الانفصام الدعوي (2 /5).. مع النفس

ثلاث تجارب دعوية قرآنية معبرة

حمدي رحيم شعيب
تجارب دعوية

تجارب دعوية قرآنية

ذكر القرآن الكريم تجارب دعوية كثيرة ومتنوعة، حتى يستمد منها الداعية العبرة ويأخذ الدرس. وفيما يلي نقف مع ثلاث تجارب دعوية معبرة من هذه التجارب.

التجربة الأولى: الفتية أصحاب الكهف

وهي التجربة التي تحكي عن عدد من الشباب، لا نعرف عددهم ولا مكانهم تحديداً، وقد آمنوا بالله – سبحانه – وحده. وعندما بدت لهم نذر التهديد والوعيد من قبل قومهم غير المؤمنين، فروا بدينهم وآووا إلى الكهف.

وأنه قد ضرب على آذانهم في الكهف أي ناموا سنين معدودة. وأنهم بعثوا من رقدتهم الطويلة، وقد اكتُشف أمرهم، وأنه – سبحانه – أماتهم، وكان هناك فريقان يتجادلان في شأنهم. وقد ترك أمرهم بتفصيلاته لله – سبحانه -. والذي يعنينا في القصة أن هؤلاء الفتية المؤمنين، الذين فروا ذات يوم منذ مئات السنين محافظين على دينهم في عهد أحد حكامهم الظلمة، قد تناقل قصتهم الخلف عن السلف، وقد غدت تجربتهم أعجوبة في نظر الناس لأنهم من جيل قديم مضت عليه القرون.

الغريب أن السياق يفيد أن أهل المدينة أصبحوا اليوم مؤمنين، وأنهم شديدو الحفاوة بالفتية المؤمنين!

والملاحظ أن كون أهل المدينة قد أصبحوا الآن مؤمنين، يدعونا لفتح ملف مليء بالتساؤلات الكثيرة والعجيبة، منها:

ترى من دعا هؤلاء القوم فآمنوا وفي غيبة الفتية المؤمنين عن مسرح الأحداث؟

ومن هؤلاء الذين حملوا مشعل التغيير؟

ومن الذي صبر على دعوة هؤلاء القوم حتى آمنوا؟

ومن هؤلاء الذين أكملوا المسيرة بنجاح؟

ثم من هؤلاء الذين شرفوا باقتطاف الثمرة؟

بالطبع إنهم دعاة غير هؤلاء الفتية الذين آووا إلى كهفهم ذات يوم. وقد آثروا العزلة، وذلك بعد أن قاموا بدور طليعي رائد ومشكور، وهو إشعال شرارة الرفض وعدم قبول الواقع، ثم ذهبوا.

حتى جاء من يقوم باستكمال العملية التغييرية، ويستدرك خطأ الانعزال والتقوقع.

وهو بالطبع جيل آخر، ذو طبيعة بنائية إيجابية جيل التحدي والمواجهة، جيل اقتطاف الثمرة.

التجربة الثانية: يونس بن متى عليه السلام

وقد سمي ذا النون أي صاحب الحوت لأن الحوت التقمه ثم نبذه. وقصة ذلك النبي أنه أُرسل إلى قرية فدعا أهلها إلى الله فاستعصوا عليه، فضاق بهم صدراً، وغادرهم مغاضباً، ولم يصبر على معاناة الدعوة معهم. وقاده غضبه الجامح، إلى شاطئ البحر، فوجد سفينة مشحونة فركب فيها. حتى إذا كانت في اللجة ثقلت، وقال ربانها: إنه لابد من إلقاء أحد ركابها في البحر لينجو سائر من فيها من الغرق.

فاستهموا أي أجروا قرعة فيما بينهم فجاء السهم على يونس، فألقوه أو ألقى هو بنفسه. فالتقمه الحوت، مضيقاً عليه أشد الضيق!. فلما كان في الظلمات: ظلمة جوف الحوت، وظلمة البحر، وظلمة الليل نادى: {أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين} [الأنبياء: 87].

فاستجاب الله دعاءه، ونجاه من الغم الذي هو فيه. ولفظه الحوت على الساحل)(1).

والذي يهمنا في القصة هو ما جاء في السياق القرآني حول موقف القوم بعد رحيل يونس – عليه السلام – مغضاباً {فآمنوا فمتعناهم إلى حين} [الصافات: 148] لقد شعروا بأن بوادر ما أنذروا به من غضبه وعقابه – سبحانه وتعالى – عليهم قد ظهرت في الأفق، فخافوا، وآمنوا أجمعين، واستغفروا، وطلبوا العفو من الله فاستجاب ولم ينزل بهم عذاب المكذبين. وكانوا مائة ألف يزيدون ولا ينقصون. وكان هذا اللطف منه – سبحانه -، بعبده المؤمن يونس – عليه السلام – الذي زكاه حبيبنا – صلى الله عليه وسلم -: فقال: “لا ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى”(2) “ما ينبغي لنبي أن يقول: أنا خير من يونس بن متى”(3).

وهي تجربة تفجر قضية أو إشكالية الاستمرارية في العمل الدعوي، أو أهمية سياسة النفس الطويل لحاملي مشعل الخير.

وتطرح الكثير من التساؤلات منها:

لماذا لا يصبر الداعية على عوائق مهمته؟

لماذا يرى الأمور من نظرة أحادية؟

هل المقدمات دوماً تؤدي إلى نتائج متوقعة؟

إذا كانت أقداره – سبحانه – تفسر بالسنن الإلهية الكونية والاجتماعية فهل لها نمطية معينة ثابتة لا تتغير؟

التجربة الثالثة: موسى عليه السلام

ونقصد بها ما حدث مع موسى – عليه السلام – عندما صعد الجبل وترك قومه في أسفله، وترك عليهم هارون – عليه السلام – نائباً عنه، وغلبه الشوق لملاقاة ربه، فتعجل اللقاء، ولم يشفع له حسن النية في الخلوة بربه، {وما أعجلك عن قومك يا موسى * قال هم أولاء على أثري وعجلت إليك رب لترضى * قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري * فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي} [طه : 83- 86].

فإذا كان الأنبياء -عليهم السلام- قد حُفظوا بالعصمة، وكان المجال الوحيد لتلاعب المبطلين، ولغواية السامريين هو نفوس تابعيهم؛ فإن الداعية، وهو الوارث لمنهج النبوة، وهو المحروم من تلك العصمة عليه أن يحذر أرتال السامريين، الذين يطلون عبر أجهزة الإعلام والفضائيات، وشبكات الإنترنت والمتربصين بنفسه، وبأهله، وبالمدعوين، إذا انشغل، أو غاب عنهم، ولن تشفع له نيته الحسنة، ولا سمو مهمته”(4).

درس تربوي عظيم من تجارب دعوية ملهمة

وبتأمل تلك التجارب، نستشعر هذا الملمح التربوي الكبير.

وهو أن قدر الله – عز وجل – سيأتي يوماً ما، وأن ما نراه غريباً ومستحيلاً اليوم، سيغدو مألوفاً غداً.

وقدره – سبحانه – قد لا تحده مقدمات يُستَقرأ منها.

وأن التغيير قادم بنا أو بغيرنا، وهو سنة كونية، حسب سنة المداولة: {وتلك الأيام نداولها بين الناس} [آل عمران140].

وأن لكل من شارك في شرف حمل اللواء دوراً. وإن لم نشارك، فسيشارك غيرنا. وأن النتيجة تبنى على قدر البذل.

وسيقتطف الثمرة، بإذنه – سبحانه – من يستحق شرف القيام بهذا الدور التكميلي العظيم: {وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم} [محمد : 38].

* بتصرف من موقع “مداد”.

——–

الهوامش:

(1) في ظلال القرآن: سيد قطب 17-2393

(2) صحيح الجامع: الألباني 4336

(3) صحيح الجامع: الألباني 5821

(4) تذكرة الدعاة: البهي الخولي 266.

 

 

مواضيع ذات صلة