الانفصام الدعوي (2 /5).. مع النفس

بوارق دعوية من حياة أبي الأنبياء

حازم علي ماهر

تحطيم القيود

ابدأ بتحطيم قيودك قبل قيود الآخرين

قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} (النساء: 125).

قبل أن تقرأ هذا المقال عليك أولاً أن تتأمل في تلك الآية التي تمتدح من يُسلم وجهه لله وهو محسن ثم تربط ذلك باتباع ملة إبراهيم الذي اتخذه الله خليلا، وكأن الآية كلها مديح في إبراهيم وحث على الاحتذاء به، وكيف لا وهو من أسلم وجهه لله وسمَّى أمة كاملة بالمسلمين مصداقًا لقوله تعالى: {…مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ…} (الحج: 78).

والمتأمل في حياة أبي الأنبياء إبراهيم الخليل سيكتشف بالضرورة أنه لم يكن فقط أسوة حسنة في إسلامه وإحسانه، بل إنه كان كذلك أيضًا في بحثه عن الحقيقة، فقد تحلى بصفات وسار على نهجٍ سديدٍ أَولَى بالنظر والاقتداء، ومن ثم يحاول هذا المقال أن يستخرج من سيرة هذا النبي العظيم ما قد يعين كل سائر على الدرب، وكل متسائل عن الرب، فكانت هذه بعض الإضاءات التي أرشدنا إليها إبراهيم عليه السلام بعمله المخلص الدؤوب لا بالشعارات والمقولات الفارغة:

كن مخلصًا:

لابد أن تظهر أولا الإخلاص لله ولا يكن بحثك عن الحقيقة مجرد تكأة للتخلص من التزاماتك الدينية والأخلاقية واتباعًا لهواك، بل على العكس، فإن عليك أن تُسَخر كل حواسك وكل تركيزك على البحث عن إجابة لتساؤلاتك الكبرى: من أنا؟ وكيف خُلقت؟ ومن  الخالق؟ وما العلامات الدالة على وجوده؟ ولك في الباحث المخلص سيدنا إبراهيم أسوة حسنة في إخلاصه ونيته الجادة في الوصول إلى الحق، وفي عقده العزم على ألا يترك تساؤلاته دون إجابات تُطمئن قلبه مهما كلفه الأمر.

اجعل شعارك “إني ذاهب إلى ربي سيهدين”:

فهذا هو الشعار الذي ينبغي أن تتبناه قبل تحطيم الأصنام وبعده، فأنت تبحث عن رب عظيم لن يتأخر عن إغاثتك وهدايتك إليه، بل سيتقرب منك أضعاف ما تتقرب إليه، حتى تصل إلى أن يملأ كل كيانك ويهدي قلبك، وهذا ما فعله إبراهيم عليه السلام؛ واجه بهذا الشعار قومه والدنيا بأسرها فانظر إلى أي مكانة قد وصل: إنه خليل الرحمن وأبو الأنبياء!

ليكن شكك منهاجيًا لا عدميًا:

فأنت تشك لتصل لا لتنفصل! وعلى الرغم من أن البعض ينفي عن سيدنا إبراهيم “فضيلة” الشك، فإنهم يقصدون بذلك تساؤله عن كيفية إحياء الله للموتى لا عن مرحلة بحثه عن الحقيقة قبل أن يوحي الله إليه، لقد كان إبراهيم يشك في أن الأصنام هي التي أبدعت هذا الخلق العظيم، ثم شك في ديانات العرب جميعها في زمنه حتى رأى الله عز وجل وآمن به حق الإيمان… فكن مثله إذًا: أن تشك لتصل إلى هدف محدد لا أن يكون شكك عبثيًا، تشك لمجرد الشك، فتبعد عن الحقيقة وأنت تدعي أنك تحاول أن تقترب منها، وتهدم الأصنام لتبني الأوهام!

حطم أصنامك أولاً:

نعم، فقبل أن تسعى إلى تحطيم أصنام الآخرين حرر نفسك من أصنامك التي من شأنها أن تحبط سعيك إلى الحقيقة دون أن تدري غالبًا، ومنها صنم الهوى الذي سيهوي بك حتمًا لو اتبعته واتخذته إلها، هو وغيره من الأصنام الملحقة به، كالشهرة، والحقد، والانتقام، والفخر، والسلطة، والشهوة،… فإبراهيم الخليل لم يحطم الأوثان إلا بعد أن تجرد من كل الشهوات إلا شهوة المعرفة، فلم يرد عنه قط أنه سعى إلى اعتلاء أية سلطة، مادية كانت أو معنوية، حقيقية أو رمزية، وكان من علامات تحطيمه لأصنامه الذاتية بيعه للدنيا وما فيها، وعدم المبالاة بالموت ثمنًا لوصوله إلى الحقيقة.

اعلم أن تحطيمك للأصنام هو بداية الطريق لا نهايته:

فهدمها يهدف إلى تحرير الفكر لينطلق في الملكوت يبحث عن خالقه، ولذا فإن مسيرة إبراهيم الخليل لم تنته بتحطيم الأصنام بل كانت لا تزال في بدايتها، حتى إنه لم يُبعث نبيًا إلا بعد أن حطمها ووفىَّ على حد التعبير القرآني البليغ: “وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى” (النجم:37).

  لا تنشغل بمن أحاطوا بك:

فهم قد رأوا إبراهيم يخرج سالمًا من النار وكأنه خارج من الجنة، فلم يؤمن بالرحمن الذي نجاه إلا قليل منهم، ولم يرفعوا إبراهيم على الأعناق، بل ظلوا عاكفين على صنمهم الكبير! إنهم إن لم يحاربوك فعلى الأقل لن يحبوك لأنك تفضح سذاجتهم وقبولهم باتباع الآباء صمًا وبكمًا وعُميانًا، معطلين عقولهم التي وهبهم الله إياها لإعمالها لا لإهمالها.

ركز على هداية الآخرين لا على تحديهم والسخرية منهم:

فلا تركز على إهانة مخالفيك بل على إثارة فكرهم، وهذا ما تحاشاه تمامًا إبراهيم الخليل، فهو حينما حطم الأصنام لم يشتُم عبيدها أو يُهنهم، كما يفعل البعض اليوم من استخدام ألفاظ شديدة البذاءة في وصف مخالفيهم، بل ركز على أن يجعل من فعلته الشجاعة فرصة ليصدم ثوابتهم ويجدد نظرهم فيها، لا للسخرية منهم أنفسهم، وكذلك فعل في مواجهته للملك؛ اختار أن يحرك تفكيره بدلا من تحديه والسخرية منه، فتجاهل زعمه السطحي بأنه يحيي ويميت، وصرف نظره إلى التأمل في حقيقة عجزه عن أن يأتي بالشمس من المغرب كما يأتي الله بها من المشرق، وهي مجرد آية من آيات الله سبحانه التي لا تُعد ولا تحصى.

إياك واستخدام العنف:

فالباحث عن الحق لا يعتدي على الخلق –قولا أو فعلا- بل يسعى لأن يهتدي ويهدي لا أن يقتل ويهدد ويهدم، يأخذ بأيدي الناس لا بأمنهم وأمانهم فيقطع رقابهم ويُيَتم عيالهم! على عكس إبراهيم الخليل، الذي كان سالمًا مسالمًا، لم يحطم سوى آلهتهم الوهمية، مبرهنا بذلك على أنها تفتقر إلى القدرة حتى على أن تدافع عن نفسها، وقد كان هدمه للأوثان –في حقيقته- جبرًا للحقيقة وانتصارًا للعقل ولكرامة الإنسان.

اصبر على ما أصابك:

فهذه هي ضريبة السعي للإصلاح، وإن لم تُسَلِّم بذلك فدلني على مصلح من المصلحين لم يصبه الأذى، سواء كان مصلحًا دينيًا أو اجتماعيًا، أو فكريًا، أو علميًا… ذلك أن الإصلاح هو في حد ذاته ثورة على المألوف حتى لو جرت بشكل هادئ واعتمدت على الجدال بالتي هي أحسن، ولذا فقد ابتلي إبراهيم من قومه حتى أنهم ألقوه في حفرة مشتعلة بالنار، فلم يهتم وصبر عليهم حتى خرج منهم نبي آخر، وهو سيدنا لوط عليه السلام.

وطِّن نفسك على الابتلاء الرباني:

نعم، فقد ابتلى الله إبراهيم بكلمات “فَأَتَمَّهُنَّ“، واختبره في ثباته وهو فرد في مواجهة مجتمع جاهلي، وفي حبه لأبيه، وفي ولعه بولده، وفي تركه لزوجته وابنه في الصحراء القاحلة.. فأنت كذلك ستبتلى على قدر إخلاصك لأنك تطلب الحقيقة التي ستنجيك وتهدي قلبك وتسعدك في الدنيا والآخرة، فكيف تتعجل الوصول ولا تصبر عليه وتنتصر على كل الابتلاءات التي تعترض طريقك أو تختبر ثباتك وإصرارك على العثور على الحقيقة التي تريح قلبك وتقنع عقلك؟!

كن إيجابيًا:

وابحث عن الحق بدلا من أن تسارع برفع شعار الإلحاد! فها هو إبراهيم الخليل حين كفر بالأصنام نظر في الكون لعله يجد ما يقتنع بأنه الخالق، ولم يستسلم للسلبية ويزعم أنه بما أن الأصنام لا تصلح أن تكون إلهًا فلا إله، وها أنا قد ألحدت وسأقنع الناس بإلحادي! بل ظل في عملية بحث شاقة عن سر الخلق ومُوجده، تعرض خلالها لأبشع خطر ممكن أن يواجهه الإنسان وهو “الحرق” فلم يتراجع، ولو مات محروقًا لكان شهيدًا، لأنه مطالب بالأصول لا بالحصول أو الوصول؛ أصول السعي إلى الحقيقة، وهي الإخلاص والتفكر والصدق والجدية والتضحية، فهذا يكفيه وينجيه، حتى لو مات قبل الوصول، فهو ملزم ببذل عناية لا بتحقيق غاية.

لا تبدأ من الصفر:

فإبراهيم عليه السلام لم ينطلق من لا شيء بل بدأ طريقه بالتفكر في الأصنام فاكتشف أنها لا تسمع، ووجد أنها لا نفع منها ولا ضُر، بل إنها لا تتحرك أساسًا ولا تنبض فيها حياة فكيف تهب الحياة للآخرين وتمنحهم العقل! ثم نظر إلى أحد الكواكب، ثم إلى القمر فالشمس فلم يجد فيهم غايته، فهلا تأملت جيدًا -مثله- فيما بين يديك أولا؟ هل أخذته من مصادره وتأملت في صدقه حقًا؟ هل كنت أمينًا في تقويمه ولم تصدر أحكامًا مسبقة، أو تأخذ أقوال بشر لا عصمة لها ولا لهم، ذريعة لتحكم على الدين من خلالها؟ لقد رأيت بعض الناس يستدلون على إلحادهم ببعض المرويات والآراء الغريبة أو الشاذة في كتب الفقه والتراث دون عرضها على القرآن وصحيح السنة، مع أنها ليست حكمًا على الدين، وقد تكون حجة لأصحابها أو عليهم.

احتكم لفطرتك:

نعم، اسمع صوتها في داخلك فأنت –كجميع الناس- مفطور على الإيمان بالله، والإحساس بوجوده، غير أن البيئة التي ينشأ فيها الإنسان قد تعوقه عن إدراك ما يؤمن به بفطرته النقية، وافعل مثلما فعل إبراهيم الخليل الذي احتكم إلى فطرته بعد أن وجد الواقع يناقضها، فإذا به يخالف كل من حوله، حتى أباه، ويتبع الحق الذي فُطر عليه.

لا تتوقف حتى يطمئن قلبك:

فقد ظل إبراهيم –عليه السلام- مستمرًا في البحث حتى بعد أن جعل الله النار له بردا وسلامًا، وبعد أن رزقه بالأبناء الأنبياء في شيخوخته (إسماعيل وإسحاق وابنه يعقوب)، فطلب منه أن يريه كيف يحيي الموتى ليطمئن قلبه، وليصل إلى مرتبة عين اليقين، وهي ما ينبغي أن تكون غايتك، أن تصل إلى درجة من الإيمان تجعلك كأنك ترى الله بنفسك!

اعلم أنك لا تهدي من أحببت:

لقد أصر أبو إبراهيم على رفض الإيمان بالله ومات على ذلك، أي أن إبراهيم لم يفلح في إقناع أبيه بدعوته! (وكذلك لم يفلح لوط عليه السلام مع زوجته، ولا نوح عليه السلام مع زوجته وابنه، ولا محمد صلى الله عليه وسلم مع عمه أبو لهب)، فأنت حين تصل إلى الحقيقة بإذن الله، هيئ نفسك لحقيقة أخرى، وهي: أنك لن تمتلك القدرة على أن تهدي من تحب بالضرورة، فالهداية من الله، وهو يهدي من يشاء من عباده وفق ما يراه سبحانه من قلوبهم ونيتهم الصالحة ورقي أخلاقهم.

إذا اتبعت كل ما سبق فادع الله لنا أن نسكن معك في عليين، لنجاور هناك خليل الرحمن وأبا الأنبياء والباحث الحق عن الحقيقة!.

______________

* المصدر: موقع الباحث عن الحقيقة (بتصرف يسير).

مواضيع ذات صلة