أ. د. أسعد السحمراني
إنّ الحديث عن قيم الإسلام التي تحدد حقوق الإنسان، وبها تكون سعادة الفرد والمجتمع؛ لأن الإسلام أصّل للتوازن بين حقوق الفرد وحقوق المجتمع بحيث لا يطغى أحدهما على الآخر، يحتاج للبدء من نقطة الارتكاز ألا وهي موقع الإنسان بين سائر المخلوقات.
ينطلق النص في الإسلام بشأن الإنسان من موقع الخصائص المميّزة له عن المخلوقات الأخرى؛ حيث أعطاه الله تعالى من الصفات والسمات ما يرتقي به باتجاه الكمال، وهذا غير متوافر لسواه في الكون. جاء في الآية الكريمة: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} (التين: 4).
هذا المخلوق المتميّز عن سواه، والذي كان في أحسن تقويم أعطاه الخالق سبحانه مكانة يتفرد بها هي مهمة الاستخلاص في الأرض، وفي هذا الاستخلاص تحميل للمسؤولية، وحمل لأمانة هي الإعمار والإدارة السليمة ونشر الصلاح ومقاومة كل إجرام أو ظلم أو سفك للدماء، وفي النص القرآني بيان وبلاغ حول هذا الأمر، قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة: 30-31).
إنّ الإنسان المستخلف في الأرض أُعطي نعمة العقل ومعه علم الأشياء والأسماء، والاقتدار على الاكتشاف والابتكار، ونبهه النص بلسان الملائكة إلى أنّ الإنسان الذي يريد القيام بمهمة الاستخلاص بحقّها يجب عليه أن يطيع الله تعالى ويسبح بحمده، وأن يبتعد عن الإفساد وسفك الدماء.
والإنسان المستخلف في الأرض وحامل الأمانة يحتاج حياة مستقرة تتوافر فيها أسباب العيش بشكل سليم كي تكون له السعادة، هذا الإنسان وهبه الله تعالى تكريما يحقق له فضلا وتفصيلا. قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا} (الإسراء: 70).
يكرم الله تعالى الإنسان المستخلف في الأرض، ويعطيه حرِّية الحركة استثمارا وسعياً حيث أراد برّاً وبحراً، وقد خلق الله تعالى من الرزق الكثير، وتركه للإنسان يحصل الطيّب منه لحاجته، والإنسان مفضل مقدم على سائر المخلوقات، وهذا يلغي كل استرقاق أو استعباد أو تسخير للإنسان من أجل شجر أو حجر أو ثروة، والمعلوم أن بعض الشعوب قديماً وحديثاً سادتها أفكار، وتسلط عليها حكام ظالمون سخروا، ويسخرون الإنسان لتكديس الثروات جشعاً من قبلهم، ومن أجل تشييد المباني بدءاً من أهرام الفراعنة في مصر إلى ناطحات السحاب من العمارات الشاهقة الارتفاع في نيويورك، وهذا لا يتناسب مع روح الإسلام وجوهره الذي يؤكد على مركزيتين بشأن الإنسان هما: الاستخلاف والتكريم، وهاتان المركزيتان تقضي بهما القاعدة التي قضى فيها الخالق سبحانه بأنّ الإنسان مخلوق في أحسن تقويم.
والمركزية التي يقوم عليها التشريع الإسلامي في عمومه هي: الرحمة. والرحمة مطلوبة من الناس مع بعضهم، ومن الإنسان في التعامل مع الحيوان، والبيئة، والثروة، وسائر ما في الكون لأنّ الرحمة تحقق العدل، وإذا غابت الرحمة حلّ الجور والظلم وهذا أمر يتنافى مع الإسلام. إنّ الرحمة مطلوبة في الأمور كلها أيّاً كانت متعلقاتها أو ميادينها، فالرحمة ملاك وإطار لكل أمر من أمور الحياة في الاقتصاد والسياسة والتربية والحياة الزوجية، وفي الأسرة، وشبكة العلاقات الاجتماعية، وفي علاقات الأمم والدول والمؤسسات والأفراد… إلخ.
وقامت منظومة حقوق الإنسان في الإسلام على هذه الأسس من حقّ الحياة إلى حق التناسل بعد الزواج إلى حق العمل، وحرية المعتقد وحرية الفكر وحرية الانتقال وحرمة المسكن وسائر الحقوق والحرمات، ولا يحتاج البحث للتفصيل فيها لأن مادتها متوافرة في مواقع وأبحاث وكتب ودراسات، ولا ضرورة للتكرار.
أما من يخالفون منظومة القيم والحقوق المتعلقة بالإنسان فإنّ الله تعالى توعّدهم بعذاب أليم جزاء ما فعلوا. قال تعالى: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (الشورى: 42).
والحقوق في الإسلام، والعدل في الإسلام، والرحمة في الإسلام، إنما هي عامة مضمونة لكل إنسان أيّا كان معتقده وانتماؤه.
والمسلم مطالب أن يكون متوازناً بحيث يعمل للدنيا عملها ويعمل للآخرة عملها، ولسانه يلهج دوماً بالدعاء الذي ورد في النص القرآني، وفي الآية: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (البقرة: 201).
إنّ سعادة الدارين هي المقصد، ومن أجلها تكون الأفعال كلها دون أن يطغى الاهتمام بدار دون أخرى.
توصيات واقتراحات
يتطلع الناس في كل المجتمعات والأُمم والدول، ومنها الوطن العربي والعالم الإسلامي عموماً إلى عالم مستقر تتحقق فيه السعادة للإنسان المستخلف في الأرض، وهذا الأمر لن يتحقق بغير خطوات واجب اتخاذها لرد تحديات فلسفات الأرقام والكميات التي تطرح رأسمالية متوحشة تذهب بأبسط حقوق الإنسان، ومن أجل وقف مخاطر الليبرالية التي تقدس الفرد، وتعطيه الفرصة لاستباحة كل ما للآخرين، هذا بالإضافة إلى إزالة كل احتلال أو استعمار، وإعطاء حق العودة وتقرير المصير لكل مواطن على أرضه وفي وطنه، ولهذه الغايات والمقاصد تفيد الاقتراحات التالية:
1- تعزيز الدعوة إلى الإيمان بلا تعصب، ونشر قيم الدين التي حملتها رسالات السماء، وخاتمها الإسلام من أجل الإنسان المستخلف في الأرض. وإذا كان التدين ضمانة لمجتمع مستقر، فإنّ التعصب والغلو يشكلان عاملي هدم لشبكة العلاقات الاجتماعية بين المنتمين لدين واحد.
2- لقد طالب الإسلام المسلم بألا ينال منه أذى لما يعتقده الآخرون؛ لأنّهم عندها سيصدرون ما يسيء للعزّة الإلهية.
قال تعالى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ…} (الأنعام: 108).
3- في الدائرة الحضارية الإسلامية يحتاج الواقع إلى إعادة النظر من قِبَل مدارس فكرية وحركات حيث يجد المتابع من يركز على العامل الروحي أو يقف عند العبادات، ويهمل نظام المعاملات، أو يأخذه من منابع غير إسلامية؛ فتحصل عنده شخصية مزدوجة، وهناك من يبالغ في الركون إلى العقل، ويعمل لعزل قيم الدين عن الفعل في المنظومة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، عموماً وهو ما يعرف بالعلمانية اللادينية (Laique)، وهذا التعطيل لدور الدين يجعل حالة تحلل من القيم والمثل الخلقية تسود فتتولد وحشية تنحط بأصحابها.
4- إنّ التنمية البشرية أسّ من أساس النهوض الحضاري من أجل الإنسان، والتنمية تحتاج الكم والكيف. لقد دقّ مالتوس عالم الاقتصاد النفير منذ نهايات القرن الثامن عشر محذراً من الزيادة السكانية، وأنها ستؤدي إلى مجاعة. وها هو العالم اليوم قد قارب 7 مليارات إنسان ولا مشكلة في المواد مع التقدم العلمي والتقني إنما يأتي الخلل من القسمة الضيزى للثروة حيث الاستغلال والاحتكار والنهب والاغتصاب، ولو أحسن الجميع التعامل مع الإمكانات والثروات لما كان فقر ولا مرض.
الإنسان هو الرأسمال الأهم والحفاظ على حياته مع استمرارية النوع بالتوالد غريزة وفطرة، فالتكاثر حاجة كما تنمية المعارف والكفايات للفرد، وتطوير إمكاناته بالتدريب المستمر حاجة، والزيادة في الكم والكيف في البشر عامل حاسم لصنع الحضارة من أجل مجتمع أفضل.
5- يحتاج الواقع إلى توجيه دعوات لكل أصحاب المال والاستثمار والعلم، وإلى أهل الاكتشاف والاختراع كي يتجهوا إلى حيث الحاجة إليهم فبدل أن تكون التخمة في بلد، والحاجة الملحة في بلد آخر – يكون الحلّ بالتوزيع العادل مما يعمم التنمية والازدهار.
6- مؤسسة العمل ضرورة على المستويات كافة. فالواقع ينطق بأنّ المؤسسات والعمل الجماعي هما الأدوم، ومنهما الضمانة للاستمرارية لأنّ عمر المؤسسات أطول من عمر الأفراد.
وهذا يقتضي أن يخرج كل فرد من الأنا إلى الآخرين ضمن منظومة قيم أخلاقية لأنّه لا يمكن لاجتماع إنساني أن تستقر العلاقات فيه، ولا أن يتقدم، ويحقق ما فيه هناءة الإنسان وسعادته إن لم تسوده الأخلاق، وخيرها ما كان من هدي إلهي يسمو بالفرد والمجتمع، والملتزم به يتسامى ليلامس الطبائع الملائكية، ومن كان بلا قيم أخلاقية ينحط ليكون في مستوى أدنى يجعله أقرب إلى التوحش. وهنا يكون دور المؤسسات التي تربّي وتحسّن، وتمارس التنشئة للأجيال على دروب الخير والحق والعدل والجمال.
كل ذلك من أجل الإنسان وسعادته فرداً ومجتمعاً، وما كانت الرسالات السماوية إلا من أجل سعادته الدنيوية والأخروية، ولا تمت صياغة الفلسفات والنظريات التربوية والاجتماعية، ولا الفكر الإصلاحي، ولا قامت الثورات إلا من أجل الإنسان، فهل آن للجميع أن ينتصروا للإنسان ضد كل ظالم ومحتل ومغتصب لحقوقه أو معتدٍ على حرماته؟
المصدر: موقع البلاغ.