الانفصام الدعوي (2 /5).. مع النفس

غزوة بدر.. الفرقان الإستراتيجي والميلاد الحقيقي

كدير مراد

ولدت دولة الإسلام بقيادة نبوية عظيمة يوم بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم المجتمع الأول، وبنى مؤسسات الدولة الفتية في المدينة المنورة. لقد كانت الهجرة ميلادا جديدا للبشرية أيضا بنقلها من البهيمية الجاهلية للاصطفاء الرباني في قيادة العالم والشهود الحضاري على الأمم الأخرى.

ولدت دولة الإسلام الفتية مرتين، مرة يوم الهجرة ببناء مؤسسات الدولة الاجتماعية والفكرية والسياسية، ومرة ثانية يوم غزوة بدر بظهور القوة الإسلامية الفتية وبناء المؤسسة العسكرية قليلة التجربة قوية البأس متينة التخطيط. ومن خلال تأكيد الحضور الاستراتيجي الجديد لدولة الإسلام في الجزيرة العربية.

إن المتدبر للوصف القرآني لغزوة بدر بـ”الفرقان” يؤمن إيمانا عميقا أن الغزوة فرقت بين مرحلتين مختلفتين أيما اختلاف في سيرة رسول الله وتاريخ الدولة الإسلامية الجديدة، بأن كانت فرقانا استراتيجيا عميقا في نواحي الحياة المتعددة الاجتماعية الديموغرافية، السياسية والجيوسياسية، الاقتصادية التجارية والعسكرية الأمنية.

1- أسرار النصر والتمكين في غزوة بدر:

إن الناظر نظرة متفحصة في السيرة النبوية والمستقرئ لمجتمع الصحابة الأول الذي كان وقود النصر في غزوة بدر الكبرى، يعرف كل المعرفة أن فقها نبويا عظيما في الإعداد والبناء وفق خطة تراكمية واضحة المعالم والأهداف وجلية الوسائل والأدوات كانت الممهد للوصول للقابلية للنصر التي تسبق العطاء الرباني بالإمداد. فالقانون الرباني يؤكد ارتباطا وثيقا بين ثنائيات: الاهتداء والهدى والإعداد والإمداد والجهاد والتمكين {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}.

 أ‌- الخطة النبوية في البناء الاجتماعي:

لقد رسخ رسول الله صلى الله عليه وسلم فكر البناء بالسير على السنن الربانية والنواميس الكونية، في بناء المجتمعات القوية التي تسبق مرحلة بناء الدول. أيقن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن معيار النصر على مستوى الدول والمجتمعات لن يكون إلا بالاستثمار في بناء الإنسان بناء يغيره بطريقة لا رجعة فيها، وتأهيله اجتماعيا، وجعله لبنة للبناء القوي لمجتمع الريادة وصناعة جيل التمكين.

انطلقت مرحلة الإعداد التراكمية المرحلية منذ الفترة المكية، إذ راعى رسول الله صلى الله عليه وسلم سنن التدرج في التغيير بالمطابقة مع الواقع السياسي والاجتماعي الذي عاش فيه أفراد الإسلام في مكة.

كانت قاعدة البناء الإعداد التربوي والروحي الذي انطلق من بيت الشاب الأرقم بن أبي الأرقم، فكان الأكاديمية النبوية التي خرجت شبابا مؤمنا برسالة الإسلام أنها المغيرة لعالم الجاهلية الرجعي البدائي، موقنا أن النصر من عند الله وأن الاهتداء إلى طريق الصواب لن يكون إلا بالإيمان العميق.

لقد كان البناء الفكري دعامة أخرى غيرت منهجية التفكير البليدة التي أنتجتها النظم الجاهلية وحولتها إلى منهجية التغيير والإصلاح. بعد التأهيل الفردي العميق انتقلت فكرة التوحيد من مكان انطلاقها إلى جغرافية خصبة جديدة مدت يدها لحماية الفكرة وبل الاستعداد التام من أجل التضحية من أجلها فكانت الهجرة النبوية كمعلم تاريخي جديد للإسلام.

انطلق رسول الله في بناء المجتمع الجديد بجمع العوالم الثلاث (عالم الأفكار، وعالم الأشخاص، وعالم الأشياء) وربطه بمركز قوي وبناء اجتماعي عظيم ينطلق من المسجد كنواة اجتماعية لتحقيق الروابط الاجتماعية المحددة لشكل المجتمع الجديد.

تقوت الرابطة الاجتماعية بديناميكية التآخي بين الأوس والخزرج سباقا وبين المهاجرين والأنصار لحاقا. لكن لكل مجتمع تحدي لكي يولد كما يقول عالم الاجتماع البريطاني توينبي فكان التحدي غزوة بدر الكبرى.

ب‌- الإعداد السياسي:

لقد بنى رسول الله مؤسسات الدولة الفتية وأعد المجتمع الأول من ناحية الفكر السياسي والممارسة السياسية منذ الفترة المكية من خلال التفاعل مع الأوضاع الدولية بين الفرس والروم التي حدثت رحاها في مركز قيادة العالم بيت المقدس ومن خلال الرسائل الديبلوماسية النبوية لحكام المنطقة والعالم. هذا الإعداد المعرفي السياسي أكسب الصحابة فهما دقيقا للواقع المعاش المحيطة وبأفق التغيير.

لم يكن الله عز وجل يأذن للمؤمنين بمباشرة العمل العسكري قبل اكتمال البناء وهذا من جزيل نعم الله على المجتمع الأول رغم المطالبات الحثيثة من الصحابة بالانتقال للربط العسكري. لما اكتمل الإعداد ووصل الفساد والعلو القرشي قمته كانت المعركة التي اذنت بظهور الإسلام كقوة سياسية واجتماعية واقتصادية جديدة في المنطقة.

2-  الفرقان الاستراتيجي والميلاد الحقيقي:

في هذه الغزوة المباركة كانت أول معركة بين الحق المظلوم المفترى عليه المستضعف أهله التي انتقلت من مقام الأفراد إلى مكانة الدولة والباطل المستكثر المتعجرف الفرح بما لديه من قوة وجبروت، الظالم لنفسه وللعباد الظهير السند للعدو الكبير الشيطان عليه لعنة الله. لم تكن أول معركة بين الحق والباطل في التاريخ البشري لكنها كانت أول اختبار عسكري للدولة الإسلامية الحديثة النشأة.

في ذكرى هذه الغزوة نتذكر التحول التاريخي والفرقان بين مرحلة الاستضعاف ومرحلة المجاراة بعد توازن قوى الردع والشهود على بداية التمكين للإسلام والحق وميلاد حقيقي لدولة كاملة الأركان بتشكل الجيش الإسلامي الجديد.

أ‌- التحول السياسي والجيوسياسي:

عرف انتصار دولة الإسلام بعد معركة بدر الميلاد الحقيقي للدولة الإسلامية التي أصبحت مهابة في شبة الجزيرة العربية وعند قبائلها بهزمها القبيلة المركزية القوية اجتماعيا بسيادتها على البيت واقتصاديا بتملكها لإيلاف التجارة الشتوية والصيفية بين اليمن والشام وحتى العسكرية بقوتها الصلبة العصية على الغلبة.

لقد كان تشكل دولة نظيفة قوية القيم منطلقا لتخطيط قبائل قطع الطرق بهدف استهداف الدولة الفتية وقيادة ثورة مضادة إلا أن غزوة بدر قتلت الدوافع النفسية لهذه القبائل من جهة لكن حتمت عليها المواجهة المباشرة مثل قبائل بني سليم التي اندثرت بمجرد اعلان نيتها الإغارة على المدينة.

اكتملت مؤسسات الدولة الإسلامية الفتية بتشكل المؤسسة العسكرية التي تحوي انتيليجنسيا قيادية متمرسة ساهمت من خلال قيمة الشورى إلى الوصول إلى النسخة المطورة للجيش الإسلامي الأول خلال مرحلة الإعداد للمعركة.

أدت غزوة بدر إلى إحكام السيطرة على شمال مكة والطريق التجارية الحساسة المؤدية إلى الشام، مما أدى إلى تحقيق مكانة استراتيجية والوصول إلى قوة اقتصادية ضاغطة وصلت إلى حد الحصار الاقتصادي على قبائل قريش التي تعتمد كل الاعتماد على الطريق الاقتصادي البري الرابط بين الشام واليمن. حتى أن اقترح عليهم صفوان بن أمية أخذ طريق العراق الصعب والطويل كآخر خيار يحول دون الكساد الاقتصادي وانقطاع التجارة الاستراتجية التي يعتمد عليها العالم البشري أجمع بعد انقطاع طريق الحرير الشمالي وغلق البحر الأحمر.

ب‌- التحول العسكري:

لقد أنتجت غزوة بدر خبرة عسكرية في التخطيط الاستراتيجي من خلال وسائل تكتيكية جديدة رغم الضعف اللوجيستي والعددي للصحابة أمام جيش المشركين، وساهم في ذلك الإعداد البشري التكتيكي من خلال: التوزيع النوعي للجيش، العيون المعادلة لنظام الجوسسة والمخابرات، نظام الصف، الإعداد النفسي، تكييف المناخ، استغلال ارهاق الخصم، الاستثمار المعرفي للأسرى.

ت‌- التحول الاجتماعي:

تحقيق الانتصار النفسي والمعنوي الضروري لمواصلة البناء الاجتماعي والحضاري، مع استعادة للحقوق المهضومة وإعادة الاعتبار للشخصية الإسلامية والمجتمع الإسلامي الجديد.

ظهور طائفة المنافقين التي لم تكن لتظهر لولا القوة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعسكرية للدولة الوليدة.

التحول في البناء الحضاري من دال الدعوة الفردية الاجتماعية الى دال الدولة والمؤسسات الدعوية من خلال الغزوات والسرايا والفتوح.

——-

* المصدر: مدونات الجزيرة.

مواضيع ذات صلة