الانفصام الدعوي (2 /5).. مع النفس

أسلوبان للدعوة

صدقي البيك

إن سيرة نبي الله يوسف -عليه السلام- كانت نموذجًا رائعًا وأسلوبًا متميزًا للدعوة إلى الله، بسلوكه النبوي الذي يجعله قدوة لكل مؤمن يدعو إلى الله، وهذا شأن كل الأنبياء

يقف بين طريقين

تتعدد طرق الدعوة والغاية واحدة

عليهم السلام؛ فحياتهم وتصرفاتهم أسلوب عملي للدعوة، وهم بذلك قدوة ولنا فيهم أسوة.

فالدعوة إلى الله تحتاج إلى داع ومدعو، وظرف زماني ومكاني مناسب، وإلى حالة نفسية عند المدعو تحفزه إلى السماع والتلقي والقبول.

أما الداعي فهو نبي نضجت عنده الفكرة التي يدعو إليها، وحيًا من عند الله، ﴿ذَلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي﴾ [يوسف: 37]، وأما المدعو فهو كل من يفتقر إلى هذه الفكرة وهو يخلو منها ويملأ قلبه بأمور مغايرة لها لا بد من إخراجها قبل أن يتقبل صاحب القلب الفكرة الجديدة؛ ولا يكون ذلك بالعنف والإكراه، بل يكون بإظهار فساد الفكرة وضررها على صاحبها أو على المجتمع.

وأما الظرف الزماني والمكاني فيتمثل باللقاء بين الداعي والمدعو عيانًا أو سطورًا أو صوتًا أو صورة وصوتًا. وأما عنصر الحالة النفسية للمدعو فله دور أساسي في تقبُّل المدعو للفكرة الجديدة؛ وذلك إذا انفتحت نفسه، وفتح أذنيه وقلبه لما يقوله الداعي بعد الوثوق به والاطمئنان إليه، والشعور بالحاجة إليه في هذا المجال أو في مجالات أخرى.

وليوسف -عليه السلام- في سيرته -كما وردت في سورة يوسف- أسلوبان دعويان لجأ إليهما، وقد توافرت له الظروف المناسبة.

 الأسلوب الأول

فقد اعتمد فيه على الدعوة المباشرة بالكلمة والموعظة، وورد في قوله  -تعالى-: ﴿وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [يوسف: 36]. فها هو الداعي النبي، والمكان والزمان يجمعانه مع اثنين من قوم لا يؤمنون بالله، ويعبدون أربابًا متعددة، وقد وثقا برفيقهما في السجن، واطمأنا إليه من تجارب سابقة جعلتهما يحكمان عليه بالإحسان والمعرفة الصحيحة، فتوجها إليه بسؤال مَلَكَ عليهما تفكيرهما، وهو ما رأياه في منامهما من رموز واضحة لا يفهمانها؛ فهما لذلك يفتحان عيونهما وآذانهما لتتلقى ما ينطق به من تأويل لرؤييهما، ويتلهفان لمعرفة ما وراء رموزهما.

ويدرك النبي الداعية هذه الرغبة عندهما، ويدرك أيضًا أن هذا هو الوقت المناسب لعرض فكرته وعقيدته عليهما؛ فهما الآن كالأرض العطشى التي تتشوق لنزول المطر، وهما مستعدان للإصغاء إلى كل كلمة يقولها؛ ولذلك فقبل أن يجيبهما إلى ما طلباه بآية لا تزيد كلماتها على أربع عشرة كلمة، يتحدث معهما بأكثر من تسعين كلمة يذكِّرهما فيها بمواقف سابقة له معهما كان يخبرهما فيها بما سيأتيهما من طعام  ﴿قَالَ لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا﴾ [يوسف: 37] ويدعم ذلك بأن هذا من علمه الرباني ﴿ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي﴾ ليزيد وثوقهما به، ويفتح قلب كل منهما على مصراعيه لتقبُّل كل كلمة يقولها؛ ثم يعرض عليهما عقيدته التي يؤمن بها هو وآباؤه، وأنه تخلى عن ملة من كان يحيط به من أناس لا يؤمنون بالله، ويربط بين هذا العلم الرباني وبين عقيدته هذه: ﴿إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ﴾ [يوسف: 37، 38].

وهنا تأتي المرحلة التوجيهية والدعوة إلى عقيدته مباشرة، وقد هيأ كل الظروف والأجواء لتقبُّلها، فيدعوهما إلى المقارنة والموازنة بين عقيدة التوحيد لله، وبين عقيدة تعدد الآلهة التي صنعها البشر ووضعوا لها الأسماء: ﴿ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ﴾ [يوسف: 39، 40] وهو يتوقع، ونحن أيضًا نتوقع، أن يكون جوابهما (الله الواحد القهار خير). ويزيد التفصيل لهذه العقيدة؛ فالحكم بيد الله والأمر له… وهذا هو الدين القيِّم الذي يجهله كثير من الناس.

وبعد هذه المراحل الثلاث، يستجيب لطلبهما منه تأويلَ ما رأياه، ويوجز ذلك بكلمات: ﴿أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ﴾ [يوسف: 41] ولا يحدد أيهما سينجو وأيهما سيصلب، لئلا يغرس اليأس في قلب الذي سيصلب، وليبقى الاثنان متعلقين بالأمل في النجاة والحياة.

ويوسف -عليه السلام- لا ينسى نفسه وما لحق به من ظلم أدخله السجن، فيطلب ممن (ظن) وعلم أنه ناج منهما أن يذكره عند ربه (الملك)، ولعله يقصد بذلك مظلمته أو ما لديه من إمكانات علمية.

ولكن هذا الناجي شغلته فرحته بالنجاة وعودته إلى ما كان عليه من سقاية الملك الخمرة، وهذه ميدانها العبث وضعف الوعي، فنسي ما وصَّاه به يوسف عليه السلام.

ويلفت النظر أن الآيات لم تشر إلى إيمان هذا الناجي أبدًا، ولعل عدم إيمانه كان عاملا سلبيًا في تذكُّر يوسف ووصيته.

إن هذا الساقي الذي نجا وخرج من السجن لم يظهر في مجريات الأحداث ما يدل على أنه آمن، أو أن الدعوة آتت ثمارها معه؛ مع أنها قد اكتملت فيها كل مقومات تقبُّل المدعو لها؛ ولذلك على الداعي أن يدعو موفرًا عوامل القبول لدعوته، وما عليه إن لم يُستجب له.

 الأسلوب الثاني في دعوة يوسف عليه السلام

أما الأسلوب الآخر الذي لجأ إليه يوسف -عليه السلام- في الدعوة فهو أسلوب الاعتماد على الدعوة بالعمل، والتطبيق بغير كلام، ونصح ووعظ مباشر؛ وذلك عندما جاءه ﴿الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ﴾ [يوسف: 45] فبادره بالاستفتاء وطلب تأويل رؤيا، متحببًا إليه بندائه بـ﴿يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ﴾ [يوسف: 46] (وأين كانت هذه الصداقة أو التصديق في غضون بضع سنين؟).

ويصرح المستفتي أنه على عجلة من أمره؛ فالناس ينتظرون عودته بالتأويل، ويتوقون إلى المعرفة؛ والأمر يهمهم جميعًا ملكًا وملًا. ويعلم يوسف أن هناك من يترقب كلماته من علية القوم، بل الملك ومستشاروه كذلك، وهم بحاجة إليه ليحل لهم هذا الإشكال الذي شغلهم جميعًا، ومع ذلك لم يلجأ إلى الدعوة والوعظ والأسلوب الذي استعمله مع (الفتيين) في السجن، وكذلك لم يشترط عليهم إطلاقه من السجن، وهذا أبسط حق له، وقد ذكر هذا الحق رسول الله محمد – عليه السلام – بقوله: “لقد عجبت من يوسف وكرمه وصبره، والله يغفر له، حين سئل عن البقرات السمان والعجاف، ولو كنت مكانه ما أخبرتهم حتى أشترط عليهم أن يخرجوني…”. فهل أهمل يوسف أسلوب الدعوة، أم أنه لجأ إلى أسلوب آخر بغير وعظ كلامي؟! لقد وجد من فهمه للرؤيا أن الأحداث المقبلة أحداث جماعية فيها صفة الكارثة العامة، وهي إذا لم تعالج بطريقة صحيحة قد تكون نتائجها وخيمة على سكان المنطقة كلها لا على مصر وحدها؛ لذلك سارع إلى تأويل الرؤيا ووضع خطة اقتصادية سليمة تضمن حسن التصرف مع الرخاء ومع الشدة لتجنب وتجاوز الكارثة بغير خسائر.

وعندما وصل (التقرير) بتأويل الرؤيا إلى الملك أخذته الدهشة والإعجاب بالتأويل والخطة المحكمة، فأصدر أمره بإخراجه والإتيان به؛ وهكذا حصل يوسف على ما كان يمكن أن يشترطه عليهم للتأويل، من غير أن يذكر هذا الشرط. ولم يقف الأمر عند حد الإخراج من السجن، بل تجاوز ذلك إلى الإتيان به إلى حضرة الملك (ائتوني به).

ولكن يوسف -عليه السلام- لم يكتفِ بالإخراج من السجن والمثول بين يدي الملك؛ فهذا شيء مادي حصل عليه، ولا بد له من أن يحصل على شيء معنوي أهم يزيده رفعة وسموًا ونقاء في عيني الملك، فطلب البراءة من التهمة التي أُدخل السجن بسببها، فطالب بعزة المؤمن وكرامته، بالتحقيق مع النسوة اللاتي قطعن أيديهن  ﴿ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ﴾ [يوسف: 50]. ويستجيب الملك ويحقق، ويوسف لا يزال في السجن، ويعترفن ويقررن، ﴿مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ﴾ [يوسف: 51]، وتقر امرأة العزيز وتشهد له بالبراءة ﴿الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ﴾ [يوسف: 51].

وعندما وصل الملك إلى هذه النتيجة لم يكتف بإخراجه من السجن وتبرئة ساحته من التهمة، بل زاد على ذلك أن طلب أن يستخلصه لنفسه ﴿ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي﴾ [يوسف: 54].

وبذلك صار يوسف من خاصة الملك يتبوأ من الأرض حيث يشاء، وصار لدى الملك مكينًا أمينًا آمنًا مؤتمنًا، ومسؤولا عن مالية الدولة واقتصادها ومستودعات الحبوب وتخزينها وتوزيعها بالعدل… ثم عزيزًا، ثم ملكًا على مصر؛ وهذا يعني أنه تمكن من نشر العقيدة التي يحملها ويدعو إليها، ومن حكم البلاد وتطبيق أحكام دينه دين أبيه وجد أبيه إبراهيم عليه السلام؛ فقد طبقها، من حين كان عزيزًا، على أخيه  ﴿مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ﴾ [يوسف: 76]، ولذلك سأل إخوته عن عقوبة السارق في دينهم: ﴿فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ * قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ﴾ [يوسف: 74، 75] ولعل المؤمن من آل فرعون الذي كان يكتم إيمانه في عهد موسى -عليه السلام- هو من بقايا من آمن بيوسف من قبل؛ فقد ورد في قوله: ﴿وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولا﴾ [غافر: 34].

وهكذا يكون يوسف -عليه السلام- قد حقق بأسلوب الدعوة الثاني ما لم يحققه بالأسلوب الأول؛ فلم يخرج بالأول من السجن، ولم تبرأ ساحته، ولم يؤمن المدعو الذي نجا؛ في حين أنه بالأسلوب الثاني خرج وبرئ واستخلصه الملك.. وطبق أحكام شريعته، ورفع أبويه على عرش مصر…

وهكذا تفعل بعض أساليب الدعوة ما لا تفعله الأساليب الأخرى ولو توافرت لها عوامل نجاح وقبول أكثر.

———-

المصدر: موقع إسلاميات.

مواضيع ذات صلة