الانفصام الدعوي (2 /5).. مع النفس

الشاعر محمد إقبال مصلحا تربويا

د. أحمد عبد الحميد عبد الحق*

محمد إقبال

كان يسعى لإعادة ثقة المسلمين بأنفسهم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين، وبعد…

فإن الراحل محمد إقبال يعد من المفكرين القلائل الذين عرفتهم أمتنا في العصر الحديث، بل هو كما قال الندوي “أنبغ عقل أنتجته الثقافة الجديدة، التي ظلت تشتغل وتنتج في العالم الإسلامي من قرن كامل، وأعمق مفكر أوجده الشرق في عصرنا الحاضر”.

وتميز عن كثير من المفكرين الآخرين في أن “القرآن الكريم قد أثر في عقله وفي نفسه ما لم يؤثر فيه كتاب ولا شخصية، ولم يزل إلى آخر عهده بالدنيا يغوص في بحره، ويطير في أجوائه، ويجوب في آفاقه، فيخرج بعلم جديد، وإيمان جديد، وإشراق جديد، وقوة جديدة”. وقد نظر حوله فوجد المسلمين وخاصة في الهند بعيدين عن القرآن الذي نشأ عليه، والإيمان الذي ذاق حلاوته، رأى ضعفا فيهم  كأفراد وكجماعة، ورأى ركودا في أفهامهم للإسلام، ورأى عزوفا منهم  – وبالأخص في الهند- عن حياة الواقع والحس… رأى إنسانا سلبيا في كل جانب، ورأى مع ذلك في إسلامه ديناً إيجابياً في كل جانب… رأى من جانب إنسانا لا يصلح لهذه الحياة، ورأى من جانب آخر ديناً هو لهذه الحياة، والحياة الأخرى معا.

فقال واصفا إياهم “مسلمون ولكن عقولهم تطوف حول الأصنام.. عقول وقحة، وقلوب قاسية، وعيون لا تعف عن المحارم، وقلوب لا تذوب بالقوارع، كل ما عندهم من علم وفن ودين وسياسة، وعقل وقلب، يطوف حول الماديات، قلوبهم لا تتلقى الخواطر المتجددة، وأفكارهم لا تساوي شيئاً، حياتهم جامدة، واقفة، متعطلة” . فانطلق حاملا هم إعادتهم لمفهوم الإسلام الحقيقي الذي تشبعت به روحه، وقد كان ـ رحمه الله ـ مثالا للمربي الفاضل الذي تحتاج الأمة لأن تنهل من وسائله التربوية ؛ لكي تنهض من كبوتها وتستفيق من غفوتها وتصحو من نعاسها، وقد ساعده على ذلك أنه رُبي تربية صالحة، بدت في سلوكياته ولجوئه الدائم إلى الله عز وجل، حيث كان دائم القول في تضرعه: ” يا رب لا تحرمني أنَّة السّحر، يا رب اجعلني من البكائين الخاشعين لك في السحر، يا رب إذا حرمتني جلسة السحر فإن قلبي يقسو ولن يلينه شيء”.

ثم حاول أن يعمم تجربته التربوية بعد أن أضاف إليها خبرته ومعارفه الثقافية التي حصلها من خلال دراساته المتعددة في الغرب، وذلك بعد أن رأى: ” أن المناهج التعليمية الحديثة تحسن أن تعلم أبناءنا المعارف والمعاني والعلوم، ولكنها لا تحسن أن تعلم عيونهم الدموع، ولا قلوبهم الخشوع. وزيادة على ذلك فإن هذا التعليم صار كالحامض:” الذي يذيب شخصية الكائن الحي ثم يكوِّنها كما يشاء، إن هذا الحامض ( يقصد التعليم ) هو أشد قوة وتأثيراً من أي مادة كيماوية، وهو الذي يستطيع أن يحول جيلاً شامخاً إلى كومة تراب » ويواصل حديثه فيقول:” حتى لا تتحول الأجيال إلى كومة تراب لابد من إعادة النظر في مناهج التعليم”.

وهذا الأمر تجاوز في عهده إلى التعليم الديني، حيث أصابه الجفاف، وركز الشيوخ فيه على اتساع العلم وتضخمه على حساب العاطفة والحب ولوعة القلب، فيقول: “إن العالم الديني لا يحمل هماً، إن عينه بصيرة، ولكنها جافة لا تدمع، لقد زهدت في صحبته لأنه علم ولا همّ، وأرض مقدسة ولا زمزم”.

ويقول أيضا: “فما أفقر العالم الديني الذي يحمل علما جما، ولسانا بليغا، وعقلا مستنيرا، ولا يحمل دمعة في عينه، ولا لوعة في قلبه، إنه أخذ من الأرض المقدسة خشونتها وصلابتها، ولم يأخذ منها رطوبتها ونداها”.

ولذلك حرص في دعوته على تخليص النشء من أسر هؤلاء الشيوخ فقال: “إنك أيها المسلم لا تزال أسيرًا للمتزعمين للدين، والمحتكرين للعلم، ولا تستمد حياتك من القرآن رأسًا، إنه الكتاب الذي هو مصدر حياتك ومنبع قوتك، لا اتصال لك به إلا إذا حضرتك الوفاة، فتُقرأ عليك سورة «يس» لتموت بسهولة. فواعجبا! قد أصبح الكتاب الذي أُنزل ليمنحك القوة يتُلى الآن لتموت براحة وسهولة… أقول لكم ما أؤمن به وأدين: إنه ليس بكتاب فحسب، إنه أكثر من ذلك، إذا دخل القلب تغير الإنسان، وإذا تغير الإنسان تغير العالم..

وقد انطلق مبلغا تلك الأفكار التي تعمقت في ذهنه لعامة المسلمين، وقد وضع أمامه وهو يرسخ لتلك المبادئ التربوية مكانة المسلم الحق من العالم ليكون منهجه التربوي وسيلة لإنشاء هذا الكيان المسلم فقال: “إن المسلم لم يخلق ليندفع مع التيار، ويساير الركب البشري حيث اتجه وسار، بل خلق ليوجه العالم والمجتمع والمدينة، ويفرض على البشرية اتجاهه، ويملي عليها إرادته، لأنه صاحب الرسالة وصاحب العلم اليقين ؛ ولأنه المسئول عن هذا العالم وسيره واتجاهه، فليس مقامه مقام التقليد والاتباع، إن مقامه مقام الإمامة والقيادة ومقام الإرشاد والتوجيه”.

ورغم ذلك لم يسع من وراء دعوته للإصلاح التربوي إلى تهذيب الجانب الروحي فقط، وإنما إلى: “بناء حضارة راقية صالحة تسعد في أعطافها البشرية، ويعم فيها العدل والخير والأمن، وإخراج مجتمع متطور إنساني يحتاج إلى أناس طيبين أحرار يعتزون باستقلالهم في كل المجالات وبكرامتهم ويثقون في أنفسهم…

نعم لقد كانت دعوته الإصلاحية التربوية تقوم “على إعادة الاعتبار للإسلام، وإخراجه من دائرة الشكوك والشبهات من جهة، وإبعاده عن الركود والجمود من جهة ثانية.. متصدية لتيارات الإلحاد التي جاء بها الفكر الغربي الذي دخل العالم الإسلامي مع دخول الحضارة الأوروبية الحديثة إلى حياة المسلمين وتأثرهم بها. ولأفكار الفلاسفة التي شغف بها المثقفون في عصره بعد اطلاعهم على الحضارة الأوربية فقال: “إن بني آدم يطلبون الثبات ويطلبون دستورا للحياة، ولكن الفلسفة لا تساعدهم في ذلك بالعكس من ذلك، إن المؤمن إذا نادى الآفاق بأذانه أشرق العالم واستيقظ الكون”.

متخذا في ذلك عدة وسائل منها العمل على إعادة ثقة المسلمين بأنفسهم فقال: ” يجب أن نكون مؤمنين بأنفسنا كافرين بالإفرنج، فالكفر بقداسة الغرب وإنكار كونه معيار الصدق والصلاح هو الخطوة الأولى والخطوة الوحيدة التي توصلنا إلى تجديد العلوم والآداب، فبعد تجديد الإيمان بصدق فكرنا الإسلامي وصلاحية شريعتنا الإسلامية الغراء، والكفر بالكفر الغربي العلماني والفكر الشيوعي الإلحادي نتمكن من إحياء المناهل الإسلامية التي تبدو وكأنها جفت وذبلت بعد سيطرة الغرب الحضارية والفكرية والعلمية، فبعد أن أحيينا هذه المناهل تصبح علومنا الإسلامية وآدابنا ذات حيوية ومغالية، وتنطلق من حيث وقفت وجفت، إن واجبنا نحن –المسلمين- هو أن نراقب تطور الفكر البشري بكل يقظة وانتباه، ونحتفظ بوجهة نظر حرة انتقادية تجاه هذا التطور.

ولقد كانت محاولته الفكرية هذه تستهدف تقديم الإسلام باعتباره رسالة إلى الإنسانية جمعاء، وعلى الأخص للمسلم، في وقت سيطر فيه الطابع التجريبي المادي على المعرفة الإنسانية، فهي فلسفة تسعى إلى كشف قيمة الإسلام وقيمه الذاتية عند الإنسان التجريبي، وهو الإنسان الغربي والإنسان ..

وفي سبيل تعميق ذلك أرجع النشء المسلم إلى مصدر المعرفة الصحيحة فقال:  «والقرآن يصرح بوجود مصدرين للمعرفة هما الطبيعة والتاريخ، وروح الإسلام تتجلى في أحسن صورها، وهي تفتح طريق البحث في هذين المصدرين، كما جاء في الآيات التي تذكر الشمس والقمر وامتداد الظل، واختلاف الليل والنهار والألسن والألوان، وتداول الأيام بين الناس، وهذه الدعوة إلى عالم الحس والاستشهاد به هي التي انتهت بالمسلمين إلى الاتجاه التجريبي العام، وجعلت منهم آخر الأمر واضعي أساس العلم الحديث»

واعتماده على هذين المصدرين للمعرفة جعله يهاجم المذاهب والفرق المنحرفة التي زاغت عنهما، سواء تسبب هذا الزيغ في البعد الكامل والخروج عن الإسلام مثل القاديانية التي انتشرت بالهند في عصره، أو التي انحرفت انحرافا جزئيا عن الإسلام كالعلمانية أو الصوفية .

كما حرص على تربية المسلمين على العزة عن طريق تذكيرهم  بمجد الآباء، وخاصة العرب الذين خاطبهم بقوله: إن اللهَ قد رزقكم البصيرةَ النافذة، ولا تزال فيكم الشرارةُ كامنةً، فقوموا أيها العرب ورُدُّوا فيكم رُوحَ عمرَ بن الخطاب مرة أخرى.

ولما كان الاحتلال أو ما سمي بالاستعمار أُس البلاء الذي حل بالأمة فإنه في دعوته الإصلاحية كان يسعى إلى تربية المسلمين على مبدأ الوحدة الذي جاء به الإسلام ليكون سبيلا لتحررهم، فقد قال في المؤتمر الإسلامي الذي عقد في القدس سنة 1338 هـ: إن الإسلام مهدد بخطرين مصدرهما الغرب؛ أولهما الإلحاد، وثانيا الاستعمار، ومستقبل العرب رهن بوحدتهم، فإذا تمت الوحدة العربية علا شأن المسلمين في كل أنحاء الأرض، والعرب يحاولون الوحدة الآن خارجة عن نطاق الإسلام، وأنهم لا يتوصلون إلى الوحدة الحقيقية التي تنتظرها الشعوب الإسلامية منهم.

وباختصار: فقد استطاع محمد إقبال بجهوده التربوية أن يحفظ كيان المجتمع الإسلامي من الذوبان والتلاشي ويعيده إلى الجادة.

ــــــــ

* مدير تحرير موقع التاريخ الإلكتروني.

** المصدر: موقع التاريخ.

مواضيع ذات صلة