عبادة نوح
تعيش مجتمعاتنا اليوم حالة من الغرابة في ممارساتها الحياتية ووسائلها المعيشية، فظاهر الصبغة المجتمعية إسلامي حتى النخاع، وواقع الحال سبات حتى الموت.. فأين أثر الدعاة الدائم على أفراد المجتمع المسلم؟ وهل المشكلة في الدعاة أم في العوام؟
المتأمل في حال الحراك الإسلامي يجد أن العمل الدعوي والخيري في ازدياد مطرد، والإقبال على المساجد والملتقيات والمؤتمرات يزداد، ومع ذلك نرى تأخر النصر الرباني في التمكين لشريعته في الأرض.
والحقيقة أن الناس لم يعودوا بحاجة إلى كثرة الكلام بقدر حاجتهم إلى رؤية قرآن يمشي على الأرض، وحاجتهم إلى مجتمعات تعيش في رخاء وأمن اجتماعي بعيدًا عن النفاق والمكاسب الدنيوية والمصالح الشخصية.
ويمكن القول إن التجارة الرائجة في الوقت الحالي هي القدوة السلوكية الصالحة التي تحكي حقيقة الدين بعفوية وإخلاص، بعيدًا عن مظاهر التسميع والرياء، فالتوجيه المباشر إلى فعلٍ ما أضحى غير مجدٍ في عصر المعلوماتية والواقعية، وهذا ما نراه في آثار الخطب والدروس الدينية التي تـُلقى على مسامعنا ويذهب تأثرنا بها بعد دقائق معدودة وتنسى بين مفاتن الحياة.
فلتكن أنت ما تدعو إليه، واجعل من يراك يتمنى أن يكون مثلك، ولا تحدثه عن الإيمان، بل اجعله يستشعره من النور الذي يضيء وجهك، ولا تحثه على العبادة، بل دعه يراها أمام عينيه، ولا تَدْعُهُ لمكارم الأخلاق، لكن اجعله يحبها منك.
ويتعجب المرء عندما يسمع قول الصغار: لماذا نصلي وكثيرون لا يصلون في المساجد؟! وهذا يدل على خلل تربوي كبير في حياتنا السلوكية والروحانية، فهل تكون دعوتنا إلى الله صامتة أم نتكلم ونتكلم ولا يسمعنا أحد؟
ولعل المنهج الرباني في القدوة السلوكية القائم على الآية الكريمة {… وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا} (الكهف:19) يؤكد طريق الإصلاح والتغيير، ويعتبر تجاوزًا من الدعاة أن يتخطوا هذه الآية إذا انطبقت عليهم الظروف نفسها.
ويُستدل أيضا على ذلك بما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم في المرحلة المكية التي استأسدت قوى الكفر فيها على جماعة الإيمان؛ فأذاقوهم ألوانًا من العذاب، حتى لما هاجروا إلى الحبشة وكان المنهج آنئذٍ: {كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاة}، وقد قتلت سمية بحربة في قُبُلها، وكذا زوجها قُتل شهيدا، ولا يملك الرسول –صلى الله عليه وسلم- إلا قوله: “صَبْرًا آلَ يَاسِرٍ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إلى الْجَنَّةِ”.
وما تحكيه تجربة تركيا الآن يثبت حقيقة الآثار الإيجابية المترتبة على هذا المنهج النبوي الفريد؛ فالمؤسسات التعليمية والدينية والإعلامية والدعوية الضخمة أبرز دليل على نجاح آثار هذه الدعوة الصامتة القائمة على السلوك الحسن، فلا شعارات رنانة، ولا أصوات عالية على المنابر، ولا مظاهرات تأجيجية، ولا صراعات مقيتة، وإنما عمل تنموي يترجم قيمًا إسلامية في مجتمع غص بالإلحاد والعلمانية.
إن الإسلام انتشر في كثير من بلدان الدنيا بالقدوة الطيبة من قِبل المسلمين؛ إذ كانت تبهر أنظار غير المسلمين وتحملهم على اعتناق الإسلام؛ فالقدوة الحسنة التي يحققها الداعي بسيرته الطيبة هي في الحقيقة دعوة عملية للإسلام، يستدل بها سليم الفطرة راجح العقل من غير المسلمين على الدين الحق؛ فالقدوة المتحلية بالفضائل العالية تعطي الآخرين قناعة بأن بلوغ هذه الفضائل من الأمور الممكنة التي هي في متناول القدرات الإِنسانية.. وشاهد الحال أقوى من شاهد المقال.
المصدر: مجلة البشرى.