د. رمضان فوزي بديني
قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآَخِرَ} (الأحزاب: 21)، والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم شامل لكل الناس وممتد في كل مظاهر الحياة، وأولى الناس بالاقتداء بالرسول –صلى الله عليه وسلم- وتلمس الحق في سيرته العطرة؛ هم الدعاة والقائمون على العمل التربوي؛ ذلك أن هناك من الوسائل الدعوية والأنماط التربوية التي تذخر بها كتب السير والسنن ما فيه الخير الكثير ليستفيد منه الدعاة والعاملون في حقل العمل الإسلامي.
فقد جمع –صلى الله عليه وسلم- من الصفات القيادية والتربوية ما لم يجتمع في غيره من البشر؛ ولا يخفى ما بين العلاقات الإنسانية والإدارة التربوية الناجحة من رابط عميق؛ ذلك أنه يأتي على رأس هذه العلاقات حسن الخلق في صورته العامة التي يندرج تحتها الكثير من مظاهر العلاقات الإنسانية الرفيعة؛ فهو –صلى الله عليه وسلم- قد ملك من حسن الخلق ناصيته حتى وصفه ربه بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم: 4)، وأخبر هو عن نفسه صلى الله عليه وسلم قائلا: “إنما بُعثت لأتمم صالح الأخلاق” (مسند أحمد).
ومن أبرز الأخلاق الحسنة التي تجلت في الرسول صلى الله عليه وسلم في القيادة التربوية لأصحابه ما يلي:
أولا- الرحمة والعطف والرفق:
من أهم الصفات التي يجب أن يتحلى بها أي داعية وقائد تربوي الرحمة والرفق بالمتعلمين، وقد وصف الله تعالى رسوله بالرحمة بالمؤمنين في قوله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنَفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتِّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (التوبة: 128)، ولرحمته صلى الله عليه وسلم اجتمعت عليه الأفئدة، وفُتحت له القلوب قبل العقول كما قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ} (آل عمران: 159).
ومظاهر رحمته صلى الله عليه وسلم مع المدعوين أكثر من أن تُعد في هذه الصفحات، لكن يكفي الإشارة إلى بعضها، مثل:
– ما روي عن أنس رضي الله عنه أنه قال: “ما رأيت أحدا كان أرحم بالعيال من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان إبراهيم ابنه مسترضعا في عوالي المدينة، وكان ينطلق ونحن معه فيدخل البيت، فيأخذه، فيقبله، ثم يرجع” (أخرجه مسلم في صحيحه).
– كان صلى الله عليه وسلم يدلل زينـب بنت أم سلمة، وكانت طفلة في حِجر أمها، ويقول لها: “يا زناب”.
– حمله صلى الله عليه وسلم الحسن والحسين، ونزوله من على المنبر من أجل أحدهما، وإطالة السجود لركـوب الحسن على ظهره، والتردد على بيـت فاطمة لتعهـدهما ورؤيتهما.
– مداعبة الأطفال حتى ولو في الصلاة فقد حمل -صلى الله عليه وسلم- أُمامة بنت أبي العاص على كتفه في أثناء الصلاة، فإذا سجد وضعها، وإذا قام رفعها.
– مراعاته صلى الله عليه وسلم للجانب الوجداني عند المتعلمين، من ذلك ما روي في الحديث الصحيح عن مالك بن الحويرث قال: “أتينا النبي صلى الله عليه وسلم ونحن شببة متقاربون، فأقمنا عنده عشرين ليلة، فظن أنا اشتقنا أهلنا، وسألنا عمن تركنا في أهلنا فأخبرناه، وكان رفيقا رحيما، فقال: ارجعوا إلى أهليكم فعلموهم ومروهم، وصلوا كما رأيتموني أصلي، وإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم، ثم ليؤمكم أكبركم” (رواه البخاري).
– رحمته بالخدم؛ حيث حث صلى الله عليه وسلم على الرحمة بهم ورعايتهم، وقال: “… ولا تكلِّفوهم ما يغلبهم، فإن كلَّفتموهم فأعينوهم” (متفق عليه).
ثانيا- حثه صلى الله عليه وسلم على مراعاة حال المتعلم:
ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: “حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يُكذَّب الله ورسوله” (رواه البخاري)، وترجم البخاري لهذا الحديث بعنوان “من خص بالعلم قوماً دون آخرين كراهة ألا يفهموا”.
ويروي مسلم في صحيحه عنه عليه الصلاة والسلام قوله: “ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة”.
ثالثا- التربية بالثناء والمدح:
من الأساليب التربية التي استخدمها الرسول صلى الله عليه وسلم مع بعض الشباب بدء توجيهه بالثناء والمدح لغرس خلق حسن أو النهي عن خلة غير صحيحة؛ فعن خريم بن فاتك الأسدي قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: “نعم الرجل أنت يا خريم لولا خلّتان فيــك” قلت: وما هما يا رسول الله؟ قال: “إسبال إزارك، وإرخاؤك شعرك” (أخرجه الإمام أحمد).
ومن ذلك ما رواه سالم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قوله صلى الله عليه وسلم له: “نعم المرء عبد الله لو كان يصلـي من الليل”، قال سالم: فكان عبد الله لا ينام من الليل إلا قليلاً (أخرجه مسلم).
رابعا- الرفق في التنبيه على الخطأ:
من ذلك ما روي عن عمر بن أبي سلمة أنه قال: كنت غلاماً في حجر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “يا غلام، سمّ الله، وكُل بيمينك، وكل مما يليك” (متفق عليه).
وعن معاوية بن الحكم السلمي قال: “بينا أنا أصلي مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثكل أمياه.. ما شأنكم تنظرون إلي؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمِّتونني لكني سكت، فلما صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فبأبي هو وأمي ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه؛ فوالله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني، قال: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن” (صحيح مسلم).
خامسا- تحفيز المجيد بالثناء والمدح:
من ذلك ثناؤه صلى الله عليه وسلم على أُبي بن كعب لما سأله عن أعظم آية في كتاب الله فأجاب: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم}، فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: “ليهنئك العلم أبا المنذر” (عون المعبود شرح سنن أبي داود).
ولمّا سأل الرسول -صلى الله عليه وسلم- أبا موسى الأشعري: “بما أهللت؟”، فأجاب أبو موسى: بإهلال كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم. قال الرسول صلى الله عليه وسلــم: “أحسنت” (فتح الباري، برقم 1558).
سادسا- استخدام الإقناع العقلي لتقويم الخطأ:
ويتجلى ذلك في تصحيحه صلى الله عليه وسلم لخطأ شاب جاءه وقال: يا رسول الله، ائذن لي في الزنا؟ فأقبل عليه القوم فزجروه، فقال: “ادنه”، فدنا منه قريبا، قال: فجلس. قال: “أتحبه لأمك؟”، قال: لا والله جعلني الله فداءك. قال: “ولا الناس يحبونه لأمهاتهم”. قال: “أفتحبه لابنتك؟”. قال: لا والله يا رسول الله جعلني الله فداءك. قال: “ولا الناس يحبونه لبناتهم”. قال: “أفتحبه لأختك؟”. قال: لا والله جعلني الله فداءك. قال: “ولا الناس يحبونه لأخواتهم”، قال: “أفتحبه لعمتك؟”، قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: “ولا الناس يحبونه لعماتهم”، قال: “أفتحبه لخالتك؟”، قال لا والله جعلني الله فداءك. قال: “ولا الناس يحبونه لخالاتهم”، قال: فوضع يده عليه وقال: “اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصن فرجه” فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء (مسند أحمد).
ومن ذلك ما رواه البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة أن رجلا أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، وُلِد لي غلام أسود، فقال: “هل لك من إبل؟”، قال: نعم. قال: “ما لونها؟”، قال: حمر. قال: “هل فيها أورق؟”، قال: نعم. قال: “فأنى ذلك؟” قال: نزعة عرق. قال: “فلعل ابنك هذا نزعه عرق”.
سابعا- التعليم بالتكرار
من الأساليب التربوية الناجحة التي استخدمها الرسول -صلى الله عليه وسلم- التكرار ليفهم السامع، ويدرك تلك الكلمة فهما واستيعابا، والتكرار قد يكون في الجُمل أو الأسماء، وقد يكون في غيرها. ومما جاء في تكرار الكلمات ما رواه أنس بن مالك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثا حتى تُفهم عنه، وإذا أتى على قوم فسلّم عليهم سلّم عليهم ثلاثا (رواه البخاري). وعند الترمذي من حديث أنس: “كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يعيد الكلمة ثلاثا لتُعقل عنه”.
ومن تطبيقه صلى الله عليه وسلم لهذا الأسلوب التربوي ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: رغم أنف ثم رغم أنف ثم رغم أنف، قيل: من يا رسول الله؟ قال: “من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كليهما فلم يدخل الجنة” (رواه مسلــم)؛ فقد كرر –صلى الله عليه وسلم كلمة “رغم أنف” ثلاث مرات للتأكيد عليها وجذب الانتباه لما سيأتي بعدها.
ومن ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه البخاري: “ألا أنبئكم بأكبر الكبائر” -ثلاثا- قالوا: بلى يا رسول الله. قال: “الإشراك بالله، وعقوق الوالدين”، وكان متكئاً فجلس فقال: “ألا وقول الزور”، قال: فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت” (رواه البخاري).
فقد استخدم –صلى الله عليه وسلم- هذا الأسلوب مرتين في هذا الحديث؛ أولاهما في تكراره “ألا أنبئكم بأكبر الكبائر” ثلاث مرات، ثم تكراره لجملة “ألا وقول الزور” عددا كبيرا من المرات نظرا لأهمية هذا الداء الوبيل على الفرد والمجتمع ودوره في إضاعة الحقوق.
ثامنا- استخدام وسائل الإيضاح:
من عبقرية الرسول صلى الله عليه وسلم في مجال التربية استخدامه للرسوم التوضيحية لتوصيل المعلومة بصورة مبسطة جذابة بحيث تعلق في الذهن فلا تُنسى، من ذلك ما رواه ابن مسعود قال: “خط النبي -صلى الله عليه وسلم- خطا مربعا، وخطَّ خطا في الوسط خارجا منه، وخط خِططا صغارا إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط، وقال: “هذا الإنسان، وهذا أجله محيط به أو قد أحاط به، وهذا الذي هو خارج أمله، وهذه الخطط الصغار الأعراض؛ فإن أخطأه هذا نهشه هذا، وإن أخطأه هذا نهشه هذا”.
واستخدم النبي -صلى الله عليه وسلم- أصابعه للإيضاح وتقريب المعنى؛ فعن أبي موسى الأشعري عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: “المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضـا”، ثم شبّك بين أصابعه.. (رواه البخاري).
تاسعا- إتاحة الفرصة للتعبير عن الذات:
ويتضح هذا الأسلوب في تعامله صلى الله عليه وسلم مع سمرة بن جندب إذ ورد أنه كان صلى الله عليه وسلم يعرض غلمان الأنصار كل سنة، فمر به غلام فأجازه في البعث، وعرض عليه سمرة بعده، فرده، فقال سمرة: لقد أجزت هذا وردتني، ولو صارعته لصرعته، قال: ”فدونكه فصارعه”، فصرعه سمرة، فأجازه في البعث، قيل:أجازه يوم أحد.
عاشرا- استخدامه شيئا محسوسا للتعبير عن أمر غيبي:
ومن الأمور المحسوسة والمرئية بالعين المجردة التي استخدمها الرسول صلى الله عليه وسلم للتعبير عن أمر غيبي.. القمر، كما في حديث جرير بن عبد الله قال: “كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة البدر، فقال: إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته؛ فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا، ثم قرأ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} (سورة قاف: 39)” (رواه البخاري).
حادي عشر- جذب الانتباه وتحفيز الذهن:
من الوسائل الرائعة التي استخدمها الرسول –صلى الله عليه وسلم- في تربيته لأصحابه جذب الانتباه وتحفيز الذهن لتلقي المعلومة، ومما فعله لتحقيق ذلك البدء بإلقاء سؤال له إجابة مشهورة في الأذهان، وبعدها يوجه –صلى الله عليه وسلم- إجابة السؤال لتصحيح الحقائق في أذهان أصحابه، وقد وردت الكثير من الأحاديث في هذا السياق، أشهرها ما رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: “أتدرون من المفلس؟” قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال: “المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا؛ فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أُخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طُرح في النار” (رواه مسلم).