أجرى الحوار: هاني صلاح
“المسجد في الغرب يجب ألا يكون فقط للصلاة والعبادة؛ بل مركز مجتمعي يخدم الجميع دون استثناء”.. بهذه الرؤية، شدد الداعية والناشط محمد كزبر رئيس مجلس أمناء مسجد فينسبري بارك بشمال لندن، على أهمية تفعيل الدور الحضاري للمسجد في الغرب من خلال التفاعل اليومي مع قضايا المجتمع بشكل إيجابي فعال يساهم في تطويره والارتقاء بأبنائه جميعاً دون تفرقة أو استثناء.
جاء ذلك في حوار مع “المجتمع”، عن دور المسجد إزاء المجتمع البريطاني غير المسلم، والحوار يلقي الضوء على أدوار التواصل والتعاون بين إدارة مسجد فينسبري بارك بشمال لندن، مع مؤسسات وشرائح المجتمع البريطاني غير المسلم.
محمد كزبر.. في سطور:
لبناني الأصل من مدينة صيدا الجنوبية، حضر لبريطانيا بداية الثمانينيات لتحصيل العلم واستقر فيها منذ ذلك الحين، حصل على درجة الماجستير في إدارة المؤسسات الخيرية من جامعة سانت ماري بلندن، يعمل حالياً بمجال العقارات، يشرف على مسجد فينسبري بارك في لندن، الذي يعتبر من أهم مساجد بريطانيا بصفته رئيس مجلس أمنائه.
في بداية حوارنا، نود إطلالة سريعة حول ظروف حضوركم لبريطانيا، وكيف سارت بكم الأمور لاحقاً؟
– حضرت إلى بريطانيا لتحصيل العلم واضطررت للبقاء بها بسبب الحرب الأهلية في لبنان آنذاك، فاستقررت في مدينة ليدز في شمال إنجلترا وبعدها انتقلت إلى لندن، عملت في المجال الدعوي والخيري منذ مجيئي حيث كنت مديراً لمؤسسة إسلام إكسبو للمعارض الإسلامية وأشرفت على مؤتمراتها وكنت نائباً لرئيس الرابطة الإسلامية في بريطانيا، وأنا حالياً أيضاً رئيس مجلس أمناء لمؤسسة خيرية تعنى بمساعدة الطلاب المسلمين في بريطانيا وعضو في الهيئة العامة للمجلس الإسلامي البريطاني الذي ينضوي تحت مظلته أكثر من 500 مسجد ومنظمة إسلامية.
لمسجد فينسبري بارك، أهمية ومكانة خاصة، فهل من نبذة تعريفية عنه؟
– مسجد فينسبري بارك بشمال لندن، يعتبر من أهم مساجد بريطانيا، وتم بناؤه بداية التسعينيات من قبل الجالية البنجالية ومساعدة باقي الجاليات المسلمة، حيث بدأ يتوافد على المنطقة أعداد متزايدة من الجالية المسلمة ومن مختلف الجنسيات.
المسجد عبارة عن 5 طوابق يسع لحوالي ألفي مصلٍّ، ويشمل قاعة متعددة الاستعمال من محاضرات لنادٍ للشباب لملتقيات مع غير المسلمين، وأيضاً حفلات الأعياد وأنشطة المختلفة، كما لدينا قاعة للنساء ومدرسة للأطفال لتعليم اللغة العربية والقرآن الكريم.
مر المسجد بمراحل مختلفة منذ نشأته حيث حصلت بعض المشكلات خلال أواخر التسعينيات إلى سنة 2005م، عندما قامت مجموعة صغيرة من المتطرفين بالاستيلاء على المسجد؛ مما أدى لخلافات كبيرة داخل الجالية، وأيضاً مع المجتمع المحلي البريطاني وجيران المسجد، وقام الإعلام المنحاز ضد المسلمين باستغلال هذا الأمر وتشويه صورة الإسلام والمسلمين من خلال الأحداث المؤسفة التي حصلت آنذاك، ولكن تم إخراج هذه المجموعة وإعادة المسجد للجالية بداية عام 2005، ومنذ ذلك التاريخ والمسجد أصبح مركزاً إسلامياً منفتحاً على الجميع.
ماذا عن المنطقة التي يقع فيها وأهميتها؟
– يقع المسجد في منطقة إزلنغتون بشمال لندن، وهي منطقة متعددة الثقافات، عدد سكانها حوالي 215000 نسمة، ويسكنها عدد كبير من الجاليات المختلفة بما فيها الجالية المسلمة حيث تتجاوز نسبة المسلمين 10%، وفيها عدد من المساجد لديها دور مهم بالانفتاح على المجتمع البريطاني والتعريف بالإسلام الوسطي السمح.
كمنارة إسلامية بلندن، ما أبرز الأنشطة التعريفية بالإسلام التي يقوم بها مسجدكم؟
– طبعاً للمسجد أهمية قصوى في حياة المسلم، وتتضاعف أهميته في بلاد الاغتراب، بحيث يصبح المسجد الحاضن لأفراد الجالية حيث يجمعهم في الأفراح والأتراح، ويعلم أبناءهم القرآن الكريم وأمور دينهم ولغتهم، ويؤمن لهم البيئة الآمنة بعيداً عن التطرف والغلو، وأيضاً بعيداً عن الجرائم والمخدرات وغيرها من الآفات الموجودة في المجتمعات الغربية، حيث يقوم مسجدنا في تأمين كل هذه الاحتياجات لجاليتنا.
وعودة لسؤالكم، بالتأكيد هناك مسؤولية كبيرة لتعريف غير المسلمين بالإسلام والترحيب بهم في المسجد، وكما ذكرت فإنه ليس مسجداً فقط، ولكن مركزاً مجتمعياً يخدم الجاليات جميعها بما فيها غير المسلمين ويتفاعل مع من حوله.
ومن أبرز الأنشطة التي نقوم بها في هذا المجال تنظيم اليوم المفتوح السنوي لغير المسلمين للتعرف بالإسلام، وتشمل الزيارة المعارض الإسلامية، جولة حول المسجد، فقرة استفسارات، تقديم هدايا وكتيبات عن الإسلام ومصحف مترجم للغة الإنجليزية، كما نتيح المجال لشركائنا من البلدية والشرطة وبعض المؤسسات الخيرية وحتى نوادٍ رياضية كأرسنال لكرة القدم بوضع طاولات خلال اليوم المفتوح للتعريف بخدماتها للجالية.
هذه المبادرة يشرف عليها المجلس الإسلامي البريطاني، ويشارك فيها سنوياً أكثر من 200 مسجد في يوم واحد، وللتوضيح فإن مسجدنا يقوم بهذه المبادرة منذ أكثر من 10 سنوات، ويحضرها المئات من غير المسلمين ومعظمهم يخرج بانطباع أكثر إيجابية عن الإسلام.
أيضاً لدينا الزيارات المفتوحة للمدارس البريطانية للمسجد، حيث يزورنا مدرسة كل أسبوعين تقريباً، وهذا له أهمية كبيرة كون هؤلاء الطلاب مستقبل هذه البلاد.
ماذا عن التواصل مع المؤسسات الدينية للشرائع الأخرى؟
– المسجد عضو مؤسس بمنتدى الأديان بمنطقة إزلنغتون، الذي يشمل مختلف الديانات المتواجدة بالمنطقة، واستطعنا تقديم أخت لتشغل نائبة رئيسة المنتدى، كما نقوم باستضافة كثير من لقاءاته الدورية بالمسجد ويتم مناقشة مشكلات تواجه بعض الجاليات خاصة المسلمة حيث إنها الأكثر تعرضاً للاعتداءات.
ويقوم المنتدى بدور مهم في تقريب الديانات من بعضها بعضاً من خلال المؤتمرات الجماعية لمناقشة قضايا تهم الجميع مثل “الإسلاموفوبيا” والكراهية والإلحاد، أيضاً هموم الشباب ومشكلاتهم وغيرها من القضايا، وكان لهذا المنتدى دور كبير بالتصدي للهجوم الإرهابي الذي وقع أمام مسجدنا ضد المصلين المسلمين عند خروجهم من صلاة التراويح خلال رمضان السنة الماضية.
كيف تقيمون حصاد هذا الدور التواصلي؟
– حصاد مشاركة المسجد ومؤسسات إسلامية أخرى بمثل هذه المنتديات مهم جداً؛ فقد استطعنا تقديم نماذج جيدة عن شخصية المسلم المنفتح على الآخر، المتسامح مع الغير، البعيد عن العنف والكراهية كما يصور الإعلام؛ مما جعل لهذا المنتدى دوراً كبيراً في الوقوف بوجه ظاهرة “الإسلاموفوبيا”، والتصدي لحالات كثيرة تم الاعتداء فيها على المسلمين، ومن خلاله استطعنا كسب عدد كبير من الأصدقاء الجدد، بالإضافة لتحييد عدد لا بأس به من الأعداء والخصوم.
في القضايا المجتمعية والمشكلات التي تواجه المجتمع البريطاني.. ماذا عن مشاركة مسجدكم؟
– لمسجدنا دور كبير في خدمة الجالية المسلمة بشكل خاص، وعموم الجاليات بشكل عام, وقد ساهم مسجدنا بمواجهة بعض المشكلات التي واجهت أبناء المنطقة بمن فيهم المسلمون.
فعلى سبيل المثال؛ يقوم المركز ومنذ سنوات بإعداد وجبات ساخنة أسبوعية للمشردين الذين ليس لديهم مأوى، ويحضره العشرات منهم، كما نأمن لهم أجواء الراحة ولعب كرة الطاولة وطاولة السنوكر، وهناك فقرة لتأمين الإرشادات اللازمة من خلال متخصصين لتأمين المأوى المناسب وقسائم الطعام وتأمين ظروف أفضل لهم.
ولدينا نادٍ رياضي أسبوعي للشباب والبنات؛ حيث نقوم بتأمين الجو الآمن لهم بعيداً عن الجريمة والمخدرات وأيضاً الوقوع في آفة التطرف والغلو.
كما يقوم المركز بالمساهمة بمعالجة قضايا مثل البيئة والتغير المناخي وذلك من خلال الدورات والندوات.
وفي اليوم العالمي للتبرع بالدم ينظم المركز حملات توعية للجالية ويقوم بالتنسيق مع الجهات الطبية المختصة بحملات مباشرة للتبرع بالدم بالمركز.
أيضاً قام المركز باستضافة لقاءات عديدة لمناقشة ظاهرة الكراهية وكيفية مواجهتها، وكان يحضرها أطياف عديدة من الجاليات المختلفة، وأيضاً السياسيين وأعضاء برلمانية وبلدية وقد استضفنا رئيسة الوزراء تيريزا ماي وعضو البرلمان بالمنطقة ورئيس حزب العمال الحالي جيرمي كوربن ووزراء آخرين بالمركز.
أيضاً يقوم المركز بعمل دورات لتعليم اللغة الإنجليزية والكمبيوتر لأفراد الجالية وتم تخريج العديد منهم.
وفي شهر رمضان ندعو أصدقاءنا السياسيين والإعلاميين وقيادات الجالية والأديان لمشاركتنا بأحد الإفطارات، وتكون فرصة لإلقاء بعض الكلمات.
كذلك كنا أول مركز إسلامي في بريطانيا يقوم بتنظيم إفطار عام في الشارع خارج المركز، وحضره هذا العام أكثر من ألفي شخص معظمهم من غير المسلمين، وألقيت عدة كلمات بالمناسبة من بعض رجال السياسة والإعلام والدين وغطته معظم وسائل الإعلام البريطانية.
هل تواجهكم عقبات في دور مسجدكم المجتمعي؟
– لا شك أن هناك تحديات تواجه عمل المسجد، خاصة بسبب تصاعد حملة الكراهية ضد المسلمين في أوساط اليمين المتطرف، والذي يزداد قوة وانتشاراً وأيضاً حملات التشويه المستمرة بالإعلام وربط العنف بالإسلام؛ مما يؤدي أحياناً لاعتداءات مباشرة.
ما أبرز الإنجازات التي تحققت في الدور المجتمعي حتى اليوم؟
– هناك إنجازات كثيرة تحققت منذ أن عاد هذا المسجد لدوره، ليس فقط لخدمة الجالية المسلمة ولكن لخدمة المجتمع بشكل عام، وذلك من خلال الانفتاح على هذا المجتمع والمتعطش لمعرفة المزيد عن الإسلام.
فقد قام المسجد بعدة مشاريع مجتمعية مثل اليوم المفتوح لغير المسلمين الذي يشارك به المئات، أيضاً استضافة المشردين كل أسبوع وإعداد الطعام والترفيه عنهم.
كما ينظم المسجد لقاءات دورية للتقريب بين الأديان ويحضره أفراد من الديانات المختلفة خاصة المسيحية واليهودية، كما نقوم بزيارات ونستقبل المدارس للتعريف بالإسلام ويتم استقبال وفود من الجامعات والمعاهد وأيضاً من الشرطة والبلديات لمناقشة قضايا مختلفة مثل الكراهية والبطالة والتمييز العنصري والجريمة والتطرف وغيرها من القضايا التي تهم المجتمع البريطاني بشكل عام.
ماذا عن رؤيتكم المستقبلية لتطوير الدور المجتمعي للمسجد؟
– المسجد في الغرب يجب ألا يكون فقط للصلاة والعبادة؛ وإنما مركز مجتمعي يخدم الجميع بدون استثناء، جسر للتواصل بين الأديان، منارة للعلم والمعرفة، بجانب كونه مكاناً للقاء الجاليات المسلمة للتواصل ولتعليم الأطفال أمور دينهم ولغتهم.
فالمسجد مكان للعبادة، ومدرسة للتعلم، ونادٍ رياضي للشباب، وملتقى لحل المشكلات الاجتماعية بين أفراد الجالية، ومركز تلاقي للنساء، وتعد لجنة النساء من أكثر اللجان نشاطاً مع غير المسلمين من النساء؛ حيث يتم ترتيب لقاءات وزيارات دورية مشتركة.
في ختام حوارنا، هل تودون إرسال رسالة عبر “المجتمع”؟
– إخوانكم في الغرب وفي بريطانيا على وجه الخصوص يقومون بدور فاعل ومحوري للتعريف بالإسلام والذود عنه وتغيير الصورة النمطية السلبية عن الإسلام والمسلمين بالرغم من التحديات والصعوبات الجمة التي يواجهونها.
وهناك إصرار على بناء المؤسسات والمساجد بتلك البلاد وتأمين الأرضية الصلبة لأجيال المسلمين القادمة لإكمال المسيرة؛ فنحن موجودون بهذه البلاد لنبقى خاصة أن معظمنا يحمل جنسية تلك البلاد.
لذا رسالتنا لشبابنا وبناتنا الذين ولدوا وترعرعوا بهذه البلاد أن يعملوا لتوطين الدعوة، وأن يشعروا بالفخر لأنهم مسلمون، وأيضاً بريطانيون، فليس هناك تعارض على الإطلاق، وعلى مسلمي الغرب أن يعلموا بأن مسؤوليتهم مضاعفة تجاه دينهم، وأن الله سبحانه وتعالى اختارهم لنشر كلمة الحق في تلك البلاد.