربوية؛ حيث إن علاقة أي مدير بمرؤوسيه إن خلت من هذا الأمر فستتحول إلى صراع وتشاحن يقل فيه الإنجاز وتكثر الضغائن والفتن، ويكون الفشل هو مصير المؤسسة.

التراحم والتعاطف

من معالم ديننا الحنيف أنه دين الرحمة والعطف؛ فالله عز وجل هو الرحمن الرحيم، ورسوله صلى الله عليه وسلم بالمؤمنين رؤوف رحيم، وقد تعدت رحمة الإسلام بني البشر لتنال الحيوان؛ فهاهو الرسول الكريم يخبرنا بأن الله عز وجل غفر لرجل لأنه سقى كلبا كان قد بلغ به العطش مبلغا كبيرا، وفي المقابل دخلت امرأة النار في هرة حبستها. فما دام هذه الرحمة بالحيوان فما بالنا بالإنسان؟!

وقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم رحمة الله مقابلا وثمنا لمن يرحم عباد الله في الأرض؛ إذ يقول صلى الله عليه وسلم: “ارحم من في الأرض؛ يرحمك من في السماء”، وقال صلى الله عليه وسلم في معنى قريب من هذا: “إنما يرحم الله من عباده الرحماء” (صحيح الجامع الصغير للألباني، الحديث رقم 894 ورقم 238).

فمجتمع المؤمنين هو الذي تسوده أسمى العلاقات الإنسانية التي ذكرها الحبيب صلى الله عليه وسلم في قوله: “مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد؛ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى” (رواه مسلم).

وهو الذي تسوده علاقة الرحمة بالصغير وتوقير الكبير كما أخبر صلى الله عليه وسلم بقوله: “ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا، ويأمر بالمعروف وينه عن المنكر” (أخرجه أحمد في مسنده، والترمذي عن ابن عباس).

التعاون

من العلاقات الإنسانية الراقية التي أمر بها الإسلام وحض عليها التعاون على البر والتقوى؛ ذلك أن الفرد ضعيف بنفسه قوي بغيره، ولذلك جاء التوجيه القرآني صريحا بالتعاون على البر والتقوى في قول الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (المائدة: 2)، وقد حث الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك في الكثير من الأحاديث الشريفة، ومارس ذلك بصورة عملية مع أصحابه في العديد من المواقف التي وردت في كتب السير.

وتتنوع صور التعاون وتتعدد حسب طبيعة العلاقة بين الأفراد، وتتداخل هذه الصور؛ بحيث يصبح جميع الأفراد في حاجة لبعضهم البعض في صورة متبادلة؛ بحيث يصير المعين اليوم معانا غدا والعكس؛ فغير المتعاون سيجد صعوبة في التواصل مع الناس وطلب شيء منهم.

 والتعاون بهذه الصورة ضروري في أي عملية تربوية؛ بحيث يقدم القائد التربوي نموذجا وقدوة لغيره من الطلاب؛ بحيث يغرس فيهم روح المشاركة والعمل في فريق بصورة تحقق الأهداف بسلاسة ودون تضارب أو تداخل في الاختصاصات.

وهناك العشرات من الآداب والمبادئ الإنسانية الأخرى التي حرص الإسلام على تنميتها والحض عليها وإحاطتها بالرعاية والاهتمام حتى تنمو في المجتمع مثمرة أرقى أنواع الترابط والتكامل والتعايش بين كل أفراد المجتمع، مسلمين وغير مسلمين.

مواضيع ذات صلة