الانفصام الدعوي (2 /5).. مع النفس

رجل الأمة.. العلامة عبدالعزيز بن باز

أسامة شحادة**

لعل كلمة الناس في عصرنا لم تجتمع بالثناء والمدح على رجل كما اجتمعت على العلامة ابن باز، فقد كان له من المحبة والتعظيم والاحترام

ابن باز

العلامة ابن باز

في قلوب الجميع من العامة والعلماء والأمراء والحكام، الموافق والمخالف، فالكل كان يرى فيه مثال القدوة والنموذج وكأنه قادم إلينا من عصر الصحابة والتابعين، رفع الله قدره وأنزله منازل الصديقين والشهداء.

وهو لم يصل لهذه المكانة إلا بفضل الله عز وجل أولاً ثم بهمة عالية ومبادرة إيجابية وانفتاح على الجميع مع صدق في النصيحة لهم، وهو ما سنفصل الحديث فيه لاحقاً.

وقد كان الشيخ ابن باز ضمن أبرز علماء القرن العشرين بحسب استطلاع مجلة الأهرام العربي المصرية سنة 1999م.

والكثير من شباب السنة اليوم يعظمون الشيخ ابن باز ولكنهم لا يعرفون حقيقة سيرته ودوره وأدواره التي قام بها وكيف صار له هذا القبول بين الناس بفضل الله عز وجل.

باز يصيد ولا يصاد *** له الذرى فوق الوهاد

باز يجنح في القلوب *** سكنت يا باز الفؤاد

باز ولا يدمي الجراح *** إذا هوى شيئاً أجاد

مولده وأسرته

 الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز، ولد عام 1330هـ في الرياض لعائلة عريقة في العلم، فمن علماء العائلة الشيخ عبد المحسن بن أحمد آل باز المتوفى سنة 1923م الذي تولى القضاء بالحوطة ثم الإرشاد في هجرة الأرطاوية. والشيخ مبارك بن عبد المحسن بن باز والشيخ حسين بن عثمان بن باز، وقد تولوا القضاء في عدد من مناطق المملكة.

وهناك خلاف في أصل عائلة ابن باز، ولم يجزم الشيخ عبدالعزيز بشيء مما يتردد من أن أصلهم من المدينة أو اليمن.

نشأته وتعلمه

 نشأ ابن باز يتيماً في كفالة والدته لأن والده توفي وهو صغير، وقد رعته مع أخيه محمد وأخيه غير الشقيق إبراهيم، وشجعته على التعلم فحفظ القرآن الكريم قبل سن البلوغ، ثم طلب علوم الشريعة واللغة على العلماء في الرياض، فدرس على الشيخ محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسين بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله، وعلى الشيخ صالح بن عبد العزيز بن عبد الرحمن بن حسين بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب. والشيخ سعد بن حمد بن عتيق، والشيخ حمد بن فارس، ودرس على الشيخ سعد بن وقاص البخاري – من علماء مكة المكرمة – وأخذ عنه علم التجويد في عام 1355 هـ، وبعد ذلك لازم أبرز شيوخه وهو سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ. والذي لازمه نحواً من عشر سنوات، وتلقى عنه جميع العلوم الشرعية وكان يبكي إذا جاءت سيرته.

وفي سن السادسة عشرة عام 1346هـ مرض في عينيه فضعف بصره وحاول علاجه، وفي عام 1350هـ حين بلغ قريباً من سن العشرين فقد بصره واختار الله عز وجل له أن يأخذ منه حبيبتيه، وعوضه خيراً منهما في الدنيا والآخرة إن شاء الله، ويروى أن إحدى صديقات والدة الشيخ نصحتها بالوضوء وصلاة ركعتين والدعاء لعبد العزيز بأن يرزقه الله علماً ينفعه وينفع المسلمين، ويبدو أن الله عز وجل قد استجاب لدعاء والدة الشيخ.

وبقي ابن باز يطلب العلم حتى وفاته من خلال القراءة والبحث ومن خلال استماعه واستفصاله الدقيق للخبراء في ندوات وجلسات المجامع الفقهية التي كان يشارك فيها أو يرأسها.

بداية مشواره العملي والدعوي

1-  تولي القضاء بالخرج:

يروي الشيخ ابن باز في إحدى مقابلاته أنه وهو صغير مارس بيع وشراء الملابس والبشوت في الأسواق الشعبية (الحراج) مع أخيه، ولكن الله عز وجل اختار للشيخ مساراً آخر ولعل إصابته بالعمى تكون سبباً لترك البيع والشراء والتفرغ للعلم والنبوغ فيه!

ففي سنة 1357هـ وكان عمره آنذاك 27 عاماَ كلفه شيخه محمد بن إبراهيم بولاية القضاء في مدينة الدلم بمحافظة الخرج، فقبل مكرها، ومكث في ذلك 14 عاما حتى سنة 1371هـ، وقد ترك خلفه في الدلم ذكريات عطرة وقدوة عملية لطلبة العلم والدعاة.

ولم يقتصر دوره هناك على القضاء الذي طوره ونظمه، ولا على التعليم الذي لم ينقطع عنه، بل كان للشيخ أدوار إصلاحية متعددة أخرى.

كان ابن باز في البداية يجلس في بيته للقضاء والفصل بين الناس من الضحى حتى صلاة الظهر وربما جلس أحيانا للقضاء بعد صلاة العصر، ثم اشترى بيتاً وجعله مقراً للمحكمة وجعل فيه حجرة للرجال وحجرة للنساء لها نافذة على مجلسه يسمع منها شكواهن، وحجرة صغيرة خلف مجلسه للكاتب جعل فيها طاقة ليسمع الكاتب توجيهاته.

وكان رحمه الله أول من أنشأ سجلات للأوقاف والتركات في الدلم، وقد أصبح كتبة الشيخ في المحكمة من كبار طلابه. وكان الشيخ متفانياً في عمله حريصاً على خدمة الناس ومساعدتهم، ويروي أحد مساعدي الشيخ قصة مؤثرة تكشف لنا أسباب مكانة الشيخ ابن باز في قلوب الناس ومدى تأثيره على المجتمع، يقول الشيخ سعيد بن عياش الغامدي رئيس محاكم خميس مشيط: كنت كاتبا عند الشيخ عبدالعزيز في الدلم وكان الشيخ دائما لا يخرج حتى ينتهي آخر مراجع ويؤخرنا كثيرا وفي ذات يوم أغلقنا السجلات وهممت بالخروج، فدخل بدوي فقال الشيخ: نجلس نسمع ما يريد، فقلت: يا شيخ الدوام انتهي، قال: نسمع من الرجل، فقلت: الساعة ثلاثة، فقال: نسمع ما يريد لعله قدم من مكان بعيد، فغضبت لذلك غضبا شديدا وضربت الشيخ على رأسه بدفتر السجلات، ثم هربت، وبعد عدة أيام رجعت للشيخ واعتذرت منه فقبل اعتذاري وكأن شيئا لم يكن، وطلبت العلم ودرست حتى دخلت القضاء وصرت رئيس محكمة خميس مشيط.

وتعلمت من الشيخ أمورا منها: الصبر على المراجعين وتحمل أذاهم، وفي ذات يوم دخل مراجع بعد نهاية الدوام وقد أغلق الكاتب السجلات فطلبت منه فتح السجل وسماع ما عند الرجل فغضب الكاتب، وقال: الدوام انتهى، فقلت له: نسمع من الرجل لعله قدم من مكان بعيد، فما شعرت وإلا والكاتب يضربني على رأسي بدفتر السجلات، فتذكرت موقفي مع الشيخ رحمه الله وهرب الرجل من المحكمة وبعد أيام أرسلتُ في طلبه وأخبرتُ الرسول أنني قد عفوت عنه.

هكذا كان تأثير الشيخ ابن باز وهكذا ملك قلوب الناس، فليكن لطلاب الشيخ اليوم به قدوة بالصبر على الناس ومخالطتهم.

وحين جاء الدلم لم يكن بها هيئة حكومية فقام بكل مهمات الدولة، فتولى الشيخ شق الطرق التي تسهل حياة الناس بوصول السيارات لبيوتهم وبساتينهم. وحين جاءت الفيضانات سنة 1360هـ تولى مهمة قيادة الناس وإيجاد الحلول، فأمر أن توجه السيول إلى الآبار التي قرب المساجد والأوقاف وتهدم الأسوار حولها، وأمر بفتح بعض الشوارع على بعض لتخفيف حدة السيل ومعاقبة من يرفض بالسجن، وقد خرج الشيخ بنفسه يشجع الناس وأخذ معه دلات القهوة والتمر لينشطهم على العمل.

ولما هاجم الجراد المنطقة سنة 1364هـ خرج الشيخ مع الأهالي لمكافحته وقتله بجريد النخل. وكان في مواسم الحصاد يخرج للفلاحين يشجعهم على الزراعة ويوجههم ويساعدهم في إحضار الماكينات لتسهيل الزراعة.

وأيضاً تولى صيانة مساجد المنطقة وترميمها، وبعضها أمر بهدمه وإعادة بنائه، وكان يهتم بأعضاء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويشجعهم على الجولات، ويقول لهم: “لوكنت مبصراً لسعيت معكم”.

وعندما توفي أمير الدلم سنة 1367هـ بادر الشيخ لجمع وجهاء الأهالي لاختيار أمير لهم كما كان العرف، وفعلاً اتفقوا على أمير، وكتب الشيخ للملك يعلمه باختيار الأهالي وأقر الملك اختيارهم.

وتولى في الدلم أيضاً الإمامة والخطابة والتدريس، فيدرس بعد الفجر أولاً حلقة للصغار، ثم حلقة للمتقدمين إلى وقت الضحى، فيعود للمنزل يرتاح قليلاً ثم يباشر القضاء إلى صلاة الظهر، وبعد العصر له درس، ثم يخرج لبعض البساتين فتُقرأ عليه الصحف والمجلات والمعاملات حتى قبيل المغرب، وبين العشاءين له درس، وفي هذه الدروس كان يتابع أدق شؤون الطلبة ويرعاهم كأبنائه.

وسعى الشيخ لأن تفتح الدولة عددا من المدارس النظامية في المنطقة، وتم ذلك سنة 1367هـ وعهد للشيخ ابن باز أن يرشح لها المدير والمعلمين، وقام الشيخ بحثّ الناس على إلحاق أبنائهم بالمدارس لمحاربة الأمية والجهل ونشر العلم والمعرفة، وتشجيعاً للطلاب خرج الشيخ معهم في رحلة على حسابه الشخصي.

وكان يخرج للسوق يومي الإثنين والخميس حيث يحضر للسوق الحضر والبدو والرجال والنساء فيجلس يدرسهم ويرشدهم وينصحهم ويحل مشاكلهم.

وهذا الدور الإصلاحي المبكر للشيخ ابن باز جعل من دروسه قبلة لطلبة العلم، فأصبح الطلبة يتوافدون على دروس الشيخ من الدلم وخارج الدلم ومن جنسيات مختلفة كاليمن ومصر وفلسطين والعراق وغيرها، فسعى الشيخ مبكرأ لرعاية طلبته، وكتب لولي العهد آنذاك الأمير سعود بن عبد العزيز بتأمين سكن لهم وتخصيص مكافآت مالية شهرية لهم لتشجيعهم على مواصلة الدراسة، وهو الأمر الذي أصبح سياسة عامة للدولة السعودية لليوم برعاية الطلبة في الجامعات والمعاهد.

وحين تتأمل خطاب الشيخ لولي العهد تجده ينطلق من رؤية إصلاحية عالمية تدرك واقع المسلمين وأزمتهم الحضارية، يقول ابن باز: “معلومكم ما أصيب به المسلمون من قلة حملة العلم الشرعي وقلة طلابه الحقيقيين لأسباب كثيرة، منها:

ضعف الداعي القلبي الإيماني إلى طلبه، ومنها قلة المساعدة المادية لمن قد يوجد فيه رغبة في الطلب في غالب البلدان التي يوجد فيها معلم، ومنها قلة المشجع والمُرغب في الطلب باللسان والمال”، وهذا الخطاب كتبه الشيخ في سنة 1368هـ، أي قبل 65 سنة!!

2- العودة للرياض والتدريس بالمعهد العلمي:

في عام 1372هـ أمره الشيخ ابن إبراهيم بالعودة للرياض والتدريس بالمعهد العلمي فيها، ثم بكلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود سنة 1373هـ، وبقي هناك 9 سنوات حتى سنة 1380هـ.

وفي هذه المرحلة درَس على يد الشيخ الكثيرُ من علماء السعودية اليوم، حيث دّرس العقيدة والحديث والفقه والنحو، وكان متميزاً في طريقة شرحه السهلة والغنية، ومتميزاً بسعة علمه وقوة ذاكرته، وكان قريباً من طلبته يرعاهم ويوجههم، ومن هنا تجد عظم محبة الشيخ في قلوب طلابه وتلاميذه واستشعارهم لأبوته لهم.

وبعد دوام الكلية كانت له دروس ولقاءات سجل بعض مواقفها الشيخ عمر الأشقر في كتابه “حياتي” رحم الله الجميع.

ومن قصص حسن تعامله مع طلبته حتى المشاكسين وأثر ذلك عليهم، ما رواه أبو عبدالرحمن بن عقيل الظاهري، فقال: لما التحقتُ بالمعهد العالي للقضاء كنت ذا هيئة غير هيئة الطلبة … وكان أهل الخير يوصلون ذلك لسماحته، فلا يرد عليهم بغير الدعاء لي بالهداية، وفي الأسئلة التحريرية النهائية كانت أجوبتي مخزية في مادة الحديث التي يُدرسها، وكنت أغطي جهلي بالتقعر والتفلسف، ونجحت في المادة نجاحاً على غير ما ينبغي .. وعلم من أهل الخير أن تلك أجوبتي، فاشتد حزنه وتقريعه، ولم يرتح إلي إلا منذ عام 1406هـ تقريباً عندما أقلعت عن خزعبلات الفن، وأذن لي بخطاب رسمي بتدريس “صحيح البخاري” في مسجد سلطانة، وإنما أراد رحمه الله جري إلى الحديث وعلومه.

والشيخ معروف بالكرم وحبه للبذل، وقد يظن البعض أن هذا حصل بعد أن وسع الله عليه وتولى المناصب، ولكن معاصريه يقولون إن هذا شيء قديم في الشيخ مذ كان طالباً فكان يدعو زملاءه للأكل معه، ويروي أحد علماء أرتيريا موقفا له مع الشيخ، فيقول: وصلتُ الرياض الثالثة فجراً في ليلة شاتية ولم يكن عندي مال لأنزل في فندق فترددت أن أذهب لبيت ابن باز، ثم ذهبت ووقفت عند منزله الطيني ولمست الباب فسمعني أحد الضيوف النائمين ففتح لي، فسلمت همساً حتى لا أزعج أحداً، فما هي إلا لحظة حتى أقبل الشيخ بنفسه نازلاً من الدرج معه طعام تقوده امرأته من خلفه، فسلم وقال: أظنك لم تأكل هذه الليلة، فوالله ما طرق النوم عيني من البكاء على هذا الموقف النبيل.

وإبان رئاسته للجامعة الإسلامية كان راتبه خمسة آلاف   ريال وكان يصرف جلّه على الفقراء وذوي الحاجات قبل نهاية الشهر، بل كان الشيخ يستدين راتبه مقدماً لعدة أشهر، ومرة كانت زوجة الشيخ مسافرة فطلب الشيخ من مساعده شراء طعام لضيوف عنده، فأخبره بعدم وجود مال عند الشيخ، فقال: اقترض من أحد المطاعم القريبة ثم نسدد له، فقال له: كل المطاعم القريبة اقترضنا منها! فقال: اذهب والله ييسر لك، فذهب ويسر الله لهم طعاما تلك الليلة.

وحاول الملك فيصل ـمساعدة الشيخ على سداد ديونه لأنها من جراء صدقاته ومساعدة الآخرين فأمر وزير المالية أن يرسل للشيخ شيكا قدره مائة ألف ريال، لكن الشيخ رفض بشدة قبول المبلغ إلا على شرط أن يكون دينا عليه يخصم من راتبه بمعدل ألفي ريال شهريا، فأرسل الوزير للملك فقبل بذلك فأخذ الشيخ المبلغ.

  3- الانتقال للمدينة المنورة:

في سنة 1381هـ سنة افتتحت الجامعة الإسلامية وعُين الشيخ ابن باز نائبا لرئيس الجامعة الشيخ محمد بن إبراهيم، وبقي في هذا المنصب حتى عام 1390هـ حيث تولى رئاسة الجامعة وبقي حتى عام 1395هـ.

وتعد هذه الفترة من أخصب فترات حياة الشيخ لأنها نشرت علمه وفضله في العالم كله، من خلال الطلبة الذين تعلموا على يديه من مختلف أنحاء العالم، ومن خلال المدرسين المتميزين والمتنوعين الذين استدعتهم الجامعة، ومن خلال ضيوف المدينة المنورة من وجهاء العالم الإسلامي وأعلامه.

ومع عنايته بالطلبة في دروسه بالجامعة وخارج الجامعة إلا أنه كان أيضاً يتفقد أداء المدرسين فيزور الفصول ويستمع لتدريس المعلمين ويوجههم، ويتفقد أحوالهم ويساعدهم ويحثهم على بذل المزيد من الجهد في التعليم والتربية، وكان يطلب من المدرسين تقديم الاقتراحات لتطوير الجامعة وتحسين أدائها، وكان يتابع بنفسه المحاضرات العامة الأسبوعية التي تعقد بالجامعة للمدرسين بها أو لبعض الضيوف.

وكان يهتم بأوائل الطلبة فيجعلهم دعاة متفرغين في بلدانهم، وحرص على توفير ميزانية كبيرة لنشر الكتب والمراجع بين الطلبة، وكان الشيخ يرعى نشاطات الطلبة الدعوية الأسبوعية في التجول للدعوة على مساجد المدينة المنورة، ويشارك معهم في الرحلة الشهرية للمدن بين المدينة ومكة حيث ينصب مخيم كبير تقام فيه الدروس والمحاضرات، ويشارك في هذه الرحلات كثير من طلبة الجامعة وموظفيها وأساتذة الجامعة كالشيخ الألباني والشيخ عطية سالم، وقد كان هذا المخيم تدريبا عمليا للطلبة للخطابة والتدريس والوعظ بإشراف المشايخ وخاصة ابن باز الذي كان يوجه الطلبة ويصحح لهم أسلوب ومضمون الدعوة والعلم والموعظة، كما ذكر ذلك الشيخان الأشقر وعبدالرحمن عبدالخالق.

وكانت للشيخ دروس غير منتظمة في المسجد النبوي في صحيحي البخاري ومسلم، وكان يدرس في مسجد الجامعة، وكذلك في بيته، ولكن أعظم مجالسه تلك التي كانت ندوات علمية يشارك فيها ابن باز والألباني والشنقيطي، فقد كانت مجالس نادرة، ويعلق الشيخ الأشقر فيقول: وقد حضرتُ بعض المجالس التي جمعت المشايخ الثلاثة، ودار فيها حوار حول بعض المسائل العلمية أو الكونية، فكنتَ ترى من كل واحد من العلم والاستدلال ما يبهر العقول ويطرب النفوس، وكم تمنيت أن تكون تلك اللقاءات سجلت أو دونت.

ويقول الشيخ عبدالرحمن عبدالخالق عن هذه الندوات: وكانت هناك جلسة في دار الحديث لهؤلاء المشايخ للنقاش والمناظرة تستمر من بعد صلاة العشاء إلى منتصف الليل أحياناً، وكان يأتي كثير من طلاب العلم في هذه الجلسات، … وكان النقاش علمياً بين المشايخ بأدلته، وأحياناً نحتاج لإنزال الكتب عن الرفوف والرجوع إليها، فكانت هذه المناظرات والمناقشات حلقات علمية بالمعنى الكامل لحلقات العلم. أ.هـ

 وهذه اللقاءات كشفت عن علو كعب الشيخ ابن باز في علم الحديث، وهذا أمر شهد له حتى الشيخ الألباني، فيروى الشيخ محمد لقمان السلفي مرافق الشيخ أن ابن باز حضر محاضرة للشيخ الألباني ثم علق عليها وأبدى ملاحظات علمية دقيقة في علوم الحديث سنداً ومتناً، وبعدها شكره الشيخ الألباني واعترف له بغزارة العلم؛ وفي حادثة أخرى كان الشيخ الألباني يقرأ حديثاً بحضور ابن باز فذكر أحد شيوخ الراوي الذي يقرأ له، فصوبه الشيخ ابن باز مِن حفظه، ولما سئل عن ذلك، قال: هذا الذي قرأه الشيخ ناصر خطأ، وفلان الذي ذكره ليس من شيوخ ذلك الراوي.

وكان نتاج هذا كله أن أصبح للشيخ ابن باز وإخوانه من العلماء السلفيين سفراء في كل العالم ينشرون علمه وفضله ومنهجه السلفي الرائق، والذين كانوا ركائز أساسية للصحوة السلفية التي نعيشها اليوم.

ولذلك كان وقع خبر انتقال الشيخ للرياض كالصاعقة على نفوس الطلبة والمعلمين، وقد وصف الشيخ محمد المجذوب اجتماع الناس على الشيخ لوداعه بوصف مؤثر، اكتفي منه ببيتين قالهما في هذه المناسبة:

بكينا وفاء لامرئ قلّ أن يرى *** له في الدعاة العاملين نظير

فخلوا ملامي إن ألح بي البكا *** فإن فراق الصالحين عسير

 4- العودة للرياض ورئاسة إدارة البحوث العلمية ثم منصب المفتي العام وهيئة كبار العلماء:

عاد الشيخ للرياض سنة 1395هـ وتولى رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء والإرشاد، وفي سنة 1414هـ عين مفتياً عاماً للمملكة مع رئاسته لهيئة كبار العلماء، وإدارة البحوث، وبقي في منصبه حتى وفاته سنة 1420هـ.

ومع تميز الشيخ العلمي فإن الجميع يشهد له أيضا بأنه كان إداريا ناجحاً، يتابع أدق التفاصيل ولا تتراكم عنده الملفات بل الإنجاز هو صفته، وكان موفقاً في إدارة وقته واستغلاله على أكبر قدر ممكن، فقد كان يستغل حتى ركوبه في السيارة لقراءة بعض المعاملات أو كتب العلم، بل حتى مشيه للمسجد أو المكتب أو حتى للوضوء كان يستغله في إنجاز شيء نافع ومطلوب!

وبرغم كل هذه المناصب إلا أن الشيخ بقي محافظاً على طلبه للعلم وتدريسه له، فقد كان له دروس يومية وأسبوعية مستمرة، بخلاف الندوات والمؤتمرات والمحاضرات.

وكان برنامجه يبدأ قبل صلاة الفجر وينتهي بعد العشاء على النحو التالي:

يبدأ برنامجه بالتهجد قبل صلاة الفجر، وغالباً ما يكون عنده درس بعد الفجر إلى طلوع الشمس، ثم يعود للبيت فيفطر وربما ارتاح قليلاً؛ ثم يذهب إلى مكتبه من التاسعة حتى الثانية والنصف، فيعود للبيت للغداء مع ضيوفه وهذه عادته من عشرات السنين، وبعد صلاة العصر ربما ألقى كلمة وأحياناً يستريح قليلاً، وبعد المغرب تُعرض عليه المعاملات ويستقبل الاتصالات والزوار ويُقرأ عليه بعض الكتب العلمية، إلى ما بعد العشاء، ولا يخلد للنوم إلا قرابة الثانية عشرة.

وكان الشيخ يحب مخالطة المساكين، ولذلك كان إذا طُلب منه إبعاد المساكين عنه في الغداء وتخصيص مكان للشيخ وكبار الضيوف للغداء، وللمساكين من العمال المغتربين والعامة مكان آخر، يغضب ويقول: مسكين مسكين صاحب هذا الرأي، هذا لم يتلذذ بالجلوس مع المساكين والأكل مع الفقراء، أنا سأستمر على هذا وليس عندي خصوصيات، والذي يستطيع أن يجلس معي أنا وهؤلاء الفقراء والمساكين يجلس، والذي لا يعجبه وتأبى نفسه فليس بمجبور على ذلك.

وفي مرة من المرات على الغداء وكان عنده أحد العلماء سأل الشيخُ عن أحد الخدم عنده هل جاء للغداء فقيل له لم يأت بعد، فأخذ الشيخ يناديه حتى جاء، فسأل الضيف: هذا ولد الشيخ؟ فقيل له: هذا الخادم الذي يغسل الأطباق، فبكى من تواضع الشيخ وزهده.

وقد جاء أستاذ في العلوم السياسية من جامعة كوينز بكندا وهو مسلم من أصل باكستاني للسعودية لدراسة النهضة الإسلامية وطلب زيارة الشيخ ابن باز، وحين سئل عن انطباعاته عن زيارته قال: السياسة في جذورها وفروعها وأركانها كانت موجودة في مكتب الشيخ، فصوت رنين الهواتف العديدة لا ينقطع ما دام الشيخ موجودا، والمتصلون من العامة والمسؤولون، رجالا ونساء، من الداخل والخارج، وأن في هذا دليلا على قوة الإسلام وتمتعه بقوة اجتماعية قادرة على اختراق قاعدة المجتمع بالكامل وأن الناس كانت تنتظر التوجيه من الشيخ ليس في الدين فحسب بل في كل معاملاتهم وعلاقاتهم. وهذه شهادة من عالم في السياسة والاجتماع عن حقيقة الدور الذي يجب أن يقوم به العلماء وهو ما وفق الله عز وجل ابن باز له.

وقد كان ابن باز مع كل هذه الانشغالات عضوا ورئيساً فاعلاً لعدد من المؤسسات الدعوية مثل:

–       رئيس المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي.

–       رئيس المجمع الفقهي الإسلامي بمكة.

–       عضو المجلس الأعلى للجامعة الإسلامية في المدينة المنورة.

–       عضو الهيئة العليا للدعوة الإسلامية.

–       عضو المجلس الاستشاري للندوة العالمية للشباب الإسلامي.

–       عضو الصندوق الدائم للتنمية الشبابية.

طلاب الشيخ

 لا يمكن إحصاء طلاب الشيخ من داخل المملكة وخارجها لكثرتهم، فمن المملكة:

الشيخ محمد بن عثيمين والشيخ عبد الله بن جبرين والشيخ عبد العزيز الراجحي والشيخ عبد العزيز السدحان والشيخ عبد الله بن قعود والشيخ سعد بن تركي الخثلان والشيخ عبد الله العتيبي والشيخ عبد العزيز المشعل والشيخ عبد الله بن عبد المحسن التركي والشيخ صالح الأطرم والشيخ عبد الرحمن البراك والشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الشثري والشيخ عبد العزيز آل سليمان والشيخ بدر بن ناصر البدر والشيخ الدكتور محمد بن إبراهيم الحمد والشيخ عبد الله العبود والشيخ الدكتور عبد الله الشتوي والشيخ علي أبا الخيل والشيخ علي المري.

ومن خارج المملكة:

الشيخ عطية محمد سالم والشيخ أبو بكر الجزائري والشيخ محمد أمان الجامي والشيخ محمد المجذوب والشيخ محمد لقمان السلفي والشيخ عدنان العرعور والشيخ عمر الأشقر والشيخ عبدالرحمن عبدالخالق والشيخ محمد المغراوي.

وفاته رحمه الله

 بقي الشيخ إلى يومه الأخير بل ساعاته الأخيرة يعمل على خدمة الناس وقضاء حوائجهم، فبرغم بلوغه سن التسعين ومرضه في أيامه الأخيرة، إلا أنه كان حتى في المستشفى يطلب قراءة المعاملات عليه!

بل لما خرج من المستشفى رفض العودة للبيت وذهب للمكتب وعاد في وقت الغداء وتغدى مع الضيوف من المساكين والزوار، واستقبل الناس بعد المغرب فشفع لبعض الناس وأفتى لأحدهم في قضية طلاق، وصدر بيان من اللجنة الدائمة بخصوص قضايا المرأة في 25 محرم 1420ه.

وفي ليلة وفاة الشيخ قام بنفسه قبل الفجر فتوضأ وصلى ثم اضطجع، ثم جلس وتبسم وسألته زوجته: هل تريد شيئا؟ فلم يجبها، واضطجع مرة أخرى ولكن كان صوت نفسه في صدره مسموعا، فنادت ولدها أحمد، فجاء وكلم الشيخ فلم يرد عليه، فنقله للمستشفى لكن الشيخ كان قد أسلم الروح لربه، فتوفي في 27 محرم 1420ه.

وكانت جنازته رحمه الله جنازة مهيبة لعله لم يُر في العصر الحديث مثيلاً لها، وهذا من المبشرات للشيخ وقد رؤيت فيه منامات صالحة كثيرة، وصُلي عليه في الحرم المكي يوم الجمعة 28 محرم.

محطات متفرقة من حياة الشيخ

* يتميز الشيخ بخصال كثيرة لكن من أهمها:

1- حرصه على خدمة المسلمين حتى آخر لحظة في حياته.

2- مبادرته دوماً لتقديم حل للمشاكل التي تعرض عليه، فيبادر بالكتابة للمسؤولين، أو توجيه النصيحة لصاحب الشأن أو البذل والعطاء من ماله.

3- انفتاحه على كل المسلمين وتواصله معهم مع النصح لهم فيما يرى أنهم مخطئون فيه، ومساعدتهم وعونهم والتعاون معهم في جوانب الخير.

 * للشيخ عناية زائدة بقضية تحكيم الشريعة فكان يخاطب الرؤساء والملوك دوما في مناسبات عامة وخاصة ويطلب منهم تحكيم الشريعة، مثل نصيحته لعموم الحكام والعلماء بتطبيق الشريعة، ورسالته للملك الحسين حين عدل عن إقامة تمثال له في ميدان عام سنة 1417هـ، فكتب إليه ابن باز: “بلغني … أن جلالتكم قد منع إقامة تمثال لكم في عمان، فسرني ذلك كثيراً، وشكرت لجلالتكم هذا العمل، ورأيت الكتابة إلى جلالتكم في ذلك شاكراً وراجياً من جلالتكم إصدار الأمر الكريم بتحكيم الشريعة المطهرة في المملكة الأردنية الهاشمية في جميع الشئون، كما حكم بها جدكم أفضل الخلق محمد صلى الله عليه وسلم…”.

وكذلك رسالته للرئيس الباكستاني ضياء الحق يهنئه فيها على قرار تطبيق الشريعة الإسلامية في باكستان.

 * من قصص بذله في سبيل الله، أنه كان يستدين لينفق على بعض أوجه الخير ورعاية الفقراء والدعاة، وفي مرة جاء أحد قادة المجاهدين الأفغان لطلب المساعدة في شراء غرض مهم للجهاد، فقام الشيخ ببيع غرض مهم من أغراضه الخاصة وقدم له المال.

 * كان للشيخ عناية بقضايا المسلمين كفلسطين، وغزو أفغانستان، والصومال، والأكراد، والبوسنة والهرسك وكوسوفا، وأفريقيا، وهدم المسجد البابري بالهند، والشيشان، وكان يتابع أخبارهم ويدعمهم بالمال والشفاعة وغيرها، وألف كتابه (الجهاد) للدفاع عن قضايا المسلمين وضرورة الجهاد.

 * كان للشيخ عناية بإقامة المؤسسات الدعوية في العالم وحتى الغرب من وقت مبكر، فهو من سعى لتوفير الدعم لمسجد مركز إسلامي بباريس ومسجد لندن سنة 1984م. وحين مُنح الشيخ جائزة الملك فيصل العالمية وهي جائزة مالية ضخمة قبلها ومنحها لدار الحديث الخيرية بمكة، وقد اعتنى الشيخ بدار الحديث من ناحية المباني والمدرسين والميزانية حتى أصبحت شهادتها تعادل الشهادة الجامعية.

 * كان الشيخ مناصراً دائماً للعلماء، فما أن يبلغه حاجة واحد منهم أو تعرضه لموقف يحتاج فيه إلى إعانة إلا وكتب للمسؤولين في إعانته وورفع الحرج عنه، فهو قد طلب إيقاظ ولي العهد الأمير عبدالله بن عبد العزيز في منتصف الليل لإيقاف إعدام عدد من المشايخ والدعاة في الصومال، وكتب للملك الحسين بخصوص عدم ترحيل العلامة الألباني من الأردن، وكتب لأمير الكويت بخصوص قبول عودة الشيخ محمد الأشقر والشيخ عمر الأشقر للكويت بعد تحريرها، وله شفاعات كثيرة في هذا الشأن.

 * كان الشيخ على علاقة ومعرفة بكثير من علماء العصر ورموز الحركة الإسلامية مثل أبي الأعلى المودودي وأبي الحسن الندوي ومحمد الغزالي ومحمد متولي الشعراوي ومحمود الصواف.

 * كانت للشيخ مراسلات كثيرة مع ملوك ورؤساء عصره بخصوص القضايا الإسلامية: الملك فيصل، ضياء الحق، صدام حسين، معمر القذافي، بو رقيبة، الملك حسين.

 * اهتمام الشيخ بقضايا الإعلام، فكثيرا ما كتب ونصح وحذر من التجاوزات الإعلامية في المملكة وخارجها، وكان حريصاً على وجود منابر إعلامية شريفة ونزيهة ومحافظة.

 * كان الشيخ يتصدى لأية مخالفة للشريعة خاصة إذا كانت تسن كقانون ولو خارج المملكة، ولذلك كتب منبهاً على خطأ مشروع قانون الأحوال الشخصية في الإمارات والذي حاول تحديد سن الزواج بـ 18 سنة للزوج و16 سنة للزوجة، وذلك قبل 30 سنة، والأمة لليوم لا تزال تتعرض للضغوط الغربية واليسارية والعلمانية للعبث بقوانين الأحوال الشخصية، مما يدلنا على الوعي المبكر للشيخ تجاه المؤامرات التي تحاك للأمة الإسلامية والأسرة المسلمة والتي هي عماد الأمة.

 * كان الشيخ ابن باز حائط صد متقدما لكثير من المخططات التغريبية للمجتمع السعودي والأمة بعامة، فها هو في سنة 1399ه يحذر من دعوات بعض المؤسسات الأمريكية للشباب السعودي للسفر لأوروبا وأمريكا والمكسيك في رحلات صيفية، وقد ظهرت خطورة مثل هذه الرحلات على الشباب المسلم بما نراه من ضياع كثير من المبتعثين للدراسة أو الذين يسافرون للسياحة بدون رقيب ولا حسيب.

 * ومن هذا الدور المبكر للشيخ في حماية المجتمعات الإسلامية من الغزو الفكري والسلوكي، تصدّيه لدعوة العلمانيين للمرأة بالعمل والاختلاط في كل الميادين، بتحريم هذا العمل والاختلاط والذي أصبحت نتائجه المدمرة على الأسرة والمجتمع والشباب والشابات ظاهرة اليوم.

 * كان للشيخ مواقف مشهودة في التصدي لموجة المد القومي والناصري، فتصدى لها في خطبه ودروسه وألف كتابه (نقد القومية العربية).

 * كان الشيخ ابن باز مستشاراً لكثير من الدعاة والقادة في الجماعات الإسلامية في ما يواجههم من تحديات، يقول المستشار عبدالله العقيل عن نصائح ابن باز للدعاة: أما زياراتي الخاصة له في بيته ومكتبه والاستعانة به في طرق العلاج لما يواجه المسلمين من مشكلات خاصة وعامة في أقطارهم ومع حكامهم للأخذ بالحلول الحكيمة الناجحة في علاج المشكلات فهي أكثر من أن تحصر.

—–

مراجع للتوسع:

– موسوعة إمام المسلمين في القرن العشرين سماحة الشيخ العلامة عبدالعزيز بن عبدالله بن باز، جمع عبدالعزيز أسعد، مؤسسة الريان والمكتبة الإسلامية، ط 1، 2007.

– الإمام ابن باز دروس ومواقف وعبر، عبدالعزيز السدحان، الدار الأثرية، مصر، ط 1، 2011.

– الشيخ ابن باز، كتيب مجلة العربية رقم 27، 1999م.

– صفحات من حياتي، د. عمر الأشقر، دار النفائس، عمان، ط 1 ، 2010.

– من أعلام الدعوة والحركة الإسلامية، المستشار عبد الله العقيل، ط 7 ، 2008.

– علماء ومفكرون عرفتهم، محمد المجذوب، دار الشواف، الرياض، ط4 ، 1992م.

———

 ** المصدر: الراصد.

مواضيع ذات صلة