الانفصام الدعوي (2 /5).. مع النفس

بوشكين.. شاعر روسيا الذي اتخذ الرسول قدوته!

محمد عبدالعزيز

“ألكسند سيرغييفيتش بوشكين”.. هذا هو شاعر روسيا الأبرز، مؤسس اللغة الروسية الأدبية الحديثة، الذي اتسمت بواكير أعماله بالطابع الرومانسي، ليصبح فيما بعد من رواد

بوشكين

بوشكين

الأدب الواقعي، وتوفي إثر مبارزة وهو في عامه السابع والثلاثين.. وهذا ما يعرفه الجميع.. إلا أن جانبا آخر يغفل عنه كثيرون إما عمدا أو جهلا.. وهو علاقته بالإسلام ورسوله، وهذا ما تتناوله السطور التالية.

بين عامي 1799-1837م، رحلة قصيرة في عمر الزمن، لكنها مديدة بالنسبة لـ”بوشكين”، فقد تلقى تعليمه في معهد النبلاء للتعليم الثانوي والعالي معا، ومدة الدراسة به ست سنوات، وقد أنشأ هذا المعهد “ألكسندر الأول” لتجهيز شباب الأسر الروسية العريقة لتولي المناصب المهمة في دائرة الحكومة القيصرية مستقبلا.. بينما اتجه بوشكين في حياته الدراسية إلى حلقة من المفكرين والشعراء، ولاحظ كثير من أساتذته موهبته العالية في نظم الشعر، وتميزت أحاسيسه بالقوة، وكان محبا لعامة الشعب.. وقد أثرت سنوات دراسته في تعزيز نزعته الأدبية والسياسية. كما كتب العديد من القصائد الشعرية في أثناء دراسته بالمعهد، مثل: “أمنية ” و”العلم” و”رسالة إلى بودين”. وبعد أن تخرج أُسندت إليه وظيفة في وزارة الخارجية الروسية، وما تكاد ساعات العمل تنتهي حتى يفر إلى الأندية الأدبية والعلمية. وقد كتب بوشكين كثير من المؤلفات التي عبّرت عن الحياة الثقافية والاجتماعية لروسيا في ذلك الوقت، وانعكس حبه للحرية والعدالة في كتاباته، فكتب العديد من القصائد مثل: “الأسير القوقازي”، “الأخوة الأشرار”، “النور.. وكان متحمسًا للاتجاه العاطفي الرومانتيكي؛ لكنه ما لبث بعد فترة أن غير اتجاهه إلى الواقعية، وألَّف بعض الأعمال التي عبّرت عنها فجاءت من صميم الحياة. وتعتبر رواية “دوبرفسكي”، التي تحكي عن شاب هارب من إحدى طبقات النبلاء، أعظم ما كتب في تاريخ الأدب الروسي؛ فمن خلالها رسم صورة للحياة الروسية في بداية القرن التاسع عشر، وما كان سائدا من استبداد النبلاء واسترقاق البسطاء.

انقلاب

أراد “بوشكين” على الرغم من نشأته المترفة أن يناصر هؤلاء البسطاء، فسعى إلى إحداث تغيير جوهري في الحياة الروسية، وفي نوفمبر عام 1852 توفي “ألكسندر الأول” فجأة، وتولى “قسطنطين” الحكم، الذي تخلى عنه لأخيه “نيقولا” الذي لم يكد يعتلي العرش حتى هبت ثورة شعبية ضده كان “بوشكين” من مناصريها، ونتج عن هذه الثورة قتل بعض زعمائها ونفي آخرين إلى مجاهل سيبريا. وحاول القيصر أن يجعل من “بوشكين” شاعرا لبلاطه، وحينما فشل دبر مؤامرة للتخلص منه من خلال الزج به إلى مبارزة مع أحد النبلاء الفرنسيين، دفاعا عن شرفه في وجه شائعات مدبرة طالت زوجته “نتاليا” فقضى نحبه إثر هذه المبارزة الجائرة عام 1837 عن عمر يناهز 36 عاما.

الوجه الآخر

لكن كثيرون لا يعرفون شيئا عن جانب آخر في حياة “بوشكين”، وهو تقربه للإسلام، واتخاذ سيرة رسوله الكريم سراجا يهتدي به في مقاومته لفساد البلاط القيصري.. وتظل أشعاره محفورة في أذهان الروس وهو يقول: “كلا لن أموت.. جسمي سيفنى.. روحي ستبقى حية ما بقى على الأرض شريف واحد.. سيجتاز صيتي بلدي.. سيذكرني كل إنسان فوق الأرض.. من أقصى سيبيريا الباردة.. إلى أشد الأماكن حرارة في آسيا وإفريقيا”.. وإذا كان الروس لا ينسونه، فكيف ننساه نحن المسلمون وهو الذي وجد في قرآننا وسيرة رسولنا الكريم ملاذه ومأواه؟ كيف ننساه وهو الذي قال في رسالة بعث بها إلى أخيه من منفاه: “أنا الآن أعمل من أجل تمجيد القرآن العظيم”؟ كيف وقد وجد في قرآننا وسيرة رسولنا ضالته للتعبير عن قيم الحب والخير والجمال، وللوقوف في وجه الظلم والتكبر والاضطهاد والاستبداد؟ كيف ينسى المسلمون في أنحاء العالم اليوم الشاعر الذي جعل سيرة القائد والبطل والرسول محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم نموذجا ً للقدوة ومثالا تحتذي به النخبة والصفوة المثقفة من الروس. لقد جعل سيرة الرسول (صلى الله عليه وسلم) درسا بليغا يتعلم منه المنتمون للحركة الوطنية الصابرة على رسالتها، لدرجة جعلت “تشاداييف” عضو حركة الديسمبريين الثورية ـ وأحد الشخصيات الأثيرة لدى “بوشكين” ـ يقول: إن عظمة الرسول محمد الذي حمل لواء الدعوة الجديدة، كان لظهورها الفضل في ذلك الغليان الديني في الشرق والمحفز لنضالنا ضد الظلم.

شغفه بالقرآن

شغف بوشكين بالقرآن الكريم وتأثر به تأثرا عظيما، فأراد نقل تعاليمه وآدابه إلى قراء شعره وجماهيره الغفيرة، فكتب قصيدته الطويلة (قبسات من القرآن) وهى عبارة عن تسع مقطوعات مختلفة الطول والبحر. وفي الاقتباس الأول يذكِّر بنعم الله على الإنسان، ويدعوه إلى طريق البطولة والرجولة والنبل.. فيقول في إحدى قصائده: “ألم أسقك يوم عطشك بمياه القفار.. ألم أمنح لسانك سلطانا عظيما على العقول.. تشجع واحتقر الخداع.. والزم طريق الحقيقة بعزم.. أحبب الأيتام وانشر قرآني.. بين الخلائق الخاشعة”..

 كما يتساءل في قصيدة أخرى محاكيا القرآن الكريم عن سبب تكبر الإنسان؟ وكيف يتكبر وقد أنعم الله عليه؟ وكيف يتكبر وهناك موت وبعث وحساب؟ فيقول: “علام يتغطرس الإنسان؟.. على أنه جاء إلى الدنيا عاريا.. على أنه يستنشق دهرا قصيرا.. وأنه سيموت ضعيفا مثلما ولد ضعيفا.. ألم يعلم أن الله سيميته.. ويبعثه بمشيئته.. وأن السماء ترعى أيامه.. في السعادة وفى القدر الأليم.. ألا يعلم أن الله وهبه الثمار.. والخبز والتمر والزيتون.. ثم بارك جهوده.. فوهبه البستان والتل والحقل.. لكن الملاك سيعود مرتين.. وسيدوى على الأرض رعدا سماويا.. وسيفر الأخ من أخيه.. ويبتعد الابن عن أمه.. ويمثل الجميع أمام الله.. ويسقط الكفار.. يغطيهم اللهب والعفار”.

من الذي ينساه؟

وعلى الرغم من أنه لا توجد تأكيدات قاطعة على أن “بوشكين” اعتنق الإسلام، أم لا.. فإن مواقفه العديدة من الإسلام واقتداءه بالرسول الكريم، واسترشاده بآيات القرآن الكريم لشحذ حماس المستضعفين الروس، كل ذلك يجعل ذكراه محفورة لكل محبي قيم العدالة والحق والحرية.

——

المصدر: مجلة الوعي الشبابي

مواضيع ذات صلة