أ.د. الشاهد البوشيخي
قال تعالى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾ (يوسف: 108)، من خلال هذه الآية وغيرها، يتبين أن العلم أساس هذه الأمة، بل هو أساس استخلاف هذا النوع كله على بقية الأنواع في أرض الله؛ ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ (البقرة:30-31). بهذا العلم استُخلف آدم عليه السلام، وبهذا العلم استُخْلِف أبناؤه من بعده… بهذا العلم رُشحَ مَنْ رُشحَ للإمامة في ذرية آدم، وبهذا العلم أمَّ مَنْ أَمَّ هذه الذرية، بدءًا من الرسل عليهم الصلاة والسلام إلى مَنْ اهتدى بهُداهُم… وحين نقص العلمُ نقَصت الأمة وتنقصت من أطرافها، ولن يمكن تدارك الأمر ولا استدراكه إلا بعَودة العلم إلى موقعه الطبيعي، وعَودة الأمة إلى موضعها الطبيعي في هذا العلم.
العلم رأس القوة وأساس الفلاح
العلم رأس القوة، والله سبحانه وتعالى طلبَ إعدادَ ما يُستطاع من قوة… وأول ما أمر الله به في بناء هذه الأمة هو طلَبُ العلم، هو النداء الخالد: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾ (العلق: 1) نداءٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونداء إلى أصحابه مِن حوله، ونِداءٌ إلى إخوانه الذين جاءوا بعدهم، والذين لم يأتوا بعدُ، نداءٌ إلى الجميع إيذانًا وإعلانًا بأن مرحلةً في الإنسانية يجب أن تبدأ، هي مرحلةُ القيام والتأسس على العِلم، والعلْم فقط.
يجب تخريج أبناء لآدمَ عليه السلام مؤهَلين تأهيلاً علميًا صحيحًا، ليستطيعوا القيام بالخلافة في هذه الأرض وفق العهد الذي عهد الله سبحانه وتعالى به لآدم عليه السلام ولذريته من بعده: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾ (طه: 123-124).
إن ما يُرى من نقصان هذه الأمة، ومن نقصانِ القلب الحي فيها وهو الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، إنما مردُه أساسًا إلى النقصان في العِلم، لأن العلم لا يمكن في هذا الدين فصلُه عن العمل، فإذا قيل بنقصان العلم فقد قيل بنقصان العمل أيضًا، لأن من لوازم العِلم العمل به، فلا يُتصوَر عِلم في هذا الدين بغير عمل وفق مُقتضى هذا العلم. إن هذا لازمٌ لهذا ولازمٌ منه، وحين ينفصلان، ينفصلان شرَ انفصالٍ، قال تعالى: ﴿مَثَلُ الَذِينَ حُمِّلُوا التَوْرَاةَ ثُمَ لَمْ يَحْمِلُوهَا﴾ (الجمعة: 5)؛ لم يعملوا بمقتضاها، ﴿كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا﴾ (الجمعة: 5).
القرآن حجةٌ لك حين العمل به، وحجةٌ عليك حين عدم العمل به. فالنقصان الحاصل في العمل الآن على مستوى الأمة جمعاء أو على مستوى الخلايا الحية في الأمة، إنما هو نقصان أساسًا في العلم. فما القصدُ إذن بـ”حاجة الدعوة الإسلامية إلى العلم”؟
الدعوة مهمة شاملة
الدعوة الإسلامية -بمعنى النداء، من دعاه يدعوه إذا ناداه لفعل أمر أو تركه- لها صورة بسيطة عادية، تكون فيها الدعوة ممثَّلة في تبليغ الأوامر للائتمار وتبليغ النواهي للانتهاء، وهذه مأمور بها جميع الأمة كل بحسب درجته، لأنها عن طريق الائتمار بأوامره والانتهاء بنواهيه تكون دعوة مأمورًا بها الجميع وقادرًا عليها الجميع إنما بشرط العلم… فلا يُتعبَد الله عز وجل إلا بالعلم، ورأس العبادة الدعوة إلى الله عز وجل، لأن الأجر الذي يترتب عليها لا يترتب على شيء سواها. والجهاد -بالمنزلة التي تعلمون- هو جزء من كلٍ، أي جزء من الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى. فللدعوة صور كثيرة؛ منها الجهاد في سبيل الله في ظرف من الظروف وفي صورة من الصور، وللجهاد صور كثيرة؛ منها المجاهدة بالدعوة للقرآن: ﴿وَجَاهِدْهُمْ بِهِ﴾ -أي بالقرآن الكريم- ﴿جِهَادًا كَبِيرًا﴾ (الفرقان: 52).
وكل ذلك دعوة إلى الله عز وجل في صورة من صورها وفي مرحلة من مراحلها. فالدعوة النداء، مأمور بها الجميع ويطيقها الجميع، وإليها يشير حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: “بلغوا عني ولو آية” (رواه البخاري)، من علم آية فقط، علمها وعمل بها، فعليه أن يبلِغ تلك الآية التي يعلم المقصود بها، فأي حظ من العلم الشرعي بهذا الدين يجب أن يبلَغ، إذ هذه الأمة هي أمة الشهادة على الناس، والانتماء الصحيح إليها إنما يتمثل في الدعوة، ولا يتمثل في غير الدعوة. فالمسلم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، بحكم كونه من هذه الأمة، هو داع إلى الله سبحانه وتعالى ضرورة بمقتضي نصوص كثيرة في معنى شهادة هذه الأمة على الناس: ﴿لِيَكُونَ الرَسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَاسِ﴾ (الحج: 78)، إذ لا نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم، ولذلك الجميع مأمور بالدعوة ولا يستثنى أحد منها.
الدعوة وإحلال الشرع في الواقع
وهناك الدعوة -إلى جانب هذه الصورة العادية البسيطة- المطلوبة من الجميع (الدعوة النداء)، هناك الدعوة التي يمكن تسميتها بـ”تنزيل الدين في الواقِع”. هذه صورة تتضمن مفهومًا أضخم من المفهوم الأول للدعوة الإسلامية. فالدعوة النداء -أي دعوة الناس للائتمار بأمر الله أو الانتهاء عما نهى عنه- ما هي من جملة هاته الدعوة بالمعنى العام، التي يراد بها إحلال الشرع في الواقع، وجعل الواقع سائرًا وفق الشرع، ومحكومًا بالشرع، ففعْلُ الناس في الزمان وفي المكان، وفي علاقة الإنسان بعضِه ببعضٍ ليس عشوائيًا، وليس جزافيًا وليس اعتباطيًا وليس خاضعًا للهوى، بل هو محكوم بالشرع ليكون عبادة كما طلب اللهُ من الناس جميعًا: ﴿يَا أَيُّهَا النَاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾ (البقرة: 21)؛ الناسُ كلُ الناس مطلوب منهم عبادة ربهم، فلا يَخرج فعْلُ البشر عن مستوى النية، وعن مستوى التعبير، وعن مستوى التفكير، وعن مستوى التدبير -في الفعل والتصرف- لا يَخرج أيُ فعلٍ بشري عن دائرة العبادة لله أو لغير الله سبحانه وتعالى. فهذا الفعل إما أن يراد به الله سبحانه وتعالى، ويُفعَل وفق شرع الله النصي أو المستنبَط من النصوص الشرعية، وإما أن يُفعَل وفق الهوى ويراد به غير الله سبحانه وتعالى.
فالدعوة الإسلامية إذن بهذا المفهوم أوسع وأشمل من الدائرة الأخرى؛ حيث تصبح الدعوة بمعنى تنزيل الشرع في الواقع، غاية وهدفًا، وبمعنى طلب الائتمار بأمر الله والانتهاء عما نهى عنه، وسيلة، ولتحقيق ذلك توجد عدة أمور تستلزم ضروبًا من العلم ليحدث هذا الأمر أمر تنزيل الشرع في الواقع. وجميع قصص الأنبياء موضحة لهذا الأمر -وهي في صميم الدعوة بهذا المعنى- وقصة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي هي السيرة النبوية، هي-أساسًا قصة مرحلية لهذا الأمر، وجميع تجارب المصلحين المخلصين العلماء هي تجارب للدعوة الإسلامية بهذا المعنى، هي محاولات واجتهادات لتنزيل الشرع على الواقع في زمان بعينه، في مكان بعينه، لدى إنسان بعينه، لدى ناس معينين… إذ لو كان الأمر أمر توقيف في أمر الدعوة -بمعنى تنزيل الشرع في الواقع- لتكفل الله سبحانه وتعالى، بل لأمر الله سبحانه وتعالى بحفظ نصوص السيرة حفظًا تامًا في أعلى درجات الوثوق -كأنه في درجات القرآن- لتهتدي به الأمة، لأنه سيصير ملزِمًا لها، ولكان ترتيب القرآن الكريم على حسب نزوله أيضًا، بل ولتعبدنا به أيضًا على حسب النزول، وللزم بقاؤه على الكيفية التي نزل بها لئلا يحيد الناس عن ذلك المنهاج قيد أنملة… لكن الله عز وجل جعل شيئًا ثابتًا هو الشرع في نصوصه؛ في نصه المعجز، وفي نصه البيان، إذ البيان هو كذلك وحي من الله تعالى: “ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه” (رواه أبو داود) كما قال صلى الله عليه وسلم لجعل الشرع في هذا المستوى.
إذن فهناك شيء ثابت هو الشرع في نصوصه الثابتة، وهناك شيء متغير هو الواقع إذ يتبدل باستمرار، يتبدل ويتغير، يؤثر فيه الزمان، ويؤثر فيه المكان، ويؤثر فيه الإنسان… فلكل مقام مقال، ولكل حال رجال، ولكل ظرف اجتهاد يناسبه… والأصول الكبرى تستفاد من التجارب الكبرى من قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ومن قصة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن التجارب اللاحقة الراشدة.
كيفية التنزيل للشرع مطلوبة من الخاصة
إذن هذه الدعوة بهذا المعنى مطلوبة أساسًا من الخاصة أكثر مما هي مطلوبة من العامة، لأنها تقوم أساسًا على الاجتهاد وليس في مقدور الجميع، أما الأولى، أي الدعوة بالمفهوم الأول، فمطلوبة من الجميع، ومقدور عليها من الجميع. هذه الدعوة بمعنييها، الحاجة فيها إلى العلم كحاجة الكائن الحي إلى الهواء والماء، فحاجة الدعوة الإسلامية إلى العلم كحاجة الكائنات الحية إلى الهواء والماء الذي جعل الله منه كل شيء حيًا: ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾ (الأنبياء: 30). معنى هذا الكلام أنه لا حياة للدعوة ولا وجود لها ولا نمو لها ولا كمال لها إلا بالعلم، ولا يمكن أن توجد أساسًا إلا بالعلم، ولا يمكن أن تنمو إلا بالعلم، ولا يمكن أن تبلغ أشُدَها وتنتهي إلى غاياتها إلا بالعلم أيضًا… لِمَ ذلك؟ لأن الدعوة تقتضي مدعوًا إليه وهو الشرع، وهذا المدعو إليه محدد في النصين: كتاب الله عز وجل وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا المدعو له لا بد من العلم به أولا وقبل كل شيء.
ولتوضيح ذلك: المدعو إليه يمكن تصنيفه صنفين كبيرين؛ صنفا هو جزئيات الدين وكلياته أحيانًا، وصنفا هو الدين كله، والعلاقة بينهما كالعلاقة بين الدعوة بمعنى النداء، والدعوة بمعنى التنزيل في الواقع. نفس تلك العلاقة تقريبًا، توجد كذلك فيما يدعى إليه؛ فهناك من يدعى إلى جزئية من الدين: يدعى إلى الصلاة، إلى الزكاة، إلى الصيام، إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى إلى ابتسامتك في وجه أخيك، يدعى إلى أي شعبة من شعب الإيمان… كل ذلك مطلوب كما يقول صلى الله عليه وسلم: “مَن دعا إلى هدىً، كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا يَنقص ذلك من أجورهم شيئًا” (رواه مسلم)، معناه أيُ هدىً على أي درجة كان هذا الهدى محدَدًا في شيء واحد غليظ أو رقيق، أو كان كبيرًا أو صغيرًا في أشياء متعددة.
هذه دعوة لجزئيات الدين، ولكن هناك دعوة أشمل من هذا تنسجم مع الدعوة بالمفهوم الثاني، هو الذي أشار إليه الله عز وجل في قوله تعالى: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ﴾ (الشورى: 13)، ﴿أَنْ أَقِيمُوا الدِينَ﴾؛ هاهنا لا يوجد أمر بجزئيٍ من جزئيات هذا الدين، بل هناك أمر بإقامة الدين كله جملة وتفصيلاً في الواقع على أحسن صورة تتصور.
فإقامة الدين ﴿أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ﴾ قِسْها على إقامة جزء من الدين كإقامة الصلاة، فكما تقيم الصلاة على أحسن صورة، فعليك أن تقيم الدين على أحسن صورة. إلا أن إقامة الدين تقتضي العلم به وفهمه في حدوده الدنيا والعليا، والدين محدد الدلالة في نصوص كثيرة، ومن أجمعها حديث جبريل عليه السلام، فالإسلام من الدين، والإيمان من الدين، والإحسان من الدين، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: “فإنه جبريلُ أتاكم يعلمُكم دينَكم” (رواه مسلم). فإن الدين الذي يدعى إليه إما أن يكون جزءًا من هذا الدين، وإما أن يكون من الدين كله، ولا يدعى إلى جزء من الدين، أو إلى الدين كله دون علم بهذا الشيء، هل يتصور هذا عقلاً؟ وهل يتصور هذا واقعا؟ لا بد من أصول العلم بما يدعى إليه قبل الدعوة إليه، وإلا دعوت إلى شيء غامض غير معلوم أو مجهول لا يتصور. وفي هذه الحالة لن يستجيب لك أحد لأنك تدعوه إلى ضلال. والدعوة، المطلوب فيها أن تكون على بصيرة وعلى نور وعلى وضوح، كأنك تبصر الأمر بعينيك. فمن هاهنا ليست الدعوة مطلقة ولكنها مقيدة بالعلم لأنها على بصيرة، أي مقيدة بالبصيرة: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ﴾ (يوسف: 108).
أسس تحصيل العلم الشرعي والفقه الدعوي
إن الدعوة في حاجة كبيرة إلى العلم بالشرع، والفقه بكيفية تنزيله في واقع معلوم، إلا أن هذا العلم يحتاج إلى أسس يقوم عليها، وهذه الأسس هي:
1- إخلاص الدين لله سبحانه وتعالى: ﴿أَلاَ للهِ الدِينُ الْخَالِصُ﴾ (الزمر: 3)، ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلاَ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّين﴾ (البينة: 5)، وفي الحديث الشريف: “أخلِصْ دينَك يَكْفِك العملُ القليلُ” (وراه الحاكم)، وأخلص دينك معناه: خلِصْه من الشوائب التي تمنع قبوله، إذ كل عمل تسرَبتْ إليه شائبة شرك لم يُقبَلْ، ولم يكنْ عبادةً لله، لأن الله سبحانه وتعالى أَغْنى الشُركاء عن الشرك.
2- الاجتهاد في تحري الإصابة للحق والصواب باتباع السنة: أيْ أن مقتضى “لا إله إلا الله”؛ إخلاصُ الدين لله، ومقتضى “محمد رسول الله”؛ تَحَري السنة. والسنة في زمانه صلى الله عليه وسلم هي ما نقل إلينا، أما ما جدَّ ويجِدُ بعد زمنه صلى الله عليه وسلم، فهو ما يُجتَهد فيه لإصابة السنة بالاجتهاد الشرعي انطلاقًا من كتاب الله سبحانه وتعالى وانطلاقًا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى هذين الأساسين يقوم العمل، أي العمل الذي فيه سد الحاجة.
3- قراءة الكون قراءة ربانية: وهذه القراءة مأخوذة من قوله تعالى: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَذِي خَلَقَ﴾ (العلق: 1)؛ فإن الأمر بالقراءة مقيد بهذا القيْد: ﴿بِاسْمِ رَبِّكَ﴾، وهاته اللفظة لفظة “بِاسْمِ اللهِ” هي منهاج كامل يضع جمارك تَمنَع استقبال ما لا ينبغي، وأيضًا تمنع إرسال ما لا ينبغي. وهذا من أسرار الحرص على ذكر اسم الله في كل شيء.
وفي زماننا أيضًا صوَرٌ من قيام الأمور باسم غير الله وذلك مفسد للعبادة، إذ لا عبادة إلا إذا كانت بـ”اسم الله”، أي على ميزان الله، لأن “باسم الله” تعني الاستئذان، وتعني التبرؤ من الحَوْل والطَوْل، وتعني أن “لا حول ولا قوة إلا بالله”، وقبْل ذلك أنت مستأذِنٌ للهِ في ذلك الفعل الذي فعلتَه، وحسَب الفعل تكون قيمةُ “باسم الله”. ومن هنا صار الذبح الذي لم يُذكَر عليه اسم الله حرامًا: ﴿وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَهُ لَفِسْقٌ﴾ (الأنعام: 121). القراءة بـ”اسم الله” هي المنطلق في صياغة النموذج المطلوب الذي به تتم الشهادة على الناس، ومنه تتكون الأمة الشاهدة على الناس بعدما أصابها ما أصابها. هذا هو المنطلق في إعادة إنتاج مثل هذا النموذج من جديد، وهو المنطلق أيضًا في إنتاج بيئة عامة كذلك، داخل دائرتها يعيش ويتنفس هذا النموذج، إذن هو أمر موجَه إلى الأمة جملة.
المؤسسات التعليمية والقراءة باسم الله
ويمكن تحقيق هذا الأمل: أمل صياغة النموذج المطلوب، بالدفع في اتجاه تعليم العلم الشرعي بكل الوسائل الفردية والجماعية في جميع الأمكنة، بجميع الطاقات، بجميع الوسائل للدفع في هذا الاتجاه: اتجاه إقراء الأمة “باسم الله”، إقراء الأمة أو بقايا الأمة، إقرائها “باسم الله”؛ أي تعليمها الإيمان والفهم لقراءة كل شيء باسم الله. هذا الدفع في هذا الاتجاه في غاية الأهمية للانطلاق الصحيح، وتهيئة المناخ الطبيعي الذي يتنفس فيه النموذجُ الذي يجب صياغته من أجل إعادة الأمة الشاهدة إلى الأرض، ونقلها من واقعها الآن إلى موقعها الرفيع الممتاز، هذا الإقراء ينبغي أن يُدفَع فيه عن طريق الجهود الجماعية، والجهود الفردية، والمؤسسات العامة، والمؤسسات التعليمية خاصة.
هذا توجه إستراتيجي في السير البعيد المدى وليس من نوع ما يُفعَل فينقطع أثره في زمن قصير، أو يتجه إلى دائرة صغيرة، بل هو تأسيس للميدان كله وتحضير للأرض كلها، هذا ضروري ويجب أن يُفقَه هذا الأمر، ويُجتهَد فيه، سواء في الصورة العصامية حين يتجه المرء إلى نفسه ليُعدَ نفسه -والله يعينه- أو حين يتعاون مع غيره على البر والتقوى في صياغة هذا النموذج، ذلك أيضًا مطلوب لتحضير المحيط العام. فالدفْع في هذا الاتجاه قدْرَ الطاقة، أساس الانطلاق؛ الانطلاق الفردي والجماعي، وأساسٌ كبير في اتجاه تلبية حاجات الأمة إلى العلم. فلْيَجعَلْ كلُ واحد منكم نفسه مدرسةً، ليجعل من نفسه مدرسة لنفسه ولغيره؛ إن المسلم بحُكْم إسلامه، في موقع الإرسال لا في موقع الاستقبال، ولكنه لن يستطيع الإرسال إلا إذا امتلأ وفاض، إلا إذا امتلأ علمًا ثم صار كالنبع الفياض يخرج منه العلم والإيمان… فهذا ما أقصده بأن يجعل من نفسه مدرسة لنفسه ولغيره، ليجعل من بيته مدرسة، ليجعل ممن معه مدرسة للإقراء “باسم الله”، ليجعل من موقعه في التعليم العام والخاص مدرسة للإقراء “باسم الله”.
الدفع بهذا الاتجاه بأقصى جهد، هو دفعٌ للأمة لسد حاجات أساسية كحاجة الماء والهواء، وحين نقول: حاجةُ هذه الأمة، فهي حاجةُ الدعوة الإسلامية.
بعد ذلك تحتاج الأمة الإسلامية إلى مستوى آخر، به تفعل الفعل التاريخي المطلوب، وطريق تلبية هذه الحاجة هو الدفع في اتجاهات ثلاثة كبيرة جدًا بالنسبة لأهل العلم في الأمة:
الدفعُ في اتجاه التجديد في العلوم الشرعية، والدفع في اتجاه الآدمية في العلوم الإنسانية، والدفع في اتجاه النفعية في اتجاه العلوم المادية، وذلك يكون بتصنيف القارئين باسم الله الذين فَقِهوا هذا الدين، وفَقِهوا تخصصاتهم لاستيعاب ما هو كائن لدى الأمة ولدى غير الأمة، لأنه بالفعل الحضاري المرشح بحكم مستواه لأن يقتبس منه الغير، والمرشح فاعلُه للإمامة على الناس يقع التغيير الحضاري الراشد.
هذا الفعل لا بد أن يكون علميًا، ولا يكون علميًا حتى يُستوعب الموجود استيعابًا كاملاً تحليلاً وتعليلاً سواء في العلوم الشرعية، أو العلوم الإنسانية، أو العلوم المادية، ثم تقويمها، ثم أخيرًا أسلمتها، أي بناؤها بناءً وفق توجيه الدين، وذلك بجعل علم الدين مهيمنًا عليها موجِهًا لها. وبذلك الفعل الحضاري تستحق الأمةُ الإمامةَ والشهادة على الناس. هذا أفقٌ بعيدٌ، ولكن ينبغي السير فيه من الآن؛ لأن العلم بالاتجاه والهدف في غاية الأهمية للدفع في ذلك الاتجاه.
المصدر: مجلة حراء