عبد الرحمن أبوذكري **
إن الصورة النهائيّة التي انحدرت إليها الأمة سببها في نظري هو تشوّه المفاهيم وابتذالها واختزالها في الاصطلاح الدارج، وهيمنة هذا الاصطلاح -الذي يتحكّم في تشكيله الواقع العملي بشكل شبه كُلّي- على المفاهيم القرآنيّة، ومن ثَم يُقرأ القرآن بغير اللغة التي أُنزل بها، بل وتُحاكم اللغة القرآنية لابتذال المعاصرين.
إن أكثر الإسلاميين لا يُميّزون بين مسلك التوسُّط في الاعتقاد (المؤمن المتوسِّط الذي لا يغلو في التنزيه لدرجة التعطيل أو في الالتصاق بحرفيّة النصّ لدرجة التجسيد مثلاً، أو يُضفي على البشر شيئًا من صفات الألوهيّة، …إلخ) وبين خرافة الاعتقاد “الوسطي”!
إن التصور الإسلامي بذاته ليس وسطًا بين أضداد كما قد يشي مفهوم التوسُّط الإغريقي، ولا هو بالوسط الحسابي بين “تصوُّرات” أخرى، ولا هو بخير “التصوُّرات”؛ بل هو التصوُّر الوحيد والأول والأخير، وما سوى ذلك ليس سوى أوهام بشرية؛ هوامش تقترب أو تبتعد عنه، لكنها في النهاية وفي التحليل الأخير أوهام حتى لو ثقُلت تجلياتها الماديّة على شعور البعض، فظنَّها شيئًا، وهي ليست سوى “احتجاج” على الحق؛ احتجاج مصدره الجهل أو الغرض. والاحتجاج بطبيعته هامش على المحتج عليه ولا وجود له بذاته. إن الشرك الذي سَمَّاه القرآن دِينًا -من زاوية إذعان العبيد له- لا يقوم بذاته، بل بغيره من أحفاد السامريّ، وقد اعتبره القرآن -من زاوية ضرب الأمثال المقارنة لترسيخ الفهم- خلقًا بشريًّا للإفك.
إنه حين يتحدث بعض المتفلسفين أو المشتغلين بعلم الكلام عن الإسلام باعتباره تصوُّرًا وسيطًا بين غيره، فإن ذلك من قبيل تقريب الصورة للأذهان، وليس تقريرًا لواقع، وهم في ذلك إنما ينشئون نصوصًا للحجاج الكلامي ولاستكمال النقص في منطق اللغة قبل الدخول على الوحي، ومن ثَم فإن نصوصهم لا يجب أن تؤخذ باعتبارها “اعتقادًا” أو دِينًا وإن كانت من الدِّين، وتيسيرًا لفهمه لكنها ليست هي الدين الذي أرسل الله به الرُّسل.
يقول المولى سبحانه: {وكذلكَ جعلناكم أمةً وسطًا لتكونوا شهداءَ على الناسِ ويكونَ الرسولُ عليكم شهيدًا} [البقرة: 143].
إن القرآن حين يتحدث عن “الوسطية” فإنه لا يصف بها التصوُّر الذي أُرسل به الأنبياء؛ بل يصف بها الأمة المحمَّدية التي أُرسل إليها خاتم الأنبياء، يصف الأمة التي تحمل هذا التصوُّر بالتوسُّط بين غيرها من الأمم أصحاب التصوُّرات المحرَّفة. وهو حين يصف المسلمين بالتوسُّط فإنه يعني كونهم خيارًا وعدولاً ما اقتربوا من حقيقة الوحي. إنهم أمة وسط بين من قبلهم ما التزموا التصوّر القرآني. بل إن الوحي قد جعل من وسطية هذه الأمة سبيلها للشهود على البشرية، الشهود على جنوحها وانحرافها بالإفراط أو التفريط، وليس من سبيل لتحقيق وظيفة الشهود سوى بدوام السعي للتحقُّق بحقيقة الوحي؛ ذلك أن شهود الأمة المحمّدية على البشرية فرع من شهود النبي صلى الله عليه وسلم على تلك الأمة، وما كان النبيُّ حُجَّة على أمته إلا بالوحي الذي ابتُعِث به، واكتمل تخلُّقه به، كما شهدت زوجُهُ الصدِّيقة بنت الصديق.
إن منطق الإصلاح القرآني ليس منطق “تقويم” ماديّ مباشر للواقع، فهذا عبث يجدُر بالمؤمن عدم الانزلاق إليه؛ إذ إن الاصطدام بالواقع بغير تغيير للنفوس يعني تبديد جهد الدعوة هباءً، والدخول في صراع يُختزل إلى غالب ومغلوب، وضارب ومضروب بغير قيمة فارقة بين الفسطاطين، وهذا جوهر أزمة ما يُسمَّى إعلاميًّا بـ”الإسلام السياسي” في الثلث الأخير من القرن العشرين. والمآل الوحيد لصراع الغالب والمغلوب بغير تغيير حقيقي للنفوس هو انتصار الأقوى ماديًّا، ومن ثَم يدخل الطرف الضعيف (وهم حَمَلة الدعوة المتعجّلون) في دوامة التنازُلات والمواءمات والمقاربات!
وربما كان هذا هو هدف القرآن من كف أيدي المسلمين في مكّة؛ حتى تستقر نفوس العصبة منهم بالإيمان، وتطمئن لصدق ما اتبعته، فتسقُط كل الأهداف والحوافز الدنيوية للصراع، ليُصبح دعوة طليقة مُجرَّدة، دعوةٌ تلبَّست بها النفوس؛ دعوةٌ هدايةُ الضال فيها أحبُّ على الداعي من حُمُر النَّعم.
إن منطق “تقويم” الواقع/الأمة من خلال إدارته والسيطرة عليه، كمدخل للدعوة هو وهم كبير، وهو وهم إن لم يَقُد للانبطاح للقائم بترشيد الواقع بهدف مشاركته الكعكة؛ فإنه يُشكل انبطاحًا للواقع ذاته؛ فالهيمنة على واقع شُكِّلت أكثر عناصره الماديّة في ظل تغييب الوحي، ليس سوى محاولة ساذجة لأسلمة هذا الواقع، بالانبطاح له وإضفاء المشروعيّة على تصوّراته وأهدافه ومراميه.
يقول المولى سُبحانه في سورة هود على لسان نبيِّه شُعيب عليه السلام: {قال يا قومِ أرأيتُم إن كُنتُ على بينةٍ من ربي ورزقني منه رزقًا حسنًا وما أريد أن أخالفَكم إلى ما أنهاكم عنه إنْ أُريد إلا الإصلاحَ ما استطعتُ وما توفيقي إلا بالله عليه توكَّلتُ وإليه أنيب} [هود: 88].
لقد ربط شُعيبٌ عليه السلام مفهوم الإصلاح بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ انصياعًا للبيّنة التي جاءته من ربّه؛ فهو إصلاحٌ مُرتبط أصلاً وابتداءً بصيرورة معرفة الفارق بين المعروف والمنكر، وصيرورة تحقُّق النفس ثم المجتمع بهذه المعرفة ذات الطبيعة الوجدانيّة، واستمداد تلك الوظيفة الأبديّة من البيّنة المنزَّلة على النبيِّ المُرسل وحدها دون غيرها. إنه ليس إصلاحًا أُفقيًّا يقصد لإدارة شأن الواقع أولاً؛ بل يقصد إلى البَدء بإصلاح النفوس قبل الالتفات للواقع، لتُنتج هذه النفوس المكابِدَة أبدًا بدورها واقعًا جديدًا تتجلَّى فيه صيرورة استقامة الكَبَد على مُقتضى البيّنة. لذا كان لزامًا على شُعيب أن يكون فيه القدوة بنفسه، وليس بسُلطانه، وهو ما تجلَّى في قول شعيب صلى الله عليه وسلم فيما نقله القرآن عنه في نفس الآية: {وما أريدُ أن أخالفَكم إلى ما أنهاكم عنه}، فهو القدوة، وهو الإمام، وليس مُجرَّد “مدير”!
وتكشف لنا الآيات التي تسبقها مباشرة أن شُعيبًا عليه السلام لم يبدأ بدعوة قومه بالتوقُّف عن انحرافاتهم اليوميّة من تطفيف الكيل الميزان؛ بل بدأ بدعوتهم إلى عبادة الله الواحد، ثم ثنَّى بأمرهم بإيفاء الكيل والميزان، وكأنه يُشير ضمنًا إلى أنهما لا يجتمعان: إخلاص العبودية لله، وتطفيف الميزان وبخس الناس أشياءهم؛ لتكون إجابة “مَدْيَن” من جنس تركيبية إجابة نبيهم عليهم السلام؛ تبدأ باستنكار صلاته التي تأمره أن يدعوهم لترك ما يعبد آباؤهم، أو أن يتصرَّفوا في أموالهم كيفما شاءوا. لقد فهم قوم شعيب أن صلاته عليه السلام هي التي تأمره بذلك، وليست رغبته أو ميوله “الإصلاحية”! لقد أدركوا ذلك بوضوح وأجابوا عليه بوضوح أيضًا.
إن هدف الإصلاح القرآني أصلاً هو استنقاذ الإنسان من الضلال، وإعادته إلى رحاب الوحي. إنه إصلاح الآخرة أولاً، لتنصلح بها الدُنيا. أما العكس، فيُفسِد الدنيا ويُضيِّع الآخرة. وما كان الله ليُصلح عمل المفسدين.
إن منطق الإصلاح ليس تصالُحًا مع الواقع الجاهلي؛ بل تصالح مع الإنسان الجاهلي الذي أنتجه؛ تصالح معه اعترافًا بأن الإنسان خلق ضعيفًا، وأن إخلاده إلى الأرض جزء من تكوينه؛ بل هو أيسر عليه من العروج إلى الله. إن هذا القبول بتركيبية الإنسان وقدرته على الخير والشر لا يعني قبول أصنامه وما نحته لنفسه من الهوى؛ بل يعني قبول التكريم الإلهي الذي شُرِّف به كإنسان؛ حُريَّتُهُ في اختيار الشرك الذي ارتضاهُ لنفسه، تلك الحُريّة التي صانها مانِحُها حتَّى مِن قهره عزّ وجلّ، فلم يُكرهه على الإيمان، ولو أراد لأنفذ قضاءَه سُبحانه.
إن منطق الإصلاح الوحيد الذي يُلبّي احتياجات النفس الإنسانيّة هو المنطق القرآني الذي يقبل بها على ضعفها، وإنْ نَبَذَ ما ارتكست إليه. إنه المنطق الذي يقبل الكافر وينبذ كفره. يقبل التركيبية الربانية أملاً بتغليب الفطرة، لكنه ينبُذ الواقع الاجتماعي الجاهلي كُليّة مهما كان ثقله على الحسّ والشعور. بل إن المجاهدة الشعوريّة والقيمية والتحرُّر الوجداني من الثقل المادّي للواقع الجاهلي هي أول وأهم عناصر إنشاء المجتمع المسلم بتنشئة الفرد المسلم {واللهُ يعلمُ وأنتم لا تعلمون}.
** المصدر: مأخوذ من بحث منشور على مركز نماء للبحوث بالعنوان نفسه.