د. طارق السويدان
لكل أمة من الأمم ثقافتها الخاصة النابعة من مصادر حضارتها، والمعبرة عن وجهة نظرها في الحياة، والممثلة لاستقلاليتها وتمييزها، ونحن كأمة بين الأمم لنا ثقافتنا المعبرة عن هويتنا والمجسمة لتطلعاتنا وآمالنا، ولا يمكن أن نتهم أمة من الأمم بالتعصب، أو التطرف إن هي عضت على تراثها بالنواجذ، وحافظت على مقومات وجودها، ولم تسمح بالتطاول عليها، أو الانعتاق منها، أو التحدي لها.
وأحب أن أذكر في البداية مدلول كلمة الثقافة من الوجهة اللغوية، ثم من الوجهة الشرعية، ثم أتحدث عن مكونات ثقافتنا الإسلامية.
الثقافة: مصدر ثُقف، ككرُم، وثَقِف كفرح، ثقفا، وثَقَفَا، وثقافةً، صار حاذقا، فهو ثَقِفٌ، وثَقِفَ الحديث فهمه بسرعة، وثقّف الشيء: سوّاه، وأقام المعوجّ منه، وثقّف الإنسانَ: أدبه وعلمه، وهذبه، فالثقافة من جهة اللغة: تعني الحِذْق والفطنة وسرعة الفهم، والدقة في فهم العلوم والفنون. والتثقيف يعني: إقامة المعوجّ، وتسويته، وتأديب الإنسان وتهذيبه وتعليمه وتخليصه من الشذوذات والانحرافات.
فالمثقف بناءً على هذا التصور اللغوي: هو الذي خلص من العوج، واستوت بواطنه وظواهره، واستقامت سرائره وجوارحه، وتهذبت مداركه وعواطفه، وحذق الحق وعلمه، وعرف الخير واتبعه، واهتدى بنور الله تعالى ورضيه، فبعيد عن ساحة الثقافة –بناء على هذا التصور– صاحب القلب الفاسد، والعقل المنحرف، والسلوك الملتوي، ومدمن الفجور والشرور، والجاهل بمعالم الخير ومصادر الهدى، وأصول الثقافة الرشيدة؛ فالمنحرفون في هذه الأودية المظلمة ليسوا من المثقفين، والثقافة منهم براء، وإن ادعوا غير ذلك، وتبجحوا بما عندهم من المجون، والفنون، وإنه ليصدق فيهم قول الحق تعالى: {قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا * الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهو يحسبون أنهم يصنعون صنعا} (الكهف:103-104.
أما الثقافة من وجهة النظر الشرعية.. فإننا نعني بها: جميع ما نتبناه ونؤمن به من معارف ديننا، وعلومه، وأفكاره، وفنونه، وتصوراته، وآدابه، ونظراته للكون والحياة والإنسان، والدنيا والآخرة، وكل مما خلفته حضارتنا مما يتعلق بهذا كله.
إن هذه المعارف التي فاض بها الدين في كل هذه النواحي والميادين وغيرها هي التي تشكل ثقافتنا الإسلامية.
إن لثقافتنا الإسلامية عمقا حضاريا أصيلا، وطابعا إنسانيا معتدلا، ونظرة للوجود شاملة كاملة، وكانت الغاية من ذلك إيجاد أمة ذات طابع خاص تتميز به عن غيرها من الأمم في فكرها، وسلوكها، ومقوّمات حياتها.
إن ديننا الحنيف أراد أن يعطي المسلم تصورا شاملا عن الحياة وطبيعتها، والوجود ومكانة الإسلام فيه، وتوعية النظام الذي يجب أن يحكم المجتمع البشري، وهذا يشكل نموذجا حضاريا، يتبعه تنوع ثقافي ممتد في كل الأنحاء والجهات.
وإذا أردنا أن نقف على شيء من التفصيلات في رياض ثقافتنا الغناء وحقولها الشاسعة.. فإننا سنخص بالذكر الأمور التالية التي تكون ثقافتنا، وتشكل هويتنا، وهي:
1- العقيدة: وهذه تشكل الجانب الأهم في ثقافتنا، فإنها ثقافة تقوم أساسا على الإيمان بالله تعالى ربا خالقا عليما حكيما، مقدرا، مدبرا، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. ومن مفردات هذه العقيدة التي تشكل أصل ثقافتنا الإيمان بملائكة الله تعالى وكتبه ورسله واليوم الآخر، والإيمان بالقدر خيره وشره. إن هذا الجانب العقدي من ثقافتنا يضع المسلم والمسلمة أمام مسؤولية عظيمة، حيث يشعر كل واحد منهما بمدى عظمة الله تعالى، ورقابته وتفرده بالخلق والملك، فيؤمن به وينصاع له، ويلتزم جانب الخير الذي أمر به، ويقاطع جانب الشرّ الذي نهى عنه، كل ذلك رغبة بما عند الله من المثوبة، ورهبة مما عنده من العقوبة.
2- العبادة: وهي تعني الطاعة لله تعالى في كل ما أمر به، ونهى عنه، وهذا الجانب التعبدّي له شأن كبير وخطير في حياة المسلمين وثقافتهم، فإنه السلوك العملي اليومي الذي من شأنه أن يظل حارسا للإنسان من الزيغان، ورابطا له بأصول عقيدته، لذلك أكد الدين على الجانب التعبدي، ونوع أساليب ممارسته وتطبيقاته من صلاة وصيام وزكاة، وحج، وذكر ودعاء وقراءة للقرآن وغير ذلك. فالأدلة والأحكام، والتشريعات المتعلقة بأنواع العقائد، وألوان العبادات تشكل رصيدا ضخما في كيان ثقافة المسلمين التي تخصهم وتميزهم.
3- التشريع والأحكام: وهذا الجانب أيضا من ثقافتنا المجيدة يغطي بنظمه الشرعية الكثيرة كلّ أنواع المعاملات والعقود والتصرفات من بيع وشراء، وإجارة واستئجار، ورهن، ووكالة، وعارية، ووديعة، وشركة، وغيرها من وصية، ووقف، وإحياء موات، وإرث، ونكاح، ونفقة، ونسب، وحكم وقضاء، وعقوبة، وسياسة، فليس هناك تصرّف إنسانيّ، إلا وله حكم شرعي في هذه الشريعة السمحة ينظم الأمور، ويرعى العلاقات، ويقضي على الفوضى والشذوذ.
4- الآداب والفضائل: وهذا الجانب من ثقافتنا يشكل كمال وجمال هذه الثقافة المنبثقة من ديننا الحنيف وشريعتنا الغراء، ويصبغ الحياة بالكمال والجمال، ويجعل الناس يبدون وقد غمرتهم مظاهر السلوك الراقي، وربطت بينهم وشائج السماحة والوداد، وقد جاء عن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم أنه قال: “ما من شيء أثقل في ميزان العبد المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق، وإن الله يبغض الفاحش البذيّ” (رواه الترمذي). ولما كانت هذه الآداب مرعية علما ومعرفة وتطبيقا كانت إلى جانب العقائد والعبادات تشكل فضاء شاسعا من معالم ثقافتنا، وأركان تكوينها.
5- العلوم التجريبية: مثل الكيمياء، والفلك، والطب، والهندسة، وعلوم الصناعة، والزراعة.. فهذه علوم وثقافات حضّ الدين على تعلّمها، والاستفادة منها في جوانب الحياة، وجعلها من الفروض الكفائية في حياة الأمة، إن أهملوها أثموا؛ لأنها ضرورة لنهضتهم، وتأمين عزهم، وتوفير دواعي قوتهم ورفاهيتهم، وهذا الجانب من الثقافة لا وطن له -كما يقولون- فيمكن للمسلمين أن يستفيدوه من أي مكان، وأن يقتبسوه من أي قوم، ما دام محصورا في مجالاته التطبيقية دون أن يتجاوزوها إلى التغيرات الفلسفية والإنسانية والتاريخية، أما ما عدا هذا من الجوانب الثقافية الأخرى التي ذكرناها، فللمسلمين ثقافتهم الخاصة بهم، القائمة على قواعد التصور الإسلامي ومبادئه المتميزة.
إن الثقافة الإسلامية في تكوينها، وآفاقها ثقافة شاملة لكل حقول النشاط الفكري والواقع الإنساني، وفيها من القواعد والمناهج والخصائص ما يكفل نمو النشاط الإنساني وحيويته بشكل دائم، قال تعالى: {إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون} (البقرة: 132).
المصدر: موقع د. طارق السويدان